منذ زمن لا يستهان به ؛ صرت أدعي لنفسي معرفة بعض من ملامح اللغة السرية التي يتعامل بها عموم المصريين على أحداث التاريخ العملاقة . وعموم المصريين الذين أعرف الكثير منهم؛ وأصدق محبتهم لبلدنا؛ فهم ينتمون الى هذا الشعب السري الذي تمر به الكروب فيعتبرها مجرد صدمات ، ويرد عليها بقوة مشهودة قد لاتعرفها كثير من شعوب الأرض . المثل الواضح الذي هو ذلك الكرب العملاق الذي أريد له أن يسحقنا عندما عصف بنا ؛ وهو كرب هزيمة يونيو 1967 ، وكان مدهشا للكون كله خروج المصريين مساء التاسع من يونيو رفضا للهزيمة التي كان جوهرها اسقاط نظام نظام23 يوليو ؛ فخرجت الجموع لتصدر قرارها بتثبيت جمال عبد الناصر في موقع القيادة. وتمضي سنوات ست ليحقق المقاتلون المصريون نصرا مازالت تدرسه الأكاديميات العسكرية حتى كتابة هذه السطور. وجاءنا كرب يختلف في شكله وواقعه عن كرب هزيمة يونيو، وهو كرب سرقة ثورة الخامس والعشرين من يناير لنعيش تحت غباء المتأسلمين عاما كل ثانية فيه كابوس يحترف التزوير بلا كلل ،و ضاع منا شباب دفع أهله دم قلوبهم من أجل أن يشبوا ليبنوا حياتهم بعد اربعين عاما من بيع اكاذيب الانفتاح العاهر؛ واذكر منهم الحسيني ابو ضيف الصحفي الشاب ، ومحمد ابو شقرة الضابط الشاب ؛ وفضيلة الشيخ عفت ابن دار الافتاء ، وأذكر الثلاثة كأمثلة ونماذج لعشرات غيرهم ، ولكن جاء الثلاثين من يونيو كحقيقة صاعقة تطرد المتأسلمين من سدة الحكم، ويتلو ذلك مشروع توافق وطني خرج في الثالث من يوليو لنخطو الى مستقبلنا الذي ترفرف من فوقه أحلام الخامس والعشرين من يناير من عدل وخبز وحرية وكرامة انسانية، ويتأكد الولاء لتلك الأحلام في السادس والعشرين من يوليو بتفويض السيسي للقضاء على الأرهاب ، وعاد تأكيد هذا الاختيار عبر انتخابه بنسبة غير مسبوقة في التاريخ المصري ، ليأتي عموم المصريين من جديد ليدلوا باصواتهم تأييدا لدستور مثالي ، يحتاج الى فترة زمنية مناسبة نختبره فيها ثم نعيد النظر فيه اما لنبقيه كما هو أم نعدله بما يناسب ظروفنا ، فهو من صناعة بعض منا ، ولم ينزل الينا كبلاغ سماوي . ومضى وقت لابأس به ؛ تعززت فيه ثقتنا بأنفسنا عبر مشروع ازدواج المرور بقناة السويس ؛ لتأتي بعد ذلك انتخابات مجلس النواب لتشترك فيها احزاب مازالت تحبو وأحزاب أخرى كان لها تاريخ ولم تعد مناسبة للتعبير عنا ، فضلا عن قيام بعض من رجال الاعمال بتحويل أكثر من حزب الى قفاز في أيديهم لعلهم يستمرون في امتصاص دماء المستقبل تأسيسا على قواعد الانفتاح العاهر ، متجاهلين ما وضعه السيسي أمامهم عبر صندوق « تحيا مصر» فلم يضعوا فيه الا أقل القليل ، منتظرين ما سوف تأتي به انتخابات مجلس النواب ليتحكموا في مفاصل الاقتصاد ويذيقوا المصريين مرارات فوق ما تحملوه من مرارات أيام السادات _ مخترع الحياة لتيار المتأسلمين _ ومرارات أيام مبارك صاحب كعكة التنمية التي تمطر اللبن والعسل على قلة تكتنز وتقوم بتهريب ما اكتنزته ، وهم من شاركوا المتأسلمين في محاولتهم لزراعة الفرقة بين الجيش وعموم سكان المحروسة . وطبعا كان هناك جوقة لصوص الحلم الذين ذهبوا الى عصر الليمون على الأصوات ليعلو محمد مرسي الى سدة حكم مصر، وليخرج قرب اكتمال الانتخابات صوت أيمن نور ومعه وائل غنيم وغيره من سدنة الحلم باستمرار نهب مصر ، وليكن النهب الجديد محميا بانتخابات مجلس النواب . وجاءت المفاجأة وهي عدم خروج الكثير ممن لهم حق الانتخاب ، فجاءت النتيجة للمرحلة الأولى باهتة ، توجزها امرأة سكندرية قالت في اليوم الثاني للجولة الأولى « أنا مكتفية بثقتي في عبد