لايأتى هذا نهار التاسع من سبتمبر دون أن تتوالى على الذاكرة مشاهد من التاريخ ، حيث وقف الضابط المصرى أحمد عرابى ليبلغ الخديو توفيق أننا لسنا عبيد إحسان أحد. وحين تواطأ الخديو مع الإنجليز تطوع البسطاء ليكونوا جنودا لعرابي, وحين تحرك به القطار ليحارب فى التل الكبير تزاحم الفلاحون حول القطار يحملون شكاويهم من استبداد وسوء معاملة ملاك الأراضى من شركس وأتراك وخدم عائلة محمد علي، ثم يأتى احتلال إنجلترا لمصر ، فنغرق فى دوامات الكلام الذى لا يحرك ساكنا فى وجود الإحتلال ، إلى أن يأتى ضابط آخر اسمه جمال عبد الناصر ليرى أن مصر يجب ألا تبقى مجرد قرية خلف البحر المتوسط ، يسبح مثقفوها عبر أحزابها الهشة فى بحور وموجات من كلام ، بينما يتهدد الوطن كله بثلاثة أعداء داخليين ، هما الجهل والفقر والمرض ، فيتحرك فى يوم بدا فى حياتنا كيوم رسول يصلنا بكرامتنا هو يوم الثالث والعشرين من يوليو ، ويكون التاسع من سبتمبر هو يوم تسديد ديون الفلاحين ، بتوزيع أراضى الإقطاع على معدميهم ، فيعلمون أبناءهم ويرتقون إلى تحضر قام بالوقوف بجانب عبد الناصر وهو يؤمم قناة السويس ، ويشهد الكون على أن من حق المصريين فى حياة لائقة مقبولة ، هو أمر صنعه المصريون بخطة خمسية أولى مازال ما بقى منها نورا وحماية لهذا البلد. وإذا كان عرابى قد أخطأ حين استمع لرأى ديليسبس فلم يردم القناة ، بينما كان ديليسبس يوالس مع الإنجليز ، فعبد الناصر أخطأ أيضا حين ارتكن إلى أهل الثقة ولم يصل إلى تنظيم سياسى قادر على حمل أهداف مصر لذلك كان من السهل أن تتأكل جدية يوليو, فتربع على قمتها أهل ثقة يجهلون فن تقدير المواقف ولا يحسنون هضم علوم العصر ، فيأتى انكسار عام 1967 مدويا وليعيد عبد الناصر النظر حوله فيستطيع عبر قوة الضبط عند الفريق محمد فوزى وقدرة العلم عند الفريق عبد المنعم رياض أن يعيد بناء الجيش الذى أذاق إسرائيل ويل حرب الاستنزاف، وهو الويل الذى مازالت سطوره مكتوبة فى وجدانهم، ويأتى أنور السادات لينفذ خطط قادة القوات المسلحة فى العبور المعجز بكل تفاصيله، لكنه يترنح تحت ضغط طبقة كان يحلم بالانتماء لها ، طبقة المقاولين ورجال الأعمال ، فتتقن تلك الطبقة تزييف الدين لتجعل من الشباب الباحث عن مستقبل مجرد خنجر فى خصر الوطن ، ويكون اغتيال السادات هو ناتج عدم قدرته على قراءة خريطة الواقع الحالم ببناء مستقبل مقبول لعموم أهل المحروسة ، ويركن من جاء بعد إنتصار أكتوبر للولايات المتحدة التى عاملتنا بنفس المبدأ القاتل والذى وضع أساسه بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل ، حين قبل قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين ، ثم عمد إلى تفريغ القرار من محتواه ، وإدمانه لرفض السلام بين إسرائيل والعالم العربى ، رغم وساطات العديد من القوى العالمية . ولعل رسائل البحث عن السلام الشامل قد أخذت جزءا لا بأس به من تفكير عبد الناصر كى يلتفت العالم العربى لاقتحام بناء الحياة اللائقة بمجموع سكانه ، ومن يقرأ مذكرات إيريك رولو ومذكرات العديد من قادة فكرة تأسيس إسرائيل مثل ناحوم جولدمان يمكن أن يرى إصرار بن جوريون على تفتيت فكرة السلام مع العالم العربى بأكمله مفضلا المفاوضات المجزأة، وهو ما احترفه من بعد ذلك هنرى كسينجر ، ومنذ أن وطأت أقدام كسينجر الأرض العربية ، قامت المؤسسات العلمية الامريكية بدراسة المجتمعات العربية كى تستثمر مافيها من تناقضات، فكل مجتمع يضم طوائف وعقائد، فإذا ما تم تضخيم المطالب عند كل طائفة، ضمنت القوى الخارجية تفتيت المجتمع، والمثل الواضح على ذلك ما جرى فى بغداد، فبعد أن هيأ الذكاء المحدود