حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى ذكرى ميلاد أديب نوبل «الحلقة الخامسة» الموظف الفيلسوف د. زكي سالم
نشر في التحرير يوم 16 - 12 - 2013

اكتسب محفوظ من حياته الوظيفية الالتزام والجدية والانضباط والاهتمام بالوقت والمحافظة على المواعيد تم إلغاء سفر الطالب المتفوق نجيب محفوظ إلى فرنسا فى بعثة دراسية لاستكمال دراسته الفلسفية ظنًّا أنه مسيحى
لعل أكثر ما يثير دهشتى فى شخصية نجيب محفوظ، هو عمله موظفا طوال كل هذه السنوات الطويلة جدا، منذ منتصف سنة 1934م. وحتى نهاية سنة 1971م. فكيف استطاع هذا المبدع العظيم أن يحتمل جو الوظيفة ومتطلباتها؟! القضية هنا ليست فقط قضية ضياع وقت هذا العبقرى، فى أمور قليلة القيمة، يمكن أن يقوم بها أى شخص آخر، ولا فى تبديده ساعات تلو الساعات فى روتين حكومى مملّ، يقضى على منابع الطاقة والإبداع داخل الإنسان، ولكن ثمة جانب آخر مهمّ فى هذه الوظيفة الحكومية المكبِّلة لحرية الفنان المبدع، فنجيب محفوظ لم يكن مجرد فنان مبدع يرغب -مثل أى مبدع آخر- أن يتمتع بحياته الشخصية فى حرية وانطلاق، دون أعباء الوظيفة والتزاماتها، فنجيب محفوظ ليس روائيا مبدعا فحسب، ولكنه مفكر وفيلسوف أيضا، وهذا يعنى أن عقله الفلسفى المنظم، سيعانى كثيرا جدا من روتين العمل المحدود، وعقليات الرؤساء، وأوامر المدريين والوزراء، فكم احتمل هذا الفيلسوف ذو العقل الموسوعى الكبير من تفاهات عالم الوظيفة، وسخافات روتين العمل الحكومى؟!
ومن العجيب أن هذا السؤال ذاته -والذى يثير استغرابى- لم يكن يثير عنده شخصيا أى قدر من الدهشة أو التعجب! فأنا أنظر إليه باعتباره المبدع العظيم نجيب محفوظ، الذى يجب أن يعيش حياة جديرة به، حياة من أجل الإبداع الأدبى والكتابة الفنية والتأمل الفلسفى، فيتصرف فى وقته كيفما شاء، يقرأ ما يشاء، ويكتب ما يريد، ويتجول هنا وهناك كما يحلو له، ويسافر حول العالم، ويدرس أحوال الدنيا، ويلتقى الأصدقاء والناس فى أى وقت شاء.
بينما هو ينظر إلى نفسه نظرة مختلفة تماما، باعتباره إنسانا عاديا يجب أن يعمل فى وظيفة ما، من أجل أن يوفر لنفسه ولأسرته أسباب الحياة الكريمة، ثم هو يكتب ويقرأ فى ساعات الفراغ من الوظيفة التى ظل طوال حياته حتى وصل إلى سن المعاش يرى أنها ضرورة من ضرورات الحياة ذاتها!
وثمة حكاية معبّرة جدا، سمعتها من الأستاذ نفسه، وقد حدثت هذه الواقعة فى منتصف الثمانينيات، أى قبل حصوله على نوبل بنحو ثلاث سنوات، حين كان الأستاذ فى الإسكندرية فى الصيف، وهو يتمشى على الكورنيش، صادف زميلا له من زملاء الوظيفة الحكومية، وهذا الزميل كان أكبر من الأستاذ سنًّا، وقد تحدث مع نجيب محفوظ عن مواد القانون الجديد للموظفين! فالرجل -بعد خروجه على المعاش بسنوات طويلة- ما زال يهتم بشؤون الموظفين وأحوالهم، وبعد هذا الحديث سأل الرجلُ الأستاذَ سؤالا: «لقد شاهدتك يا نجيب فى التليفزيون من عدة أيام، فلماذا ظهرت فى التليفزيون؟» فهذا الزميل القديم لا يعرف شيئا عن علاقة نجيب محفوظ بعالم الأدب، ويسأله لماذا يظهر فى التليفزيون.
وقد سألت الأستاذ: بماذا أجبته؟ فقال: قلت له إن بعض برامج التليفزيون تستضيف أحيانا أناسًا من الجمهور لسماع رأيهم!