الفتاح السيسي .. وخرجت لادلي بصوتي فقط مجرد ممارسة لحقي في اختيار من سأضعه في اختبار «. وطبعا لم يكن الزهق بعيدا عن قلب ووجدان عموم المصريين وهم يشاهدون وجوها قديمة علاها صدأ ما نهبوه أيام مبارك ، وصدأ وجوه قبلت دور القفاز لاهل الثروة الحرام . وزهق عموم أهل المحروسة يبدو كزالزال ينذر ببركان مكتوم ضد هؤلاء الذين يريدون من مجلس النواب أداة لعودة مصر الى عصر النهب العلني الذي بدأ مع السادات واستمر مع أيام مبارك ، وعاد ليغلف نفسه بدعوى التأسلم . ويكاد ينطبق عليهم القول الذي يتطابق مع النبوءة ، ونطق به أستاذ علم النفس الراحل النبيل د. صلاح مخيمر محدثا جمال عبد الناصر في مؤتمر اقرار الميثاق الوطني عام1962 ؛ وهو عام بدء تكون الطبقة الجديدة التي مهدت الأرض لعدوان يونيو 1967 ، قال صلاح مخيمر لجمال عبد الناصر « يا معلم الشعب .. ان الذين حولك كالمرايا .. يعكسون الضوء الصادر منك اليك ، ويعطون وجه المرآة الأسود للشعب «. وطبعا كان من هؤلاء من اقترح بيع قناة السويس؛ فتصدى لها الراحل النبيل استاذنا احمد بهاء الدين؛ ومنهم من سعى الى اخراج ثعابين التأسلم متعاونا من أجهزة مخابرات الغرب . ودارت لعبة تأسيس برلمانات يمكن لبعض جلساتها أن تكون مصدر الهام لكتاب الكوميديا السوداء ، دفعنا ثمنا لها مزيدا من التخلف . وأقول لكل عضو ذاهب الى حصانة البرلمان ظنا منه أنها سياج تحميه، عليه أن يراها قضبان سجن غير مرئي من عدم تقدير الناخبين ؛فلن يقبل المصريون نائبا يحترف الضجيج ولا يؤمن بدراسة كل موضوع بالعمق اللازم وصولا الى القرار اللازم المناسب . لقد كان زهد عموم المصريين في الذهاب الى الانتخابات ابنا لما عاشوه من انتخابات فيما قبل ثورة يوليو وفيما بعد ثورة يوليو ، فتاريخ عموم المصريين مع البرلمان مليء بتذكرات الخطايا ، فالمخضرمون أمثالي يتذكرون ألاعيب فؤاد سراج الدين في البرلمان السابق لثورة يوليو، لمنع مناقشة فساد البورصة التي رفعت أسعار قنطار القطن الى حدود غير عادية ، ليبيع هو وزينب هانم الوكيل أقطانهم ، ثم خفض سعر القطن الى الحضيض ليشهد الريف انتحار بعض من صغار المزارعين. أما برلمانات ما بعد يوليو فهو _ على سبيل المثال لا الحصر _ عدم قدرتهم على عزل كمال الدين حسين الذي كان عضوا في مجلس الثورة ، ثم وزيرا للتعليم ؛ وأفسد بقراراته ما يعجز العقل عن تصوره ، أذكر له قرار اغلاقه معهد التربية العالي بالاسكندرية ، واذكر له قرارات التدخل في المقررات الدراسية بالجامعة، فضلا عن تقريبه للمنافقين وعزل أهل الرأي من مواقع القيادة . أما برلمانات السادات فيكفيها خجلا أن ضمت في عضويتها اسماء مثل عبدالوهاب الحباك وهو الذي مات في السجن بعد بيعه لشركات تتبع القطاع العام وكان الثمن بخسا ، ويكفي برلمانات مبارك أخرها ؛ الذي اختار أعضاءه رمز زواج السلطة والثروة أحمد عز. اما برلمان المتأسلمين فيكفيه أن ضم من يحفظون عشرات المئات من الفتاوى عن صحة الوضوء بكيفية مسح الخف، ومن قاموا بتسهيل دخول الارهابيين الى سيناء. ولذلك لم انزعج من عدم اقبال عموم الناخبين على صناديق الاقتراع ، الذين يتملكهم زهق التساؤل عن خريطة تنفيذ ما اتفقنا على انه جوهر ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو من عدل وحرية وخبز وكرامة انسانية. وتحقيق ذلك في منطقة من العالم تمور بزلازل التخلف مرة بدعوى التاسلم ومرات من العجز عن التحرر من وصاية من يقودون المنطقة الى هاوية التشرذم . وما اصعبها من مهمة ارجو ان يعي البرلمان القادم آفاقها . لمزيد من مقالات منير عامر