لصدام حسين حلم أن يكون قائد الأمة العربية بعد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل حتى بدا العالم العربى فى التفكك وكأن ما حققه العرب من تضامن فى حرب أكتوبر 1973 صار هباء منثورا, وتم اصطياد صدام بمصيدة تزيين احتلاله للكويت ، لينتهى الأمر باحتلال العراق بأكمله ، وليتم تفتيته بالطائفية بين السنة والشيعة ، ولا أنسى قول شريف بسيونى عميد حقوق الإنسان بجامعة دى بول بشيكاغو وهو واحد ممن وضعوا دستور العراق الحالى، ولا أنسى قوله وهو يذكرنى فى الأسبوع الماضى بأن ما فعلته الولاياتالمتحدةبالعراق من فرقة أخذ فى التلاشى، وكأن ما حدث فى 30 يونيو فى مصر من إصرار على التوحد وعدم التفكك باسم الدين ، كأن ذلك الحرص على وحدة المجتمع قد صحا فى العراق ، وهاهى الطائفية هناك تسقط تحت أقدام المتظاهرين . ولعل ما جرى فى بيروت من رفض للطبقة السياسية بأكملها، كطبقة تكرس وجودها على أساس طائفى ، لعل ذلك هو الأثر الفعال لثلاثين يونيو على لبنان وهو أثر قد يغير من شكل لبنان ككل، ولكن مازال مبدأ فئة مغلوبة تقاوم فئة قد تغلبها ، هو ما يؤسس الصراع فى ليبيا ، ذلك البلد الذى قام القذافى بتجريف ثرواته, وقدراته ، فكان سقوطه سهلا بعد أن ظن الغرب أن مصر قد غرقت فى مستنقع المتأسلمين ، لكن مصر أزاحت من واقعها قناع التأسلم الذى يخفى تحته إستعمارا جديدا بتكلفة قليلة ، حيث حلم المتأسلمون تقسيم مصر وعرضها فى مزاد الخلافة الأهوج الذى يتزعمه أوردغان . يأتى التاسع من سبتمبر هذا العام وقد شاهدنا الشخص الذى قام المصريون بإملاء أحلامهم على خطواته ، وهو عبد الفتاح السيسى ، وهو يجوب العالم بغربه وشرقه مقدما للبشرية نموذج تأخ نادر . ولكن هذا النموذج يجد الترصد ممن أسماهم السيسى أهل الشر هؤلاء الذين يترصدون رحلة المصريين لبناء واقع حياة مختلف . وقد جرب أهل الشر مع المصريين كل الألاعيب، فتنة طائفية ، محاولة تفتيت المجتمع بمسلسل الأطماع الصغيرة، بتزكية الخلافات حول اللحظة الراهنة ولحظات المستقبل، وحتى كتابة هذه السطور مازال المجتمع المصرى متماسكا على الرغم من جراح الفجوة بين طبقة سياسية مترهلة ومهلهة وبين جموع المصريين الذين علموا ساسة العالم كيف يكون البناء باختيار زعيم يملك حلما وطاقة عمل ، فما أن دعاهم لتمويل مشروع حفر قناة السويس حتى كان لدى البنوك أكثر من ستين مليار جنيه فى سبعة أيام ، ولم يمض سوى عام حتى صارت القناة الجديدة واقعا، ولتهدينا السماء آبار الغاز المسماة «ظهر» فى البحر المتوسط ليكون المخزون فيها ما يوازى مائة وخمسين مليار دولار على الأقل . ترى هل يرتدع أهل التجارة بالسياسة ، فيعيدون دراسة الواقع ويختارون للبرلمان القادم رجالا لايغرقون فى مستنقع الأطماع الصغيرة ، ويكون الواحد منهم قادرا على أن يضحى بالوقت لا باحثا عن استفادة من كرسى البرلمان ؟ أكتب ذلك وفى قلبى حلم دراسة تاريخ كل مرشح للبرلمان ومصدر تمويل حملته الإنتخابية ، وإعلان ذلك على المجتمع . وأكرر من جديد أن من يمثلنا فى مجلس التشريع عليه أن يقبل الحصانة داخل المجلس فقط لا خارجها ، وأن ينتهى مشهد تزاحم النواب على الوزراء ، فمجلس يؤازر عبد الفتاح السيسى عليه أن يعى مسئولتيه أمام صناعة مستقبل يشذب من شراسة رجال أعمال عصرى السادات ومبارك ، ويعيد إكتشاف قيادات مصرية قادرة على العمل لعموم أهل مصر لا لصوص يتربعون على كراسى سلطة التشريع لتعبئة خزائن الثروة بما يتم نهبه من خيرات هذا البلد. وحين أحلم بأن نمنع هؤلاء اللصوص من الوصول إلى البرلمان ، فهذا ليس حلمى الشخصى فقط ولكنه حلم عموم المصريين. لمزيد من مقالات منير عامر