الموظف وطالب الدراسات العليا
أتمّ نجيب محفوظ دراسته الجامعية فى كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1934م. وكانت دفعته مكونة من أربعة طلاب فقط! وكلهم من الطلاب النابغين! وهم: د.توفيق الطويل، ود.محمد عبد الهادى أبو ريدة (وهما من كبار أساتذة الفلسفة)، ود.على أحمد عيسى أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية. هكذا كان مستوى الدراسة فى الجامعة المصرية، فى الثلاثينيات والأربعينيات، وهذا كان مستوى من يتخرجون فيها، ففى دفعة واحدة تخرج أربعة من كبار الأساتذة والمفكرين العظماء.
وكان من المفروض أن يتم إرسال الطالب المتفوق نجيب محفوظ إلى فرنسا فى بعثة دراسية لاستكمال دراسته الفلسفية، وفى هذا الوقت كان نجيب محفوظ سعيدا بفكرة السفر إلى فرنسا، واستكمال دراساته العليا فى إحدى جامعاتها، ومن العجيب أن هذه البعثة الحكومية تأجلت، ثم أُلغيت تماما لسبب فى غاية الغرابة! وهو اسم الطالب: نجيب محفوظ! حيث ظن بعض أعضاء اللجنة المخصصة لبحث أسماء مَن سيتم إرسالهم فى بعثات حكومية أنه مسيحى، وقد تم إدراج عدد من الأسماء المسيحية فى قوائم البعثات، فقالوا: نكتفى بهؤلاء! والأعجب أن سكرتير اللجنة كان يعرف نجيب محفوظ شخصيا، ومع ذلك لم يتدخل لتصحيح هذا الخطأ العجيب، وهو بنفسه الذى حكى لنجيب محفوظ تفاصيل ما حدث من نقاش فى اجتماع لجنة البعثات، وكان ذلك -طبعا- بعد سنوات طويلة!
فماذا كان يمكن أن يحدث لو سافر نجيب محفوظ فى بعثة دراسية إلى فرنسا لدراسة الفلسفة؟ هذا السؤال طرحتُه على أستاذنا أكثر من مرة، فكان يقول إنه من الصعب أن نتصور ماذا كان سيحدث، لو حصل كذا أو كذا، فهذه كلها مجرد تصورات، ولا نعرف أيها الصواب، ولا أيها الخطأ، ولكنه قال مرة: لعلنى كنت اندمجت فى الأبحاث الأكاديمية والدراسات الفلسفية والتدريس فى الجامعة، ولم أجد الوقت الكافى لكتابة الروايات والقصص.
وقد قلت لأستاذنا: إن موهبته الفذة، لا يمكن أن تسمح له بالتوقف عن الإبداع الأدبى، وإنه -فى ما أتصور- كان سيصبح من أفضل أساتذة الفلسفة فى مصر، بل وفى العالم كله، وإنه بالتأكيد كان سيقدم لنا مجموعة رائعة من أعظم المؤلفات الفلسفية، والتى لا يمكن أن يقدمها سوى مفكر كبير، يمتلك عقلا عبقريا وقدرات إبداعية فائقة، هذا بعض ما يمكن أن أتصوره من إبداع نجيب محفوظ الفلسفى، بالإضافة إلى أنه - بالتأكيد- كان سيقدم لنا أيضا بعضًا من القصص الجميلة والروايات البديعة، طبعا من حيث عدد الروايات والقصص، سيكون أقل بكثير من إنتاجه الغزير الذى أثرى به مكتبتنا العربية.
كنا بالتأكيد سنستفيد كثيرا من مؤلفاته الفلسفية العظيمة، ولكننا وبالتأكيد أيضا، كنا سنخسر الكثير من رواياته الخالدة وقصصه الرائعة.
بعدما تخرج نجيب محفوظ فى كلية الآداب، عمل موظفا فى إدارة الجامعة، وقد حكى لى الأستاذ عن هذه الفترة المهمة من فترات حياته الثرية، باعتبارها فترة صراع داخلى عنيف، بين حبه الشديد للأدب، ورغبته القوية فى استكمال دراسته العليا فى الفلسفة الإسلامية.
فقد بدأ عمله فى إدارة الجامعة موظفا حكوميا فى بداية السلم الوظيفى، فكيف كانت نظرة زملائه إليه؟ إذ إن معظم الموظفين، فى ذلك الوقت، كانوا أكبر منه سنًّا، ولم يحصلوا على أى شهادات جامعية، فبعضهم كان حاصلا على شهادة الابتدائية، وبعضهم حاصل على شهادة الثانوية (التوجيهية)، ومن ثم فقد كان نجيب محفوظ متميزا بينهم، مما كان يدفعهم إلى السخرية منه، ومن شهادته الجامعية، خصوصا أنها درجة علمية فى الدراسات الفلسفية، وقد أطلقوا عليه لقب: «أرسطو»!
بينما نجيب محفوظ لم ينظر إلى زملائه هؤلاء، نظرة متعالية، على الإطلاق، فهم أكبر منه سنًّا بكثير، وأكثر خبرة بطبيعة العمل فى الجامعة، فكان يعاملهم برقىّ واحترام، كما يعامل الناس جميعا.
