لم أتخيل يوما أننى سألتقى به - فجأة - بعد مرور كل هذه السنوات الطوال ، وأين ؟ فى مسجد سيدنا الحسين ! صحيح شكله الخارجى تغير تماما، بذقنه البيضاء ، وجلبابه البلدي، وغطاء رأسه ، لكننى عرفته فورا بمجرد النظر فى عينيه. ....................................... فهو صديق الطفولة، والصبا والشباب، وهو زميلى العجيب الجالس بجوارى طوال سنوات الدراسة الابتدائية التعسة ! فقد كان يعرف - تقريبا - كل شيء يُقال لنا من كل المدرسين والمدرسات، فى حين أننى لم أكن أعرف أى شيء على الإطلاق ! وحتى يُضاعف من مأساتى ، كان يغنى لنا ، فى الفسحة ، كل أغانى الإعلانات التى يذيعها التليفزيون ، والتى أشاهدها ولا أحفظ منها أى شييء ! وعند الحديث مع باقى الأطفال ، دائما ما كان يقول لنا حاجات جديدة لا نعرفها ! لقد سبب لى زميلى هذا عقدة نفسية عميقة ، لدرجة أننى ظننت أن إمكاناتى العقلية لن تسمح لى بمواصلة التعلم ، خصوصا بعدما قال لى أحد الأساتذة إننى غبى جدا . بينما هذا العبقرى الصغير ، كان دائما الأول على الفصل ، بل والأول على المدرسة كلها ، فهو شديد الذكاء ، سريع البديهة ، قوى الحفظ ، متوقد الذهن ، ولا يتعب أبدا من التعلم ! وأنا لا يمكن أن أجاريه فى مواهبه العقلية الخارقة ، ومن ثم ملأنى شعور عميق بالدونية تجاه قدراته المدهشة . وظللنا على هذا الحال ، حتى مرحلة ثانوى ، حيث بدأت أبذل أقصى طاقتى فى محاولات الحفظ والفهم والتحصيل الدراسى ، فى حين أهمل هو التعليم تماما، إذ أصبح شغله الشاغل هو الجنس الآخر ! كنت أنجح من عام لآخر بصعوبة ، وينجح هو بمنتهى السهولة ، وبدون أى مذاكرة ، لكنه لم يعد الأول ، كما كان ، ولا حتى يُذكر اسمه بين الأوائل . ثم دخلنا معا إلى الجامعة ، للدراسة فى كلية التجارة ، فحاولت ، بشتى السبل ، أن أنهى دراستى الجامعية فى أربع سنوات ، فى حين استغل هو رحاب الجامعة كمكان مناسب لاصطياد الفتيات ! ولقد تعددت علاقاته النسائية بطريقة غير معقولة ، داخل الكلية وخارجها ، فقد قام بغزو الكليات الأخرى ، وأصبح الحرم الجامعى ملعبه المفضل ، حتى تندر عليه بعض الزملاء وقالوا إنه عن قريب سيغزو باقى جامعات المحروسة ! آنسات وسيدات ، من كل الأشكال والألوان والأحجام ، وسواء من وسط اجتماعى راق ، أو من الفقيرات ، فهو يؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعية ! وسواء كن جميلات ، أو غير جميلات ، فالحقيقة أنه صاحب نظرية عجيبة ، تقول إن كل النساء جميلات ، أو بتعبيره كل امرأة فيها ولابد شيء جميل ! وحين أنهيت دراستى الجامعية بشق الأنفس ، وانطلقت أبحث عن لقمة العيش ، كان هو مازال طالبا منتسبا ، يتنقل بين أصناف شتى من النساء ، وكانت إحداهن راقصة معروفة ، أخذ يذهب معها إلى الملاهى الليلية ، ثم سمعت أنه تزوجها ، وترك الجامعة دون أن يحصل منها على شهادته ! وقد انقطعت عنى أخباره لفترات طويلة ، لكنى كنت أسمع عنه من حين لآخر من الأصدقاء والزملاء . فعرفت أن الراقصة ضبطته يوما مع خادمتها ، ففضحته وبهدلته ، وأصرت على طلب الطلاق ، فطلقها وذهب . وبرغم ذلك أرادت أن تعود إليه ، مرة أخرى ، ولكنه رفض تماما ، وقيل إنها هددته بإبلاغ الشرطة عنه ، ثم عرفنا إنه قُبض عليه فى جلسة حشيش ، ودخل السجن فانقطعت أخباره عنا ، وبعد ذلك سمعنا أنه خرج منه محطما ، ولم يعرف أحد من معارفنا عنه أى تفاصيل أخرى ! ومن ثم بمجرد ما وقعت عينى عليه ، استعدت بسرعة تاريخه العجيب ، وأنا أتقدم نحوه مندهشا من تغير حاله ، فإذا به يقابلنى بابتسامة وترحاب وود ، وكأنما الدنيا لم تفرق بيننا لسنوات طوال ، ثم أخذنا الحديث شرقا وغربا ، وضحكنا على مفارقات غريبة جدا حدثت فى حياتنا على مدى سنوات وعقود ، وفوجئت حين تبين لى أنه لا يحمل أى مرارة من أى أحد ! وذكرنا أسماء كثير من الأصدقاء والصديقات ، وما حدث لهم فى هذه الطاحونة الدوارة ، وكان مقلا ، كعادته ، فى الحديث عن نفسه ! يُجيب عن تساؤلاتى باقتضاب وعدم اهتمام ، وكأنما تفاصيل حياته الشخصية أمرا غير مهم ، ولا يستحق تضيع الوقت فى الحديث عنه ! بيد أننى عرفت منه أنه استقر أخيرا فى هذا المكان المقدس ، فى رحاب مولانا الحسين ، وأننى يمكن أن أقابله ، فى أى وقت تسمح به ظروفى . وقد لاحظت أن معظم النساء فى المقام الكريم ، يخاطبنه بلقب الشيخ ، وثمة من يتوددن إليه ، وبعضهن يتحدثن إليه بصوت خافت ، وفى نظراتهن إليه عشم وثقة وتفاهم ، إذ يبدو أنه مازال يملك القدرة على خطف قلوب النساء !