اعتاد المثقفون المصريون على الاعتزاز والتباهى بالمعمارى المصرى حسن فتحي؛ فلقد كان رائداً فيما أطلق عليه لاحقاً (عمارة الفقراء). ولقد كان حسن فتحى بلا شك معمارياً ذا فكر. فلقد تمثّل وطوّر فكر من سبقوه وانحاز للمواد المحلية فى البناء ولاستخدام التراث المعمارى المحلى من قباب وأقواس فى ابتكار منازل رخيصة التكلفة تتواءم مع مناخ الشرق الحار. ولكن الحقيقة أن حسن فتحى رغماً عن ريادته إلا أن أفكاره لا تمثل حلاً حقيقياً لمشاكل المدن والعمارة فى مصر. ففى عصر نزوح الريف إلى المدينة تبقى تصورات حسن فتحى تصورات حالمة لا تستطيع أن تواجه تداعيات الانفجار السكانى المتصاعد الذى تواجهه البلاد. لعل من يتأمل أحوال مصر اليوم يشعر بأن القاهرة تتحول إلى مسخٍ معماريٍ. فالمدن المصرية تفقد ملامح المدينة وتتحول إلى قرية، فهى كخواجة يرتدى جلباباً تحت الردنجوت. هذا الواقع المؤلم يحاصر المصريين فى كل مكان إلا من بعض محاولات محدودة للحفاظ على مظاهر الحداثة. أما خارج هذا، فالنكبة المعمارية المصرية تتسع وتتوسع يوماً بعد يوم، فى غابات الأسمنت تقتحم القرى والشواطئ، والحقول وفى غياب التخطيط للأحياء أو ترك مهام تخطيطها للروح النمطية يكررها صغار الموظفين والمعماريين. وربما يجدر ان نذكِّر أنفسنا أنه رغم مليارات الأطنان من الأسمنت والطوب وأقواس منازل الأثرياء تدعى الحداِِثة إلا أننا فشلنا فى بناء أحياء مثل المعادى أو مدينة كالإسكندرية أو الإسماعيلية، فتلك الأحياء والمدن كان وراءها فلسفة وفكر. فقد نشأ حى جاردن سيتى والسكاكينى بخيال معمارى يستجيب لقضايا بعينها. فلقد أراد من صمم تلك الأحياء مثلا أن يصنع (متاهة معمارية) تأخذ من يدخلها بعيداً عن سفارة بريطانيا وقصر السكاكيني. فهكذا امتلأت تلك الأحياء بشوارع منحنية ذات أقواس تتعمد أن تأخذك بعيداً إلى حيث ابتدأت؛ فمن رسم خرائط تلك الأحياء تعمد أن تكون شوارعها طاردة. أتت شوارع تلك المناطق راقية جميلة رغم انشغال المعمارى بتحقيق هدف معين. تقف المعادى الجديدة كذلك شاهداً على فقر المعمارى المصرى المعاصر مقارنة بتخطيط المعماريين الخواجات فى زمن مضى للمعادى القديمة. أما عن دار القضاء العالى ومستشفى قصر العينى فهما شاهدان آخران على رؤية معمارية متسعة ولكنها دقيقة، فهى مبان ضخمة لا تتناقض فى شكلها مع المكان وتمكن من يرتادونها ومن يعملون فيها من الحياة والإحساس بمهابة المكان. ولربما يتجرأ المرء ويدعى أن إمكانيات دور الهندسة الخاصة والعامة المصرية تقف بعيداً عن قمة الحرفية المعمارية أو قدراتها فى تخطيط المدن. فلا زالت مصر حتى اليوم تسعى لهيئات العمارة الأجنبية لبناء ما تعتقد أنه مهم أو يحتاج إلى تصورات خاصة سواء من ناحية الجمال أو تعقد وظائف المبنى. فها هى دار الأوبرا الجديدة تصمم خارج البلاد، وها هى المستشفيات المصرية الجديدة تستند إلى مؤسسات أجنبية تحمل الرؤية والخبرة فى بناء نلك المباني. الأمر إذن يتجاوز نقص الإمكانيات إلى فقر الفكر والإرادة والعلم وغياب التصميم نحو صنع البسيط والجميل. وغياب فلسفة المعمار فى مصر تتستر دوماً بنقص الإمكانات، ولكن نقص المال والإمكانات لم يكن حائلا أمام التطور والسعى للجمال والاستجابة لحاجات الناس فى أماكن كثيرة فى العالم. فلقد كانت فرنسا ممزقة بعد الثورة الفرنسية كناتج للهبات والحروب إلا أن فلسفة