وقد استمر نجيب محفوظ لمدة عامين، من سنة 1934م حتى سنة 1936م، يدرس ويحضّر لدرجة الماجستير فى الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف أستاذه الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق.
ولا يمكن أن أمرّ هنا سريعا، دون أن أتوقف، ولو قليلا أمام شخصية الشيخ مصطفى عبد الرازق، أول من درَّس الفلسفة الإسلامية فى الجامعة المصرية، فهو الأب الروحى لكل أساتذة الفلسفة الإسلامية، ولقد تعلمت -شخصيا- الكثير من أبحاثه العلمية، ودراساته الفلسفية، وكتبه الأدبية، ونزعته الإصلاحية على المستوى الفكرى والاجتماعى، ومما سمعته وقرأته عن مواقفه الإنسانية الكريمة مع طلابه وزملائه، بل ومع الناس جميعا.
ويذكر له مواقف فى غاية الكرم مع عدد كبير من الناس، ومنهم عائلة سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى بداية حياتها، وعند حضورها إلى القاهرة مع أبيها وأفراد أسرتها.
وقد قال لى الأستاذ نجيب عن الشيخ مصطفى عبد الرازق: «إنه أنبل إنسان رأيته فى حياتى» وهذه الكلمات القليلة تعد شهادة مهمة من كاتبنا العظيم عن شيخنا العظيم، فقد قام الإمام الأكبر بدور رائع فى تاريخنا العلمى، والفكرى، والثقافى، سواء فى الحياة العامة، أو فى الجامعة المصرية، أو فى الأزهر الشريف.
وقد حكى لنا الأستاذ حكاية تعبر عن معنى جميل فى شخصية الشيخ الأكبر، فبعدما درس الأستاذ على يدى الشيخ ثلاث سنوات، إذا به وهو يشرح أمرا متعلقا بالشريعة الإسلامية، يقول لطلابه إنه يشرح بإسهاب وتفصيل من أجل زميلهم نجيب محفوظ، فقد كان يظن أنه مسيحى، فنبهه الطلاب إلى أن نجيب محفوظ مسلم. فلم تتغير معاملة الشيخ له سواء وهو يظنه مسيحى، أو بعد أن عرف أنه مسلم.
وثمة مفارقة مدهشة، إذ كيف يمكن لك أن تتصور موقف الشيخ الجليل مصطفى عبد الرازق من تلميذه النجيب، عندما يخبره أنه قرر أن يتوقف عن استكمال رسالته للماجستير؟ ومن أجل أى شىء يتوقف عن إكمال دراسته التى قطع فيها شوطا كبيرا؟ من أجل كتابة القصص والروايات!
وقد سألت الأستاذ عن هذه المفارقة العجيبة، فقال لى إن الشيخ لم يتدخل فى قرار الأستاذ، ولم يقل له شيئا يعبّر به عن عدم رضائه عن القرار، ولكنه كان يبدو أنه غير مقتنع به.
فالأستاذ طالب نابه، ورسالته للماجستير، كان يمكن أن تقوده إلى التدريس فى الجامعة، ثم يحصل بعد ذلك على درجة الدكتوراه، ويصبح أستاذا للفلسفة فى الجامعة، هذا المستقبل المشرق، تركه الأستاذ نجيب من أجل كتابة القصص والروايات، فمن كان يمكنه أن يدرك صحة هذا القرار وعظمته؟!
لقد تم اتخاذ هذا القرار الصعب، بعد عامين من الدراسة والبحث والتفكير، فبماذا شعر الأستاذ بعد اتخاذه لهذا القرار المصيرى؟ لقد شعر بالحرية والاستقلال! حتى إنه كان يقارن -فى داخله- بين معاهدة الاستقلال سنة 1936م التى أعطت مصر نوعا من الاستقلال الصورى، وقراره بالتفرغ للكتابة الأدبية، والتوقف عن إكمال دراسته الفلسفية.
فقد اكتشف الشاب نجيب محفوظ، أنه إذا ما جمع بين العمل كموظف فى الجامعة، واستكمال دراسته العليا للماجستير، فلن يجد الوقت اللازم للكتابة الأدبية، ولن يجد وقتا يسمح له بقراءة روائع الأدب العالمى.
ومن ثم كان لا بد أن يضحّى بواحد من الاثنين، إما الأدب، وإما الفلسفة، فاختار التضحية بإكمال دراسته الفلسفية من أجل الاستمرار فى الكتابة الأدبية، وتنمية معارفه العامة، وصقل ثقافته الموسوعية. ومع ذلك لم يتوقف نجيب محفوظ قط عن متابعة ما تصدره المطابع من دراسات فلسفية، فاهتمامه بالفلسفة لم يتوقف يوما من أيام حياته المثمرة.
