«نحتاج إلى حقائق، هناك من يسعى لإلحاق الأذى بالرئيس، ولابد أن نواصل تحقيقاتنا بغض النظر عن الحزب المسيطر على البيت الأبيض».. لم تكن هذه سوى محاولة جمهورية يائسة من قبل بول ريان رئيس مجلس النواب لتأكيد حياد الكونجرس فى مواجهة الحرج الذى تسبب فيه الرئيس دونالد ترامب بإقالته لجيمس كومى مدير المباحث الفيدرالية «إف بى آي» فى خضم أزمة التحقيقات حول العلاقة المثيرة للجدل بين واشنطن وموسكو. وبقدر الاعتدال المفترض الذى تحمله هذه الجملة، فإنها تحمل فى طياتها أيضا رسالة تحذير خفية وإعلان الحرب على كل من يلاحق الرئيس ويتصيد له الأخطاء ويؤرق الحزب الجمهورى الذى يتمتع حاليا بأزهى عصوره، ولكنها تكشف عن أن الحصول على الحقائق أصبح صعبا فى وقت تصاعدت فيه الحروب الداخلية ليس فقط بين البيت الأبيض ووسائل الإعلام، ولكن على ما يبدو بين أجهزة الأمن والبيت الأبيض أيضا. منذ انطلاق الحملة الانتخابية لترامب وهناك حالة من العداء العلنى غير المسبوق بينه وبين وسائل الإعلام الأمريكية، كان الأمر فى البداية يبدو كما لو كان جزءا من الديمقراطية التى تتباهى بها الولاياتالمتحدة، ولكن الأمر تعدا فيما بعد خيالات الديمقراطية وتحول إلى حرب واقعية دفعت الرئيس الجديد إلى إهانة مراسلى مجموعة من أبرز الشبكات الإخبارية الأمريكية واتهامهم ب «الكذب» والتلاعب بالحقائق و«الفبركة» فى أول مؤتمر صحفى له فى البيت الأبيض. كما أنها وصلت إلى حد مقاطعة ترامب للعشاء السنوى لرابطة مراسلى البيت الأبيض، واستغل أول تجمع شعبى يشارك فيه لتصعيد الحرب بينه وبين الإعلام، ليغذى الحرب الإعلامية المشتعلة بين الصحف والقنوات الموالية للجمهوريين وتلك المؤيدة للديمقراطيين، وبالتالي، تضيع الحقائق ويسقط المواطن ضحية الصراعات السياسية على مختلف المستويات. والطريف أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، ولكن مع انطلاق أزمة كومى تأكد مدى التواطؤ الغريب بين أجهزة الأمن الأمريكية ووسائل الإعلام المعادية لترامب. فالكشف عن التسجيلات المثيرة للجدل لمايكل فلين مستشار الأمن القومى المستقيل خلال مكالمته للسفير الروسى فى واشنطن قبل تنصيب ترامب رسميا كرئيس للولايات المتحدة يناير الماضى جاء عبر صفحات «واشنطن بوست»، وهى نفس الصحيفة التى فجرت أزمة إفشاء ترامب لأسرار الدولة خلال لقائه مع سيرجى لافروف وزير الخاروجية الروسى الذى حضره عدد محدود من مسئولى الجانبين فى المكتب البيضاوى بالبيت الأبيض، ومرورا، بأزمة إقالة كومى وما صاحبها من الكثير من الأقاويل والتكهنات وأنباء التحقيقات. والملاحظ، أن أجهزة الأمن الأمريكية وقفت وراء تفجير فضيحة مكالمة فلين، حيث كانت هى الجهة الرئيسية صاحبة الحق فى تسجيل المكالمة ووراء تسريب الخبر أيضا. أما فيما يتعلق بفضيحة إفشاء الأسرار، فمن المستبعد أن يكون أحد المسئولين المشاركين فى الاجتماع هو من سرب المحادثات الثنائية، ومن ثم فإن أصابع الاتهام تتجه هذه المرة أيضا إلى أجهزة الأمن، والمتوقع أنها هى من سجلت المحادثات ثم سربتها للصحافة ووسائل الإعلام لتثير المزيد من اللغط حول ترامب. أما فيما يتعلق بأزمة كومى على وجه التحديد، فهناك الكثير من التساؤلات حول الأسباب وراء إقالته فى هذا التوقيت، فبغض النظر عن الأنباء التى ترددت حول حالة الحزن والغضب التى انتابت عملاء المباحث الفيدرالية الأمريكية إزاء إقالته والتى اعتبروها «ضربة قوية» و«صفعة» وما إلى ذلك، فإن الواقع يؤكد أن كومى لم يلتزم بحدود سلطاته ومهامه، ولا أدل على ذلك من تفجيره لأزمة رسائل هيلارى كلينتون المرشحة الديمقراطية المهزومة للرئاسة الأمريكية قبل أيام قليلة من الانتخابات، وهو ما أثر بشكل سلبى على حملتها الانتخابية، واعتبره كثيرون نوعا من التواطؤ مع ترامب ضد هيلاري، وكان هذا مبررا كافيا لإقالته بمجرد تولى ترامب السلطة، ولكنه لم يفعل. وبالتالي، فبغض النظر عن أداء كومى كمدير لمكتب «إف بى آي»، وبصرف النظر عن الشكوك حول مدى نزاهته، فإن توقيت إقالته يحمل شبهة «سياسية»، فترامب لم يهتم بتجاوزات كومى السابقة وركز فقط على موقفه من التحقيقات إزاء علاقة واشنطن وموسكو ومدى التعاون بينهما. والطريف فى هذه الأزمات المتوالية أن المسئولين الروس، وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين، هم أول من بادروا بالدفاع عن ترامب وعن علاقته المقننة بهم وعدم بحثه للقضايا، التى يمكن تصنيفها كشأن داخلي، معهم، وهو ما يعتبر دليل إدانة جديدا وثابتا ضده فيما يتعلق بعلاقته المثيرة للجدل مع روسيا، من وجهة نظر معارضى ترامب على الأقل. فى النهاية، لا يوجد طرف بريء فى المعارك الأمريكية، ولكن المختلف والجديد فى عهد ترامب أن معاركه الداخلية أقوى وأعنف من أى معارك خارجية، واللافت أنه تمكن من إدارة تحالفاته ومعاركه الخارجية بشكل أكثر تعقلا مما هو فى الداخل، فعلاقاته مع أجهزة الأمن تزداد سوءا يوما بعد الآخر. أما وسائل الإعلام الأمريكية فتعيش أزهى عصورها حاليا، سواء المؤيدة أو المعادية لترامب. وفى النهاية، يبقى المواطن الأمريكى هو الخاسر الوحيد فى معركة «البقاء للأقوى» بين ترامب والإعلام والأمن.