وافق الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء على منح أربعة آلاف عقد تمليك للمستحقين من أهالى النوبة فى مشروع خزان أسوان ويشمل العقد تمليك الأراضى والمنازل المقامة عليها، وتخصيص 7300 فدان فى توشكى كتعويض عن الأراضى الزراعية للنوبيين غير المقيمين وقت بناء السد العالى. ريشة : فاطمة حسن والجدير بالذكر أن د. شرف طلب إعداد حوار مع أهالى النوبة لمناقشة كل القضايا والمشاكل الخاصة بهم. لتكون هذه الخطوة من أهم إنجازات الثورة فى حل مشاكل سكان مصر على الحدود، ولكن ما أبعاد مشكلة النوبيين أهل طيبة الطيبين؟ «النوبة» جزء من مصر وإقليم من أقاليمه الخمسة «الدلتا والوادى وشبه جزيرة سيناء والصحراء الشرقية والغربية»، وهى أقاليم تتباين ولا تختلف.. تتكامل ولا تفترق.. تعيش جميعها فى كنف دولة واحدة تحمى جذورها وتضمن أمان واستقرار أهلها لينعموا بخيرات أرضهم الطيبة وليبدعوا على مر الزمان، والمصريون يدركون عقلا وقلبا أنهم أبناء وطن واحد لا فرق بين شماله وجنوبه غير أن جغرافية النوبة وشدة تأصل التقاليد المتوازنة والهدوء الذى تكلفه العزلة الكاملة عن بقية قرى وادى النيل خلقت أنماطا من الحياة تواطأت عوامل الطبيعة والتاريخ واللون واللغة على أن تحتفظ بوحدتها وأصالتها آلاف السنين. بلاد النوبة ميز المصريون القدماء بين ما نعرفه الآن بالنوبة السفلى «المصرية» الواقعة بين الجندلين الأول والثانى ودعوها «وادات» والنوبة العليا «السودانية» الممتدة إلى الجنوب من الجندل الثانى وحتى قرب الخرطوم ودعوها «كوش».. ومن ناحية أخرى ميز المصريون بين النوبيين الذين استقروا على ضفتى النيل واحترفوا الزراعة والرعى وأسموهم «نحسيو» وبين القبائل شبه البدوية، التى كانت تنتقل فى الصحراء الشرقية بين النهر والبحر الأحمر ودعوهم «مجايو» وهم الذين تنحدر من أصلابهم قبائل البجة فى الزمن الحالى.. ولم تكن النوبة فى يوم من الأيام معزولة عن مصر، فالنيل كان ولايزال يربطهما معا ربطا متينا وشعبهما ينتمى إلى نفس العناصر العرقية، وما نراه الآن من اندماج عدد كبير من أهل النوبة فى أقاليم مصر شمالا وشرقا وغربا والارتباط بسكانها والزواج منهم والعيش داخل كبرى المدن واعتلاء مناصب مهمة فى الدولة والنجاح فى شتى المجالات «فن.. أدب.. رياضة»، يثبت وبدون شعارات أن النوبة جزء لا يتجزأ من مصر وفى الوقت نفسه حرص النوبيون على الحفاظ على تراثهم وإبقائه حيا فهو من أهم العوامل التى حافظت على كيان المجتمع وعلى اللغة والهوية النوبية. وجدير بالذكر أن المجتمع النوبى يتحدث اللغة النوبية التى تنقسم إلى لهجتين فرعيتين فى النطق فقط مع اتحادهما فى حروف الكتابة وترتيب الجملة والقواعد وكثير من جذور الكلمات وهاتان اللهجتان الفرعيتان هما «لهجة الماتوكى» المنتشرة فى قرى الكنوز شمال النوبة ومنطقة دنقلة فى أقصى جنوب النوبة فى شمال السودان.. و«لهجة الفاديجا» أو المحسية المنتشرة فى قرى الفاديجا بمصر وأيضا فى وادى حلفا وقرى السكوت وقرى المحسى بشمال السودان. الهجرة الأولى فى عام 1902 كان إنشاء خزان أسوان، وكانت بلاد النوبة وقتها تتكون من 39 قرية