وثمة حكاية ذات مغزى حكاها الأستاذ نجيب عن روايته الأولى، التى طبعها سلامة موسى، إذ إن عنوان الرواية كما كتبه الأستاذ كان «حكمة خوفو»، لكن سلامة موسى بعدما قرأ الرواية، ووافق على نشرها، اعترض على العنوان، وفضل أن يكون العنوان هو «عبث الأقدار».
وبعدما صدرت الرواية، أهدى الأستاذ نجيب نسخة منها إلى أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق، فتوقف الإمام الأكبر عند عنوان الرواية، وسأله: ما هذا العنوان؟! هل الأقدار تعبث بنا؟!
وهنا لنا أن نتأمل فى موقع الأستاذ نجيب محفوظ كتلميذ نابه لكل من سلامة موسى صاحب الفكر الليبرالى العلمانى، والمبشر بالاشتراكية الفابية، والإمام الأكبر مصطفى عبد الرازق، المُصلح والمُجدد، وأستاذ أساتذة الفلسفة الإسلامية.
وثمة أساتذة كثيرون فى حياة نجيب محفوظ، من الشرق، ومن الغرب، فقد استطاع أن يستوعب فى داخله، جميع الاتجاهات الفلسفية، ومختلف التيارات الأدبية، من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار.
وثمة حكاية أخرى صغيرة من حكايات الأستاذ والشيخ، إذ يذكر الأستاذ نجيب أنه ذهب لعيادة شيخه مصطفى عبد الرازق، حين ألمّت به وعكة صحية، وقد قال له الشيخ يومها إن أولاده قرؤوا روايته «خان الخليلى»، وأعجبوا بها جدا، وأنهم أخذوا فى البكاء فى مواضع عدة من الراوية. فهل هذه الكلمات كانت تعنى نوعا من الاعتراف، أو التقدير للإبداع الأدبى لنجيب محفوظ، بما يفسر قراره بالتخلى عن استكمال دراسته العليا فى الفلسفة؟
نجيب محفوظ الموظف
الالتزام، والجدية، والانضباط، والاهتمام بالوقت، والمحافظة على المواعيد بدقة.. يمكن أن يرجع البعض هذه الصفات البارزة فى شخصية نجيب محفوظ إلى حياته الوظيفية، التى عاشها على مدى عقود متواصلة، ولكنى أرى أنها صفات ذاتية فى الأستاذ، وإن كانت ساعات العمل فى الوظيفة الحكومية، أثَّرت -بالتأكيد- على اهتمامه الشديد بالوقت، وحرصه على استغلاله الاستغلال الأمثل.
حتى الآن أجد صعوبة فى تصور الأستاذ نجيب محفوظ موظفا حكوميا! كيف حدث هذا؟ وكيف يقضى هذا العبقرى ثمانى أو تسع ساعات كل يوم فى عمل روتينى قليل الأهمية؟
تعرفتُ إلى بعض الأصدقاء الذين عملوا موظفين مع نجيب محفوظ، وسألتهم عنه كموظف حكومى، فأجمعوا على حرصه الشديد على الالتزام بالحضور كل يوم قبل الموعد المحدد، وكذلك الالتزام الدقيق بمواعيد الانصراف من العمل، مع الدقة الشديدة فى أداء كل ما يُطلب منه على أكمل وجه.
وبعد حصول الأستاذ على جائزة نوبل فى 1988م نشرت إحدى المجلات، صورا وأوراقا من ملف خدمة الموظف نجيب محفوظ عبد العزيز، فإذا به نموذج للموظف المثالى، وهذا على العكس تماما من الملف الوظيفى للكاتب الكبير توفيق الحكيم، وهذا بالتأكيد أمر لا يعيب الفنان والمبدع توفيق الحكيم، إذ كيف لروح الفنان أن تلتزم هذا الالتزام الصارم بكل متطلبات الوظيفة الحكومية؟!
وهنا ثمة حكاية طريفة، حكاها لنا أستاذنا العظيم، حين كان سكرتيرا برلمانيا لوزير الأوقاف، وكان فى هذا الوقت، الشاعر المبدع والصحفى الكبير كامل الشناوى يعمل أيضا فى البرلمان، وفى يوم قدم الأستاذ نجيب إحدى رواياته هدية إلى الشاعر الكبير، فأخذها منه ولم يهتم بها على الإطلاق، ولم يقرأها طبعا، وبعد ذلك أخذ الشاعر يسمع مديحا متواصلا فى روايات نجيب محفوظ وقصصه، فعاد إلى الرواية مرة أخرى وقرأها، وأخذ يتساءل فى دهشة: كيف يمكن لهذا الموظف الملتزم، أن يكتب مثل هذا الأدب الرائع؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.