الالتزام، والجدية، والانضباط، والاهتمام بالوقت، والمحافظة على المواعيد... بدقة، يمكن أن يرجع البعض هذه الصفات البارزة فى شخصية نجيب محفوظ إلى حياته الوظيفية، التى عاشها على مدى عقود متواصلة، ولكنى أرى أنها صفات ذاتية فى الأستاذ، وإن كانت ساعات العمل فى الوظيفة الحكومية، أثرت بالتأكيد على اهتمامه الشديد بالوقت، وحرصه على استغلاله الاستغلال الأمثل. حتى الآن أجد صعوبة فى تصور نجيب محفوظ كموظف حكومى! كيف حدث هذا؟ وكيف يقضى هذا العبقرى ثمانى أو تسع ساعات كل يوم فى عمل روتينى قليل الأهمية؟ تعرفت إلى بعض الأصدقاء الذين عملوا موظفين مع الأستاذ وسألتهم عنه كموظف، فأجمعوا على حرصه الشديد على الالتزام بالحضور كل يوم قبل الموعد المحدد، وكذلك الالتزام الدقيق بمواعيد الانصراف من العمل، مع الدقة الشديدة فى أداء كل ما يُطلب منه على أكمل وجه. وبعد حصوله على جائزة نوبل فى 1988م. نشرت إحدى المجلات صورا وأوراقا من ملف خدمته، فإذا به نموذج للموظف المثالى، وهذا على العكس تماما من الملف الوظيفى لتوفيق الحكيم، وهذا بالتأكيد أمر لا يعيب الفنان والمبدع توفيق الحكيم، إذ كيف لروح الفنان أن يلتزم هذا الالتزام الصارم بكل متطلبات الوظيفة الحكومية؟! وثمة حكاية طريفة، حكاها لنا أستاذنا العظيم، حين كان سكرتيرا برلمانيا لوزير الأوقاف، وكان فى هذا الوقت الشاعرُ المبدع والصحافى الكبير كامل الشناوى، يعمل أيضا فى البرلمان، وفى يوم قدم الأستاذ نجيب إحدى رواياته هدية للشاعر الكبير، فأخذها منه ولم يهتم بها على الإطلاق، وبعد ذلك أخذ الشاعر يسمع مديحا متواصلا فى روايات نجيب محفوظ وقصصه، فعاد إلى الرواية وقرأها، وأخذ يتساءل فى دهشة: كيف يمكن لهذا الموظف الملتزم، أن يكتب مثل هذا الأدب الرائع؟! وقد عمل نجيب محفوظ فى وظائف عدة، فقد بدأ حياته الوظيفية موظفا فى الجامعة المصرية (جامعة القاهرة)، ثم انتقل للعمل فى وزارة الأوقاف مع أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين عُين وزيرا للأوقاف، وعمل الأستاذ سكرتيرا برلمانيا لوزير الأوقاف. والشيخ مصطفى، كما هو معروف، من أقطاب حزب الأحرار الدستوريين، بينما الأستاذ نجيب محفوظ ينتمى فى مشاعره وعقيدته السياسية -مثله مثل جماهير الشعب المصرى قبل انقلاب 1952م- إلى حزب الوفد. إلا أن هذا الاختلاف فى الانتماء السياسى، لم يكن له أثر فى العلاقة الرائعة بين الشيخ والأستاذ. ويحكى لنا الأستاذ ما حدث حين جاء حزب الوفد إلى الحكم، وخرج الشيخ مصطفى من الوزارة، إذ سمع الأستاذ من الوزير الوفدى، أن حزب الوفد لا ينكّل بخصومه، ومن ثم تُرك الأستاذ يعمل فى مكتب الوزير الوفدى، بينما هو محسوب على الأحرار الدستوريين! وقد سألت الأستاذ: لماذا لم تعلن فى هذا الموقف عن حقيقة انتمائك السياسى؟ فقال ما معناه أن كلماته فى هذه اللحظة قد لا تُفهم على وجهها الصحيح.