تمتد على طول 350 ك مع نهر النيل من أسوان إلى حدود السودان، ومع الإنشاء بدأ ارتفاع منسوب المياه خلف الخزان فترتب عليه غرق عشر قرى وبعد عشرة أعوام أى عام 1912م كانت التعلية الأولى لخزان أسوان فارتفع منسوب المياه، واستمر فى الارتفاع حتى عام 1932، حين تقررت التعلية الثانية للخزان فكان مع ارتفاع منسوب المياه أن قضى على ثمانى عشرة قرية نوبية وسمى وقتذاك بالطوفان. فاضطروا إلى بناء مساكنهم فوق قمم الجبال المحيطة بقراهم ووصل بعضهم جنوبا واستقر فى القرى التى لم تتعرض للغرق مثل قرية توشكى ورحل بعضهم شمالا واتخذوا لأنفسهم مواطن جديدة شمال مدينة أسوان وفى السويس والإسماعيلية والقاهرة والإسكندرية وبعض المدن الأخرى المصرية ورفضوا اقتراح الحكومة المصرية وقتذاك بضم النوبة المصرية إلى النوبة السودانية وفضلوا أن يظلوا بالنوبة المصرية ولا ينتقلوا للأراضى السودانية رغم المأساة التى عاش فيها أهل النوبة بعد الطوفان الذى وصفه الكاتب النوبى الكبير فى روايته العظيمة «الشمندورة» محمد خليل قاسم التى نشرت فى مجلة «صباح الخير» فيقول: جاءت تعلية خزان أسوان الأولى والثانية لتحطم الصمت الذى تعيش فيه هذه المجتمعات ودفعتها إلى البحث عن مكان آخر، وكانت مأساة للذين تركوا بيوتهم ونخيلهم وذكرياتهم وموتاهم لينجوا من الطوفان ولم يكن أمامهم خيار ولا تعويضات إلا «قرش صاغ» عن النخلة وجنيه عن البيت! والنتيجة دائما أن تندفع القرية إلى موقع آخر يعلو على مياه النيل لتواصل الحياة من جديد، بلا أرض ولا مال، وعلى الرجال القادرين أن ينزحوا وحدهم إلى المدن الكبرى بحثا عن العمل، وتبقى الزوجة والأم والولد والعجائز الرجال فى انتظار الجنيهات القليلة كل شهر، وأحيانا القروش وأحيانا تطبق المدينة على الرجل فلا تسمع القرية عنه شيئا.. ربما وقع فى حب «البيضاء» تزوج فى القاهرة ونسى الولد والزوجة والأب. وتعيش القرية على القصص والانتظار، والأمانى ويا لها من فرحة عندما يعود «الغائب» يكون قد وصل إلى سن الاعتزال، معه ثروة صغيرة، عدة جنيهات، وقصص وحكايات يعيش عليها بقية العمر ويطلق عليه لقب «الفرنساوى» إذا كان يعمل عند أحد الفرنسيين أو «المحامى» إذا كان قد اشتغل لدى أحد المحامين أو دكتور إذا كان يعمل فى عيادة طبيب. ومن هؤلاء الخبراء العائدين والنساء والأطفال يتكون المجتمع النوبى القديم، تمضى فيه الحياة الهادئة الوادعة كما يمضى النيل العظيم الذى يلف هذه القرى بأسواره العميقة وأساطيره يسقى أراضيهم ويحرك مراكبهم، ويبارك عرسانهم وعلى شواطئهم يقف الناس كل مساء فى انتظار عودة الابن الغائب أو الزوج وقبضة النقود القليلة. الهجرة الأخيرة لم يستقر الحال بأهل النوبة خاصة عند الشروع فى بناء السد العالى سنة 1960 وكان لابد من تهجير سكان النوبة إلى الشمال إلى كوم أمبو ومركز ناصر وإسنا بدلا من قراهم فى عنيبة وأبرديم وأدندان وتوشكى وأبوسمبل التى تحولت إلى أكبر بحيرة صناعية فى العالم التى وصل منسوبها إلى 187 مترا وهى بحيرة ناصر فكانت الهجرة الأخيرة قاسية على أهل النوبة، فبحيرة ناصر غمرت بمياهها أى آثار لقرى النوبة وبعدت أهلها عن