بنفس أساليبه العتيقة, يعود النظام السوداني المرة تلو الأخري لمواجهة مشكلاته, وكعادته قام بالتهوين من حجم وقدرة الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات التي تدخل أسبوعها الرابع في السودان. وعاد الرئيس السوداني عمر البشير ليصف المتظاهرين ب'الشماسة' أي أولاد الشوارع, ويبشر في خطاب ألقاه أخيرا بأن الدستور القادم سيكون' إسلاميا',ونموذجا لدول الجوار التي تصعد فيها قوي إسلامية, رغم أن مشاكل عموم الشعب السوداني الآن لم تزل تنحصر في لقمة العيش وحبة الدواء وكوب الحليب وثمن المواصلات وغير ذلك من ضرورات الحياة, وتزداد حدة الجوع والعطش والمرض والمعاناة في مناطق النزوح والتشرد والحروب المفتوحة في أنحاء السودان, حتي أن منظمة أطباء بلا حدود حذرت من أن تسعة أطفال يموتون يوميا في مخيمات النازحين من الشمال إلي جنوب السودان. ورغم الإستهانة الحكومية بموجة الإحتجاجات فإنها قد أحدثت كثيرا من التغييرات في الموقف السوداني بكل أبعاده, حيث أصبح التغيير الآن هدفا وشعارا ليس فقط للشباب والجماهير المشاركة في الاحتجاجات شبه اليومية,أو لأحزاب المعارضة التي اتفقت أخيرا علي إسقاط النظام وإيجاد البديل الديمقراطي له, أو من قبل الحركات المسلحة التي تسعي لإسقاط النظام بالقوة, بل أصبحت قطاعات كبيرة من الشعب تتحدث عن ضرورة التغيير, ومالبثت أن تحولت المظاهرات ضد الغلاء وارتفاع الأسعار إلي التنديد بمجمل سياسات النظام والدعوة إلي إسقاطه, وعلي غرار الثورات العربية بدأ السودانيون تسمية أيام الجمعة, من الكتاحة أي العاصفة الترابية, إلي لحس الكوع وهي العبارة التي كان يقولها المسئولون السودانيون لتحدي المعارضة والشعب السوداني أن تكون لديهم القدرة علي الخروج ضدهم, إلي' شذاذ الآفاق' أي الخارجين علي القانون أوالعصابات, وهو الإسم الذي وصف به الرئيس السوداني المحتجين. والنظام السوداني لايعترف بمسئوليته الحقيقية عن الأوضاع التي آل إليها السودان بعد23 عاما من حكمه, عن ذلك, بل يواصل ذات أساليبه القديمة, في التهوين من حجم المشكلات, والتقليل من شأن المعارضين, فالمظاهرات لاوجود لها في نظر بعض القيادات, أوهي مجرد عمليات تخريب, ومن يقومون بها أشخاص تم تحريضهم, أوهي مؤامرات تقف وراءها جهات صهيونية وغربية ودولة جنوب السودان. وقد لجأ النظام إلي تشويه صورة المتظاهرين السلميين, ونسب إليهم تهمة القيام بعمليات تخريب, ولم يكن حديث القيادات السودانية عن هذه الأوصاف المهينة والإتهامات بالعمالة والخيانة والمؤمرات الخارجية جديد تماما, فسبق أن رددها مرارا وتكرارا بحق كل معارضيه سابقا في الشمال والجنوب, مضيعا بذلك إيجاد فرص حقيقية لحل المشكلات. واليوم تجذب هذه المظاهرات والإحتجاجات أنظار العالم, وتجلب للنظام مزيدا من السخط والإدانات الدولية, رغم كل الصعوبات التي يواجهها المحتجون, والقبضة الحديدية للأجهزة الأمنية السودانية التي تكاد تعصف بهم. والمنافسة حامية الآن بين فريقين في السودان, كل منهما يريد أن تكون له الغلبة, فريق يريد إستمرار شعلة الإحتجاج ليحرق بها النظام كله ويطيح به, بعد أن مزق وحدة البلد, ويهددها بمزيد من التمزق في حال استمرار سياساته الحالية, وفريق آخر يضم الحكومة وأنصارها الذين ترددت أنباء أنهم سيخرجون أيضا في مظاهرات للدفاع عن الوطن والعقيدة,في رد علي تظاهرات المعارضة. ومن المؤكد أن الرد علي المظاهرات بمظاهرات أخري, وعلي الحشود بحشود مماثلة, وعلي التهم بتهم غيرها لن يحل المشكلات الآن في السودان, وهناك الآن حاجة ملحة إلي تجنيب السودان دفع مزيد من الأثمان التي دفعها علي مدي العقود الماضية بشكل باهظ من وحدته شعبا وأرضا ومن سمعته وكرامة أبنائه الذي توزعوا في أنحائه, وعلي أرجاء الدنيا نازحين ولاجئين. واليوم هناك حاجة ماسة لحقن الدماء في حروبه المفتوحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, وإلي جمع مواطنيه علي صعيد واحد, ولن يتحقق ذلك إلا بحلول جادة, يقدم فيها النظام الحاكم تنازلات حقيقية من أجل حلول عادلة ودائمة تحقن الدماء في الداخل ومع دولة الجنوب, والطريق الصحيح هو دائما أقصر الطرق للحل, خلافا للطرق التي انتهجها النظام في السابق, ولم تؤد سوي لإهدار فرص السودان في الإستقرار والتنمية والتقدم, وإلي بث الفرقة والشقاق والحروب بين أبنائه, وبالتالي فإن البحث عن حل سياسي اليوم هو الحل الأمثل والأقل تكلفة, لكن هذا الخيار, ترفضه الحكومة التي تأمل في قمع المظاهرات التي تراها محدودة, وتراهن علي أنها يمكنها حل مشكلتها الإقتصادية رغم سوداوية المعطيات الحالية, وبدورها المعارضة بشقيها السياسي والمسلح تريد إستغلال الإحتجاجات الحالية وتصعيدها, وعدم التوقف حتي إسقاط النظام, غير مبالية بالصعوبات والتحديات الكبيرة من أجل تحقيق هذا الهدف. ولكن مايعوق الحل السياسي المنشود هو فقدان الثقة السائد بين كل الأطراف, ولاسيما الحكومة التي ينظر لها معارضوها علي أنها لاتفي بالعهود والوعود.