هناك عمل منظم على مدى عقود مضت يستهدف تعقيد التعامل بين كل شرائح المجتمع، ويستهدف خلخلة الروابط المنسوجة عبر التاريخ من استقرار أواصر العلاقة وحدود التلاقى والتقاطع بيننا، ويستهدف وجود احتقان ترتفع وتزول فيه حدود الأمان والثقة بيننا، وتنغرس بدلا منها شكوك وارتياب متبادل، يجعل كل طرف يتبرم بالآخر ويتضجر به، ويستريب فى نواياه وكلماته وتصرفاته، ويجعل أيضا كل طرف يتحفز ويتشنج، ويتقوقع على نفسه، ويريد تحصين نفسه من طوفان الشكوك الذى نما وتضخم عنده. وبعد أن كان العقد الاجتماعى بيننا قد تبلور واستقر ونضج على مدى قرون، وتأكد كل طرف من أن الآخر يضمر له كل الخير والأمان، وأن كل طرف يطمئن إلى أن ظهره محمى ومصون بالآخر، رغم التباين والاختلاف، إذا بنا وكأننا سنبدأ فى بناء عقدنا الاجتماعى من جديد، وننحته من الصفر. ولقد كان من الأهداف الإستراتيجية لحقبة الاستعمار فى أوطاننا أن تعمل على هذا التفتيت المجتمعى والعرقى والديني، فى الوقت الذى كانت مجتمعاتنا قد استقرت على مدى قرون من قبل وهى تعيش بقيم الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، وأن الله لا ينهانا عن البر والقسط بإخواننا المسيحيين الذين عشنا ونعيش معهم على مدى قرون فى أمان، فإذا بحقبة الاستعمار تغرس بيننا أحقادا بطيئة فى بادئ أمرها، لا تلبث على مدى السنوات والقرون أن تتضخم وتتراكم وتتعقد، وتؤدى إلى ميلاد أجيال من النفوس المشحونة، والأضغان التى يورثها بعد ذلك جيل إلى جيل، فإذا بنا قد تحولنا إلى شيء يشبه التفاعل النووى الإنشطارى الذى يؤدى إلى تقسيم مستمر لكل وحدة متماسكة إلى قسمين، وينشطر كل قسم إلى قسمين وهكذا، فى الوقت الذى يعملون هم فيه فى دولهم ومجتمعاتهم على تعليم ثقافة الاندماج والتكتلات والأحلاف، والأسواق المشتركة. وأضرب لك أمثلة على ذلك: مضت سنوات وعقود تعقدت فيه علاقة الأكراد والعرب حتى وصل الناس هناك شمال العراق وسوريا إلى استحالة العيش المشترك فى دولة وطنية واحدة وأنه لابد من الانفصال والتقسيم، وكذلك الحال مثلا فى شمال اليمن وجنوبه، حيث وصل الشحن والاحتقان والتعقيد إلى استحالة العيش المشترك فى إطار وطن واحد، وكذلك العمل البطيء مثلا على إفقاد بعض أفراد الشعب المصرى ثقتهم فى جيشهم العظيم ومؤسسة الشرطة وغير ذلك من مؤسسات الوطن، والعمل علي وعى أبناء النوبة الكرام حتى يتوجهوا إلى البعد عن وطنهم، والعمل على تأجيج الصراع مثلا بين الطوائف المسيحية بحيث يعادى بعضها بعضا، والعمل مثلا على خروج تيارات إسلامية متطرفة تحمل السلاح وتكفر الناس وتقتلهم، والعمل على أن يعادى الأزهر بعضه بعضا، وهكذا وهكذا. ولعلك تتذكر هنا انقسام السودان بالفعل إلى دولتين، بعد نحو نصف قرن من العمل الصبور على غرس أسباب الشقاق والنفور والأزمات بين شماله وجنوبه. إنه عمل طويل الأمد، وصبور جدا، يستهدف التفكيك، ويعمل على تزوير الوعى وتزييفه حتى لا يبقى فى أوطاننا حجر على حجر فى جدران أوطاننا العظيمة. وفى المقابل فنحن وكل عاقل فى هذا الوطن وفى أوطاننا يرفع راية التماسك والتوحد والترابط، وتجاوز كل الأزمات البينية وتذويبها والتسامى عليها مهما كانت. فيجب أن تشتد ثقة المصريين فى جيشهم العظيم، وأن يلتفوا حوله، ولابد من تضافر كل أبناء مصر من النوبيين والصعايدة وقبائل سيناء ومطروح والواحات وحلايب وشلاتين، وغير ذلك من شرائح أبناء الوطن. ولابد فى مؤسستنا الأزهرية مثلا من اجتماع شمل أبنائه، ولابد من برامج عمل جادة وصبورة وطويلة الأمد من توثيق علاقة المسلمين بالمسيحيين، وإبراز كل قواسم التماسك عبر التاريخ، والتى تحملنا فيها معا أعباء صيانة وطننا، والتصدى لكل محاولات الالتفاف على هذا الوعى الوطنى العميق بين المسلمين والمسيحيين، مما برز بعمق فى ثورة 1919م، حيث خرجنا معا مسلمين ومسيحيين من رحاب الأزهر، لندحر ما كان الاستعمار الإنجليزى الترويج له، من وجود اضطهاد للمسيحيين فى مصر، يمهد به للتدخل وفرض الحماية وإجهاض أهداف ثورة 1919 التى نادت باستقلال مصر وطرد المستعمر. والصخرة التى تكفل لنا إسقاط برامج التفتيت الطويلة الأمد هى الثقة المطلقة التامة الراسخة العميقة المتبادلة بيننا جميعا، والوعى العميق منا جميعا بالثقة المطلقة فى ذواتنا، وفى بعضنا البعض، وفى وطننا، وفى جيشنا، وفى مؤسساتنا، مهما طرأت أحداث أو أزمات أو إشكاليات، ومهما إلتبست الأمور، ومهما ساء التفاهم، لأن اليقين التام الذى يعتصم به أى إنسان فى خضم التشكيك والأحداث والأزمات هو أننا اخترنا جميعا أن نعيش معا، وأن نحيا معا، وأن يدافع بعضنا عن بعض، وأن تبقى مصر هى الميثاق الذى يجمعنا جميعا، وأنها الصخرة التى نحتمى بها ونحميها، ونصونها، ومن أهم الخطوات على هذا الطريق قضية نكران الذات، وشدة الحرص على الآخر، والحلم والصبر، والوفاء للوطن، والبر به وبأبنائه، ومعرفة قيمة هذه الأرض عند الله حتى نغار عليها أن ينزل بها أى سوء أو أذي، أو أن ينال متآمر أو حاقد مراده فيها. ثم لا يكفى أن نحذر حذرا شديدا من كل مظاهر برامج التفتيت والانشطار، بل الواجب هو العمل العكسي، بحيث ننطلق سريعا على طريق جمع الشمل، وأن يحتمل بعضنا بعضا، ويثق بعضنا فى بعض، وأن نتجاوز كل الحواجز النفسية وعوامل الارتياب التى يراد لها أن تسرى بيننا، حتى نقابل عوامل التفتيت بمزيد من الالتحام والوعي. لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;