المعمار والبحث عن الجديد لم يغب فظهرت باريس الجديدة بشوارعها الواسعة وميادينها وأقواسها بفكر (هاوسمان) مهندسها كنموذج للخروج من المدن المنهكة بفوضى الثورة الصناعية. وكان الأمر كذلك فى موسكو؛ فموسكو الخارجة من آتون ثورة 1917 وحروب التدخل فيها لم تكن بالتأكيد محط الباحثين عن الأرباح أو الاستثمار ولكن الثوار الروس وعلى رأسهم جوزيف ستالين أصروا على أن يكون مترو موسكو تحفة معمارية، وأن يضاهى قصور القياصرة. فالمترو مداس ومزار الملايين من الناس الذين قامت الثورة من أجلهم. اما مدريد التى أنهكتها الحرب الأهلية الاسبانية فلقد همش معماريوها التظاهرات ببناء الشوارع الشديدة الاتساع التى تظهر ضآلة أى مظاهرة مهما كان حجمها. وكان واجب الساسة بعد كل الثورات والحروب هو قرار إعادة تخطيط المدن. وليس لمصر ترف تلافى مواجهة قضايا احتياج الناس المتزايدة للمأوى والمسكن فها هى عاصمة إدارية أو عاصمة جديدة تطل على استحياء فى وقت لم يتم فيه بعد إطفاء الحريق المشتعل فى أنحاء الشرق. ورغم مشاكل مصر المتناقضة فى كل القضايا فإن غالبية الناس ترحب بالمشروع وتحترم التحفظ الاعلامى المحيط به، لكن التنبه بما يحيط به من أخطار واجب. فبناء المدن الجديدة تحول إلى صناعة ضخمة مع القفزة فى القدرات الصينية على التصنيع، والبناء. ولكن تلافى تحول تلك المدن إلى مدن للأشباح أو مدن على أطراف المجتمع أمر آخر. وقد يبدو أن الانفجار السكانى هو ضمانة لنجاح المشروع الطموح، ولكن تجربة العاصمة الجديدة فى البرازيل بإنشاء نيو برازيليا وكذلك مدينة السادات التى عجزت عن التحول إلى مدينة جاذبة يؤكد أن بناء المدن الجديدة ليس ضمانة للنجاح. فالناس تجتذبهم الحداثة والجمال ومدينتنا الجديدة تنشأ وسط الصحراء، وهذا فى حد ذاته ليس عائقاً كبيراً؛ فمصر الجديدة نشأت وسط الصحراء وكذلك الإمارات وغيرها. فهل ستنتقل البورصة المصرية مثلاً للعاصمة الإدارية الجديدة لتجذب لها قطاعاً من العاملين أو هل ستبنى بها جامعة جديدة لتخفيض أعداد طلاب جامعة القاهرة وهل هناك مشروع مثلاً لوجود مراكز طبية فائقة التخصص بها أو صناعات جديدة. فالناس تتعلق بالجمال والجمال يصنعه الناس، فمن هم أولئك الذين سيؤسسون للجمال فى تلك العاصمة؟ هل ستحصل العاصمة الجديدة على ما تستحق من فكر معمارى يتنبه للتفاصيل مع سعة الأفق والحداثة؟ هذا يتطلب تداخلاً مكلفاً بين معمارى مصر والعالم. النماذج الفجة ونمطية ما قمنا ببنائه فى مصر فى العقود الأخيرة يحتم علينا الدعوة لتوسيع دوائر المعماريين المتداخلين فى تأسيس العاصمة الجديدة سواء كانوا مصريين أو أجانب. ولعل جمعية المعماريين المصريين التى تحتفل هذا العام بمرور مائه عام على تأسيسها تكون جسرا مبدئيا فى هذا الامر . فبعد الحرب العالمية الثانية اتخذت حكومة حزب العمال البريطانى قراراً باقتحام مشاكل الاسكان للفقراء المشردين بعد الحرب. ورغم الإفلاس البريطانى حينها إلا أن سياسياً مهما قاد الحكومة البريطانية للإصرار على رفع مستوى وتخطيط ما يبنى بعد الحرب قائلا: «إن الناس ستتذكر جودة ما نبنيه، وليس كثرة ما نبنيه.» فالسعى للجمال والجودة هو توجه ضرورى فى الحالة المصرية. ومشروع العاصمة الادارية الجديدة قد يكون هو بوابة الخروج للنهار من عشوائية المدن المصرية. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;