إن نظرت لتاريخ هذا النهار لابد ان تتوقف عند سماته الظاهرة فى تاريخنا المعاصر؛ فهذا اليوم الذى جرى أمثاله وقائع لا تغيب ، ففى يوم يحمل نفس الرقم وإن اختلف وقعت أحداث عاصرها مخضرم مثلي؛ فقد كان العمر اثنى عشر عاما وقفت بجانب المذياع مترقبا مجىء السادسة من مساء السادس والعشرين من يوليو 1952 فأسمع بيان مجلس ثورة يوليو حاملا نبأ تنازل فاروق عن عرش مصر لتبدأ من بعده رحلة الحلم بما يحمله من توتر الرغبة فى أن تخرج مصر من واقع أراده لها استعمار دام 72 عاما، وأضاءت أيامنا شموع أشواق لأحلام تبرق بنور الثقة والفخر ، وطبعا كان هناك آهات لأحلام أخرى تكسرت فسالت الدموع دما لأن تلك الأحلام تكسرت فملأت القلوب ألما ولكن يوليو جاء السادس والعشرون منه منذ أربعة أعوام لتخرج الجماهير المصرية مفوضة لقائد القوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح السيسى لنبدأ رحلة اجتثاث الإرهاب من جذوره مستفيدين مما مضى من دروس كان بعضها قاسيا وبعضها الآخر داميا، ولكن كانت بعض الأيام التى تحمل نفس التاريخ قد مرت علينا وهى تحمل عطر الثقة فى قدراتنا على تحقيق الصعب بل وما يظنه الغير أنه مستحيل . فعن نفسى لا أنسى دخول الدكتور السعيد مصطفى السعيد على مسرح أوبرا الإسكندرية ليعلن لحشد الطلبة ان الرئيس جمال عبد الناصر أعلن منذ قليل قرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس لتصبح شركة مصرية ، ولم تكمل فرقة التمثيل بجامعة الإسكندرية استكمال عرض مسرحية «ثمن الحرية» ولتخرج بعدها جموع الطلبة لتقطع الشارع الممتد إلى ميدان المنشية كان جمال عبد الناصر أعلن منه الخبر الصاعق النازل من سماء الحلم إلى أرض الواقع فتصير به قناة السويس مصرية ، ويخصص عائدها لبناء السد العالى ؛ حلم الإرادة المصرية ، وتجلت براعة عبد الناصر فى اختيار قيادتين ، قيادة التأميم مركزة فى فريق أداره المهندس محمود يونس ، لتنجز ما ظن العالم أنه معجزة ، ثم يتلوه اختيار آخر يماثله فى جدارة الإنجاز وهو اختيار المهندس محمد صدقى سليمان لإدارة مشروع بناء السد ، فأنجز الرجل العمل بدقة التفانى وروعة تقسيم العمل وبراعة الاحتفاظ بجذوة الحماس متقدة حتى بعد مرور بلادنا برحلة الانكسار الصعب فى الخامس من يونيو عام 1967، وهو اليوم الذى تجسدت فيه أخطاء عبد الناصر واضحة لا أمام عينيه فقط، ولكن فى عيون وقلوب جميع المصريين, فكان خروج المصريين والعرب فى مساء التاسع من يونيو 1967 هو إعادة تذكير لعبدالناصر بأن المصريين والعرب قادرون على فعل المستحيل ؛ وصار يوليو هو فرصة أيضا لمعرفة ماذا ينقص تلك الثورة كى تواصل مشوار صيانة كرامة كل مصرى وعربي وكان عام 1956 هو أكبر أعوام ابتسامات الثقة بتأميم قناة السويس ولنحقق الانتصار السياسى الصاعق فى حرب 1956 الذى تستيقظ به ثلاث قارات لتحقق استقلالها وهى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لكن التاسع من يونيو 1967 يطل بهزيمة مريرة جاءت كجرس التنبيه الفعال الذى قال فيه اللواء حسن البدرى المؤرخ العسكرى الأشهر «بين عبور القوات لقناة السويس فى الخامس عشر من مايو 1967 ؛ وبين انسحابها فى التاسع من يونيو 1967انكشفت عيوب مجتمع بأكمله». ومن يقرأ مذكرات القادة عن تلك الأيام يرى كيف تجسدت امام عبد الناصر خطيئة سبق الأمن للخبرة والكفاءة ، فلم يكن عبد المنعم رياض بعيدا عن أعين عبد الناصر بل كان قريبا منها ، وعندما طلبه لإدارة أركان حرب الجيش بعد 1967 استطاع بناء جيش يدافع عن عموم الوطن ؛ ويرحل عبد الناصر قبل بدء معركة التحرير ليكون قائد القوات المسلحة المشير أحمد إسماعيل على هو من دفعة جمال عبد الناصر نفسها ، ولعل ما تميز به السادات خليفة عبد الناصر أنه أوكل الأمر لمن يحسنون إدارته فى مجال القوات المسلحة، عكس ما سبق من أيام ما قبل كارثة يونيو حيث تقدمت فكرة الأمن على جدارة الإنجاز، وكانت الطاعة المطلقة هى هاجس عبد الناصر، برز ذلك من صباح يوم 22 يوليو 1952حيث جرت مراجعة خطة الثورة فى اجتماع اللجنة العليا للضباط الأحرار وكانوا يتوقعون نجاحها بنسبة عشرة بالمائة ، وطلب عبد اللطيف البغدادى من زكريا محيى الدين رجل الأمن الأشهر ومؤسس المخابرات العامة بعد الثورة طلب البغدادى مراجعة خطة الثورة مرة اخرى ؛ فعاتبه جمال «الا تكتفى بمراجعتى لها ؟» . ولعل ذلك كان سمة فى عبد الناصر التى لا يعلن عنها وهو اشتراطه للطاعة المطلقة لكل من يعمل معه او يعاونه ،لكن الهزيمة العسكرية جعلته يقف فى مواجة أخطائه فاختار قادة من أهل الكفاء يستطيعون تحقيق النصر . ولكن من بقايا فكرة الأمن فى ذلك الزمن هو احتفاظه بالاثنين اللذين لم يعارضانه أبدا وهما أنور السادات وحسين الشافعي. وكان لعبد الناصر بعض الحق فى سيادة فكرة الأمن على جدارة التميز فى إدارة المواقع ، فقد استطاع تطبيق أول خطة تنمية شاملة برجال الولاء التام ، وكان من حسن حظه اختياره للمهندس محمد صدقى سليمان للقيام بمسئولية ومتابعة بناء السد العالى كما سبق وان تطابق التفوق الفردى مع الأمن بالولاء فى شخص محمود يونس المسئول عن رحلة إدارة قناة السويس منذ لحظة التأميم. لكن الجرح الغائر فى أولوية فكرة الطاعة المطلقة على فكرة الجدارة فقد القاها السادات ايضا من وراء ظهره خصوصا فى الشأن الداخلى لكن بقيت فكرة التميز مقصورة على القوات المسلحة وحدها . ويجب ألا ننسى النكتة القاسية التى قيلت من أن السادات سار على طريق جمال عبد الناصر بأستيكة تمحو ما سبق من إنجاز ، ولا يمكن أن ننسى أن المرشد السرى للإخوان المسلمين حلمى عبدالمجيد جاء من وظيفته التى كان عثمان أحمد عثمان قد عينه فيها بفرع المقاولون العرب بليبيا ، جاء حلمى عبد المجيد ليعود به ومن خلاله تنظيم التأسلم الكاذب وليظهر بعده عمر التلمسانى الوجه الناعم ، ليتلوه الوجه المتوحش مصطفى مشهور التلميذ الوفى لسيد قطب وهو من قام على سبيل المثال لا الحصر بتجنيد محمد مرسى وخيرت الشاطر ، وفتح قنوات التواصل بين التأسلم وبين أجهزة المخابرات التى انتهزت فرصة عصر مبارك لتتوغل فى تفاصيل الحياة المصرية . وبعد أن اهتز الضمير المصرى رفضا لحالة إعادة احتلال مصر لتصبح ولاية فى إمبراطورية أردوعان جاء الثلاثون من يونيو ليركل التأسلم الكاذب بعيدا عن حكم مصر، وليأتى من بعده السادس والعشرون من يوليو ليعطى المصريون تفويضا لعبد الفتاح السيسى لإعادة تصحيح مسار ما مضى من أيام وليزيل عنا ركود غياب الكفاءة الذى بدأ إدمانه من أيام السادات واستمر طوال عهد مبارك . .... وما مضى من كلمات كان بعضا مما يزدحم به القلب من محبة لثورة يوليو وعتابها أيضا . لمزيد من مقالات منير عامر