على عكس التوقعات والمخاوف الفرنسية من انسحاب سريع للنفوذ من أفريقيا فى عهد الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون، إلا أن مفاجآت الرئيس الشاب لم تقف فقط عند حدود الداخل، حيث إعلانه من العاصمة المالية باماكو استعداد بلاده تقديم دعم مادى وعسكرى مفتوح لدول الساحل حتى نهاية العام الحالى 2017، وهو ما يعد تأكيدا لأهمية استمرارية الدور الفرنسى فى القارة السمراء. وتأكيدا لهذا الالتزام من جانب ماكرون بالإبقاء على النفوذ فى أفريقيا، استكمالا لنهج سابقيه، أطلق الرئيس الفرنسي الأحد الماضي مشروع القوة الإقليمية المشتركة لمكافحة الجماعات والتنظيمات الإرهابية تحت اسم «التحالف من أجل الساحل»، إلى جانب رؤساء كل من موريتانياوماليوالنيجر وبوركينا فاسو وتشاد. ويصل قوام القوة الجديدة إلى 5 آلاف جندي ينضمون إلى 4 آلاف جندى ضمن القوات الفرنسية «بارفين» الموجودة فى باماكو، أيضا قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة الأممالمتحدة «مينومسما» والتى تتألف من 12 ألف جندى، وذلك بتكلفة 400 مليون يورو تقدم منها فرنسا وحدها 8 ملايين يورو حتى نهاية العام، على أن تنتشر هذه القوة في البداية على حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ومركز قيادتها في سيفاري بوسط مالي. من جانبه، وعد الاتحاد الأوروبي بتقديم 50 مليون يورو دعما منه للقوة، على اعتبار أن الالتزام العسكري الفرنسي في الساحل يحمي أوروبا برمتها. وذكر قصر الإليزيه أن فرنسا تعول خصوصا على ألمانيا وهولندا وبلجيكا، كما تأمل في «دعم ملموس» من الولاياتالمتحدة الحاضرة عسكريا فى أفريقيا أيضا، من خلال تسيير طائرات بدون طيار من النيجر. وفى السياق نفسه، رحب مجلس الأمن في الأممالمتحدة بنشر هذه القوة، لكن من دون أن ينص على أي تفويض أو تخصيص أموال، وهو ما ألقى الضوء على أن مسألة تمويل القوة الجديدة ستكون من أبرز التحديات، خاصة وأن فرنسا تعاني عجزا كبيرا في الميزانية يحتم عليها تقليص نفقاتها، من ثم الاعتماد على المساهمات الدولية بشكل أكبر. وفى هذا الإطار، هدد الرئيس التشادي بالانسحاب من العمليات العسكرية في أفريقيا لأسباب مالية داخلية، علما أن بلاده ملتزمة عسكريا مع «مينوسما» ومع قوات إقليمية ضد جماعة بوكو حرام الإرهابية النيجيرية. وتأتى تحركات ماكرون الأفريقية مخالفة - وعلى ما يبدو - لما سبق وكشف عنه موقع «لوموند أفريك» الفرنسى المهتم بالشئون الأفريقية، إذ حذر الموقع في مطلع يونيو الماضى من أنه وبعد تعيين الرئيس الفرنسى النائبة الأوروبية سيلفي جولار حقيبة الدفاع خلفا لوزير الدفاع المخضرم جان إيف لودريان، وتسليمه حقيبة الشئون الخارجية، فإن فرنسا مهددة بخسارة علاقاتها ونفوذها في القارة السمراء، على اعتبار أن لودريان قام خلال خمس سنوات فترة ولايته كوزير للدفاع، بجولات في 64 دولة، عرف خلالها بحكمته وخبرته الواسعة فيما يخص أفريقيا عسكريا واقتصاديا أيضا، وأنه لعب دورا مهما بجانب الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند في السياسة الخارجية الفرنسية، في ملفات أفريقية عديدة، في المغرب والجزائر ومالي وتشاد وجنوب السودان، ودفع بالجيش الفرنسي في معارك منطقة الساحل الأفريقي وجمهورية أفريقيا الوسطى. الأمر الذي اعتبره محللون نجاحا لأولاند رغم نكساته الداخلية التي عرضت فرنسا ل 17 هجوما إرهابيا منذ 2014 من 51 هجوما شهده الغرب. واعتبرت المجلة أن مجيء ماكرون إلى سدة الحكم وإسناده وزارة الشئون الخارجية للودريان، حرم فرنسا من وزير دفاعها المخضرم، ليكتب بذلك نهاية النفوذ الفرنسي في أفريقيا، واستبدال تلك السياسات بأخرى اقتصادية، لا أحد يتوقع جدواها، إلا أن ماكرون نجح سريعا فى إعادة تأكيد استمرارية الدور العسكرى لبلاده فى أفريقيا عبر بوابة «محاربة الإرهاب»، إلا أنه ربط بقاء دعم بلاده وزيادته من جانب شركائه فى الغرب بمدى التزام الدول المشاركة فى القوة بضرورة تنفيذ «إصلاحات مؤسساتية»، حيث قال إنه «لضمان دعم مستدام سيكون عليكم وعلى جيوشكم أن تقنع بأن مجموعة دول الساحل الخمس يمكن أن تكون فاعلة في نطاق احترام الاتفاقيات الإنسانية، ويجب أن تكون هناك نتائج لإقناع شركائنا». وعلق موقع «دويتشه فيله» الألمانى على خطوات ماكرون بقوله إن الوجود الفرنسي في أفريقيا يركز إلى حد كبير على استمرار سيطرته على مستعمراته السابقة، حيث ما زال استخدام اللغة الفرنسية إلزاميا، أيضا ما زالت هناك عملتان في أفريقيا تشهدان على مدى التأثير والوجود الفرنسي، هما فرنك غرب أفريقيا، وفرنك أفريقيا الوسطى، ويحتفظ باحتياطي العملة في البنك المركزي الفرنسي، الذي تنتمي إليه 15دولة أفريقية. وأكد الموقع أنه ومن مظاهر الهيمنة الفرنسية على الدول الأفريقية محافظة شركاتها العملاقة للبناء والبترول والاتصالات على وجود كبير في المستعمرات السابقة، مشيرا إلى أن الشركات الفرنسية تستورد السلع من بلدان غرب ووسط أفريقيا، مثل خام اليورانيوم من النيجر والجابون والكاكاو من كوت ديفوار، حيث ما زال يتمركز نحو تسعة آلاف جندي فرنسي هناك، وتتمثل مهمتهم في محاربة الإرهابيين وتدريب القوات الإفريقية كما تزعم فرنسا». هكذا فإنه وما بين مكافحة الإرهاب وصورة المستعمر السابق الذى ما زال يأمل بضمان استمرارية الهيمنة والنفوذ عبر دعوات الإصلاح والتغيير الديمقراطى، فإن ماكرون وعلى ما يبدو سائر على درب سابقيه فى أفريقيا دون تغيير حتى الآن. وكما قال سلفه السابق فرانسوا ميتران في عام 1957إنه «بدون أفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الحادى والعشرين».