نهر النيل عشقهم الأول والأخير. فأغلبهم كان يعمل بالزراعة على ضفافه والبعض الآخر بالرعى أو بالمركب التى تنقلهم عبر النهر ووديانه، وكان النيل عنصرا محوريا فى الثقافة النوبية من حفلات العرس والولادة.. فكان العروسان فى ليلة الزفاف يهبطان إليه ويغتسلان بمياهه أملا فى جلب الخير وإنجاب الأطفال.. وعندما يرزق الأبوان بطفل ذكر يحتفل بيوم سبوعه، حيث تذبح ذبيحة وتتلى الآيات القرآنية ويختار اسمه، أما إذا كانت بنتا فيقتصر حفل السبوع على دعوة الأصدقاء ويذهبون بصحبة الوالدين إلى شاطئ النيل وهناك يعطى للبنت اسمها، أما فى يوم شم النسيم فيذهب أهل النوبة قبل شروق الشمس إلى نهر النيل ليشربوا منه ويحملون كميات من مياهه لغسل جنبات منازلهم للتبرك وأيضا يقوم النوبيون بأخذ أطفالهم حديثى الولادة لملامستهم بمياه النيل فى يوم شم النسيم، وكل هذا للتبرك بمياهه باعتباره من الأنهار المقدسة التى تمنحهم القوة والحياة. وهكذا نرى مدى العلاقة الحميمة التى ربطت أهل النوبة بنهر النيل على مدى آلاف السنين وكما هو مثبت فى كتب التاريخ ومن خلال الآثار الموجودة بالمتاحف أو المعابد على طول النهر. ولم ينس أهل النوبة بلادهم وقراهم على مدى مائة عام من الهجرة، وأيضا لم تغفل الحكومة عن ضياع الهوية النوبية وآثارها وتراثها. فأنقذت أهم آثار النوبة مثل معبد أبوسنبل وفيلة وغيرها وأقامت متحف النوبة الكبير الذى يحتوى على أكبر كم من آثار النوبة على مدى 5 آلاف عام وحتى وقتنا الحاضر، وأقامت الدولة بيوتا نوبية فى أسوان والأقصر بكل مواصفات البيت النوبية القديمة وأصبحت كمراكز ثقافية لتعليم التراث والحرف النوبية القديمة، لكن حلم العودة كان دائما لا يغيب عن النوبيين رغم ذوبان كثير منهم فى المدن الكبرى بمصر. شعب واحد لا أحد ينكر حق أهل النوبة فى العودة لأرض الأجداد المتبقية بعد الطوفان وبناء السد كما حدث مع أهالى القناة بعد انتهاء الحروب فى 73 منهم عدد قليل الذى عاد لمنزله، والباقى إما ظلوا فى المدن التى هاجروا إليها، والبعض الآخر عاد لبيوت غير بيوتهم التى هدمت وعاش فى مدن القناة ناس كثيرون من كل مدن مصر عادوا مع أهل القناة الذى أصبح يسكنها الصعيدى والبحيرى والنوبى، فكلهم مصريون وأرض مصر من حقهم ليعيشوا فيها بسلام وأمان فى رباط إلى يوم الدين. ولكن للأسف بين الحين والآخر نجد من يحاول فك هذا الرباط ويشكك فى وحدة هذا النسيج من أجل مصالح شخصية أو البحث عن دور ولفت الأنظار بعد أن فشل فى تحقيق ذاته، وكما يقول الفنان محمد منير فى أحد اللقاءات: أنا نوبى عمرى ما شعرت بأى تهميش أو تمييز بينى ووبين أى واحد فى مصر ولا أنا ولا أى أحد من أهلى وعندما بدأت الغناء والنجاح لم يكن سهلا فى البداية، لكن الحمد لله الآن ربنا وفقنى وأقول لمن يدعون أن النوبيين مهمشون: لا تكونوا عنصريين وابحثوا عن النجاح والمجالات كثيرة، حتى لا تشعروا بهذا الإحساس، والذى يشعر بتهميش هو يريد الانتماء لثقافة أخرى ويبرر هذا بأنه مهمش فى بلده مصر. لم أجد غير كلام منير أؤكد به أننا شعب مصرى واحد.. لا نوبى وبحرى ولا من القناة ولا صعيدى وارفع راسك فوق أنت مصرى.