يفتخر المصريون بالقاهرة أو ببعض ملامحها فهناك بقايا معمارية لمبان متميزة ومظاهر لشكل من أشكال المدن الحديثة، ولكن الحقيقة الساطعة هى أن مصر تحيا فى عشوائية معمارية عظيمة نتجت من سطوة مستثمريها وفقر الفكر لدى معمارييها وقلة حيلة بقية الناس والمتأمل لما بقى من ملامح التحضر العمرانى سيكتشف سريعا أن مبانى القاهرة العظيمة صممها أجانب، وليست المبانى فقط هى التى صممها الأجانب بل كل ما نعرف من أحياء لها سمات المدنية فهاهو حاكم مصر الخديوى إسماعيل يخرج من قصر الجوهرة بالقلعة ليبنى قصر عابدين ولينتشر حوله وجهاء المصريين فى الحلمية الجديدة والمنيرة ويستقر الخواجات بعد الاحتلال فى جاردن سيتى والمعادى التى خططها أوروبيون آخرون. وللقاهرة بعض من ملامح باريس فلقد استدعى الخديو إسماعيل مكتب هاوزمان لتخطيط القاهرة بعد زيارة له بها فإذا به يفاجأ أنها تغيرت عما عهده فى زيارته الأولى لها. تساءل إسماعيل فقيل له صممها مكتب استشارى اسمه هاوزمان، فاستدعاه ومازالت بصمات النقل الكرتونى هى ما نفخر به حتى اليوم. ولم يكن الأمر مجرد رغبة لحاكم أراد الحداثة، ولكنها كانت ناتج اقتحام مصر بالأجانب. ففى خلال الأعوام 1857 - 1865 دخل مصر300 ألف أوروبى فى إطار نهب ثروات البلاد واستغلالها، واستقر منهم من عرفوا فيما بعد باسم الاجانب المحليين وكان عددهم يوازى 100 ألف. ومع استقرارهم ظهر احتياج لمدن شبه عصرية للخواجات المغامرين فى الأسواق المصرية. كان الوضع يتشابه مع ما هو موجود اليوم فى دول الخليج من دبى والكويت بل وجدة والرياض. خلاصة الأمر أن القاهرة التى نفتخر بها لم تكن ناتج نهضة أو فكر معمارى مصرى نشأ وتطور تطورا طبيعيا كما حدث إبان الثورة الصناعية فى أوروبا. فمن صمم جاردن سيتى بشوارعها الرقيقة وأصر على وضع حديقة الأطفال العامة بها لم يكن معماريا مصرياً. وكذلك لم يكن من خطط حلوان (التى نشأ قطار حلوان من أجلها) ولا الحديقة اليابانية بها، ولا حى الروضة بشوارعه المستقيمة وأشجار الأكاسيا متساقطة الأوراق فى الشتاء لتسمح بالشمس بينما تمنح الظل صيفا. ثم رحل الأجانب، وانهارت معادلات سياسية ما لتظهر أخرى جديدة. وصار المجال مفتوحا أمام المصريين. فأين نحن الآن؟ فى الأربعين عاماً الأخيرة عادت مصر لتبنى اقتصاديات السوق. ففى إطار ما أطلق عليه التخطيط العمرانى للبلاد تبنت الدولة خططاً تم تقديمها كمسارات لا بديل لها. والحقيقة هى أنها كانت خططا لصالح قلة قليلة جدا من رجال الأعمال على رأس الهرم الاجتماعى فى البلاد، مع عدم الأخذ بأى اعتبار بمن هم فى سفحه. والأخطر أن التخطيط لصالح قمة الهرم تلك حرم أصحابها من مزيد من الثروة، كما حرم المجتمع كله من أى مشاريع عمرانية لها صفة الرقى واحتمالات التحضر. فالقاهرة اليوم تحيط بها مدن أخرى تسمت بأسماء كالتجمع الخامس أو كالسادس من أكتوبر أو الميراج أو ما شابه. كانت تلك المدن هروبا من بحر الفقر والفوضى الذى حاصر منازل الأثرياء فى أحياء القاهرة القديمة العريقة، وكانت أيضا إقصاء وتجاهلا لاحتياجات الملايين من الفقراء والمحرومين بل أبناء الطبقة الوسطى ذاتها. حلقة مفرغة من بيع وهم التميز وادعاءات خلق الصفوة يحركها جشع من وراء الستار. فهل تلك البقع المعمارية، التى تم التعرف على قيمتها ثم الاستيلاء عليها وهى مجرد خطوط على الخرائط مدن جديدة بحق؟ فهل شهدنا وسطها مثلا ميادين ضخمة أو حتى متوسطة أو مشاريع لحدائق عامة كبيرة أو مسارح أو أماكن عامة عصرية؟ أم أنها فى حقيقتها تجمعات لمنازل خاصة، ولقصور وراء الأسوار يستتر فيها الأثرياء بثرواتهم فهى واحات عمرانية أقصت نفسها أو هكذا تصورت. مشاريع كانت فى حقيقتها قواعد إطلاق لصواريخ عابرة للثروات تمكن الحاصل ونعليها من أن يكونوا الأرستقراطية المالية المصرية الجديدة، ويروجون عن أنفسهم أنهم نماذج وطنية تنافس أقرانهم من أثرياء العالم. مشاريع تقصى ملايين الناس كما حدث من السواحل المصرية ببناء لعشرات الآلاف من الوحدات السكنية تطل على الشواطئ لصفوة مختارة من هرم المجتمع المصري، وتحرم الملايين ليس فقط من الاقتراب بل ومن السير عليه. فتحولت تلك الشواطئ ذاتها واقعيا إلى مجرد ممرات من الرمال الضيقة، بعد أن شوهتها للأبد أعمدة خرسانة مسلحة قبيحة تحتوى بيوتاً وقصورا لا يزورها الناس إلا لأسابيع. ألم يكن من الأجدى بناء مدينة أو اثنتين عصريتين تضم شواطئ عريضة ومبانى عصرية ومبانى كان من الممكن أن تكون شاهقة، لكنها لا تعتدى على الطبيعة والشواطئ. هل كان من الممكن تخيل حديقة مركزية كحديقة نيويورك التى يزورها 40مليون إنسان تلك الحديقة العلم مساحتها أربعة كيلومترات فقط. أليست الأراضى الصحراوية فى بلادنا متناهية المساحة؟ الم يكن من الممكن رفع قيمة ثروات من يتملكون الأراضى حول حديقة كتلك ؟ الإجابة: نعم، لكنه فقر الفكر وفكر الفقر حتى لو كان أصحابه أثرياء. وهى الدولة الرخوة ورموزها وأبناء ساستها يشاركون فى التربح السريع على حساب الناس. واليوم اكتملت الصورة. فها هى تقييمات أسهم الشركات العقارية المصرية فى البورصة تتجاوز المليارات، بينما أصل الحكاية هو أنها قصة التعرف على نوايا وأسرار الدولة فى اتجاهات التوسع العمراني! ثم الحصول على تخصيصات تلك الأراضي. والمشكلة لم تعد فى الثروات ولكن فى كيف تم توطين القبح المعمارى فى مصر. الجودة والتجديد والاهتمام بالحداثة هى ما سيبقى فى ذاكرة الوطن من كل المشاريع التى يتم افتتاحها. آن للدولة أن تنازل أصحاب الاستثمارات فى بناء المشاريع وتخطيط المدن للدفاع عن كل الهرم الاجتماعى المصرى فما يتم و تم يهدد كل الناس. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي