المدن أن تقوم طبقات من المباني والمنشآت والمسرودات لعائلات تنهض علي أنقاض عائلات تموت . هذا كان شعورا وحدسا داخليا كامنا عندي وبعد انتهاء هذا التحقيق وقعت عيني علي ما يبدو أنه كان مقالة صغيرة لكريستينا پاليني أوردت فيها رأيا معاكسا لهذا ولم تتوافر إلا في صورة بي دي إف علي الإنترنت دون أن أعرف اسم الكتاب الذي أوردها. من ناحية تري پاليني أنه بالنسبة للمعماريين الإيطاليين في مصر لم يكن هناك مفهوم واحد للمعمار وأن هؤلاء المعماريين والمهندسين والبنائين كانوا يلتزمون موقفا لا يتسق مع المركزية الأوروبية ودخلوا حالة وصفتها هي ب التجريب المعماري فالقليل منهم هو من حصل علي تعليم أوروبي وأكثرهم كان قد ولد وتدرب في مصر وانعكست الاختلافات بينهم في رؤاهم المعمارية، ( لوريا ابن المنصورة لم يكمل تعليمه الرسمي في المعمار بإيطاليا ومن ناحية أخري يختلف معها المعماري الإيطالي البارز جيتانو موريتي الذي زار مصر عام 1900م والذي تراه هي قاسيا في حكمه علي مجمل المعماريين الأوروبيين بمصر وقتها. لقد رأي موريتي فيهم محض مغامرين لم يستطيعوا إنتاج ما يفوق الملامح العامة في بلادهم .... بغض النظر عن مدي ملاءمتها للسياق المصري . وبعيدا عن هذا الجدل، فما أكتب عنه هنا ويمسح وجه المدينة (حتي لو لم يكن وجهها الوحيد هو حركة منظمة تريد استباق الاختفاء النهائي الذي يقاوم طويلا بإزالة همجية فورية من أجل معمار قبيح خانق خلفيته الثقافية تكاد تكون صفرا ودوافعه لا صلة لها بالجمال أو بحق الآخر فيه، معمار لا يفكر في أدني توسع أفقي لرحمة المعمار الرحيم السابق عليه من شدة تركيزه علي تكوين ثروة أسطورية في أقل مدة زمنية ولو علي حساب أغلي الأشياء أي حق الحياة فكثيرا ما اشتهرت الإسكندرية بالعمارات الحديثة سريعة السقوط فور السكني. من يمكن أن ينسي عمارة لوران وغيرها . ما أقصده بالمعمار الرحيم وهو تعبير يخص إحساسي به أنه لا يدفعك إلي رفع رأسك لأعلي حتي يؤلمك عنقك كما تجبرك مثلا ناطحات مدينة نيويورك التي زرتها والتي نفسيا هدفها كما عرفت من قراءات قديمة وكما يؤكد الشاعر والمعماري عاطف عبد العزيز هو إجبارك علي تلك الحركة التي تشعرك بضآلتك في مواجهة الميجا مدن . المعمار الحالي معمار مستبد هدفه توليد حالة قهر نفسي صامتة في مواجهة منشآت الشركات الكبري العابرة للقارات ورأس المال المتباهي بارتفاع مبانيه وفي مصر عادة ما يتجاهل حاجتك الروحية والبصرية للجمال. المعمار الرحيم عندي هو ما لا يتجاوز ارتفاعه أكثر من طابقين أو أربعة طوابق علي الأكثر وحوائطه الداخلية مرتفعة بما يسمح لك بأعلي مساحة داخلية تقاوم بها الشعور بالانضغاط وخوف الأماكن المغلقة الضيقة، حركة الهواء فيه مدروسة صحية من المناور إلي بقية المنافذ، يراعي البيئة المناخية بتوفير الشيش الخشبي من أجزاء ( مقارنة بتفشي ظاهرة الألوميتال في أبنيتنا منذ السبعينات بينما حين تذهب إلي فرنساوإيطاليا تري الشيش الخشب لمواجهة حرارة أخف من حرارة مدن شمال إفريقيا في الصيف و هو الذي يراعي نِسب المسافات بين العمارات المختلفة وحقك في الضوء والرؤية . وحين يقول الشاعر عاطف عبد العزيز عن معمار زمان إنه دافئ فهذا حقيقي لأن الخامات المستخدمة كانت توحي بذلك الدفء مثل كثرة الاعتماد علي الأخشاب. أنا أسمي تلك الملامح حنانا ومعمار زمان أتاح للنحت والتاريخ والأسطورة فرصا للتعبير، يذهلنا كمّ الوقت المقضي في جعل مدخل بناية لوحة فنية بذاته، ننبهر بالسيطرة الكاملة لفكرة أن المبني لا بد أن يكون جميلا وليس فقط نافعا أو مكانا للإقامة والتفاخر، حيث استخدام الألوان بلا تنافر والارتفاعات لا تلغي سماء المدينة، ونجد تشكيلات الفريسكو ومنحوتات الخشب ووفرة تماثيل الرخام الرومانية بحدائق الفيلات التراثية خاصة فيما يصفه بعض المعماريين بفورم أو شكل مخفف جدا من الباروك كان يُستخدَم في الإسكندرية بما يعزز شعورك بالرحابة فكل المدن الجميلة التي رأيتها في حياتي كانت مفتوحة للسماء عبر شوارع رئيسة هائلة الاتساع ( باريس، نيودلهي، إسلام آباد . في الإسكندرية تقضي وقتا وأنت تمشي لتأمل خيال الفنان المعماري وصبر العامل الفني الذي يزاوج بين منحوتات لكائنات من الطبيعة والميثولوجيا. كم مرة وجدت رأس أسد أو تمثالين لطفلين كملائكة حول جديلة ورق شجر أو مجرد جسد نصفي لرجل يذوب منتصفه أسفل شرفة بينما يحمل الظاهر من جسده الإغريقي أعمدتها السفلية . أؤمن أن عدم طلاء البهاء المعماري المغدور الذي نمشي بينه يوميا في مدننا وهو مغطي بالسخام يصيبنا بالاكتئاب، يضاعف عصبيتنا وتوترنا دون أن ننتبه. حين تتواصل حمي الهدم لكل قديم تراثي ونجد أبنية تقوم مكانه تستعير صفات مثل رويال و سراي وغيرها تبدأ في إدرك العقدة وراء المذبحة. في قيام ثورة يوليو 1952م بمحاولة إزالة الأسماء والمنجزات المرتبطة بنهضة حقيقية بدأها محمد علي يمكن رؤية كيف يؤدي تغيير أسماء الشوارع ووظيفة المباني التراثية ودخول مرحلة يوفوريا مغايرة الإيقاع والطموح إلي حدوث دُوار ثقافي معنوي عبر رحلة تعميق الهوية القومية بصورة متطرفة مع بزوغ العروبية كما كان تعليم تلك المرحلة يلح وينمي بداخلنا. هل ننسي أن دراسة كتاب الميثاق والامتحان في مادة التربية القومية بشرط النجاح فيها كان يميز ملامح تلك المرحلة . مدرسة عباس الثاني تصبح مدرسة أحمس الإبتدائية ومستشفي فؤاد الأول للرمد مستشفي الرمد وهناك مستشفي الملكة نازلي وهذه الأخيرة علي كورنيش الأنفوشي تجد عليها جملة من نوع تأسست عام 1969 م، بلا إشارة لماضي تأسيسها وبعض المستشفيات يتحول اسمها إلي جمال عبد الناصر أو التأمين الصحي . الهدف واضح : استبدال تاريخ بآخر جديد تتم كتابته علي الأرض بغرض خلق أجيال تتعرف علي الجديد دون معرفة أو عرفان للقديم، أجيال مُجهّلة بمنجزات من سبقها لمجرد أن بعض الرموز المرتبطة بتلك المنجزات لم تكن من المصريين أو من الطبقة التي قامت ثورة يوليو 1952م ضدها . دعونا نعترف إذن أن من يملك تشكيل فضاء مدينة ( قد يختار ترييفها وإفراغها عبر استبدال مكوناتها الديموغرافية بأخري بديلة لم يكن فقط هدفه ضرب دمقرطة المدن كأنوية فضاء حر أو حاضنات لحراك ديمقراطي محتمل في عصر أرادت سلطته السياسية اعتماد الصوت السياسي الواحد، بل أيضا التحكم في خيال أفراده وتحديد مجال رؤيتهم ومضمونها عبر ترويض رؤيوي يومي يستبدل ما تعودوه ( معماريا واقتصاديا واجتماعيا بمشاهد و شعارات وأفكار تسهل إدماجهم النفسي في الحالة الواحدة الجديدة التي صاحبت ثورة يوليو 1952 م وهو ما اعتمدت عليه الثورة كركيزة لتثبيت نفسها أثناء محاولات رموزها خلق شرعية بديلة ذات امتداد جماهيري عبر قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم وغيرها . كنت أفكر هكذا واستوثقت بقراءات لاحقة في الموضوع : أن المدينة وفضاءها الحضري العمراني وشكل معمارها العام عادة ما تكون كلها ذات استخدامات وتوظيف لسياسات الهوية والذاكرة أو ما يراه پيير بورديو رأس المال الرمزي المتمثل في مواقع الذاكرة وطبيعة شكل وتصميم المدينة الذي يتم استخدامه لتحقيق أجندات سياسية. التأثير بين الإٍنسان والبيئة المحيطة مستمر فطالما أن الإنسان كعضو في جماعة يطوع عاداته ويكتسب عادات جديدة بالبقاء ضمن نمط حياتي معين وفي مكان محدد فإن أفكاره ورؤاه وحركته كلها بدورها تتحدد ويتم تشكيلها بكم الصور المتتابعة واليومية التي تلح عليه من حوله إذ بحسب موريس هالبواخس كل ذاكرة جمعية تتفتح داخل إطار مرجعي فضائي أو مكاني وأن تلك الصور المكانية حولنا بفضل ثباتها تمنحنا وهم الثبات، وهم أننا لم نتغير عبر الزمن وباستعادة الماضي في الحاضر كما يقول في مستشهدا برؤية أوجست كومت عن أساس التوازن العقلي المرتبط إلي حد بعيد ببقاء الأشياء المادية التي نتعامل معها ونراها في حياتنا اليومية دون تغيير أو بتغيير طفيف كي تمدنا بما نحتاجه من إيحاء ببعض الديمومة والثبات . حين نري صورا تعود لمراحل تاريخية ومعمارية سابقة في الإسكندرية تصدمنا المسافة ( ولو في الصور فقط بين شكل البيوت في الحي العربي ( كما كتب عنها بنفور لورانس داريل و بين شكلها فيما عُرف بالحي اللاتيني وأيضا في الحي اليوناني بالمدينة تماما كما تحزننا المسافة بين شكل بيوت ومنشآت الأجانب وبين اضمحلال معالمها الآن أو هدمها وإزالتها . أما كتاب الصادر عن مكتبة الإسكندرية عام 2002 م فيشير إلي انعكاس الثقافة والتقاليد المعمارية الأوروبية المختلفة ( الإيطالي والفرنسي واليوناني في أغلب مباني المدينة التي تنوع معمارها بين كلاسيكي محدث و قوطي محدث و نهضة مستحدث وغيرها حيث كان معمارها ولم يُتح سوي فرصة صغيرة للتعبير المحلي والهوية ( النيو إسلامي والنيو فرعوني لكن وجد بعض التعبير في صورة الاستشراق الإكزوتيكي إذ إلي جانب قمع الهوية المحلية في المحيط الكوزموبوليتاني المسيطر كما يقول فإن تلك الهوية تأثرت أيضا بالقومية ودعاوي العروبة والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعد ثورة يوليو . في تقديري هذا طبيعي عقب كل الثورات، ولكن غير الطبيعي هو استمرار حملات الهدم بعد زوال حتي المرحلة الناصرية بدعاواها بسبب كون الإرادة السياسية لعصر ما بعد ناصر اتجهت نحو تخليق أوليجاركية جديدة أساسها المال فقط احتفظت لنفسها بالألقاب التي كانت ثورة يوليو قد ألغتها رسميا فتحول لقب باشا تحديدا والذي كان يتم شراؤه وقت المَلَكية ( لو ارتبط صاحبه بتبرعات لمشاريع عامة إلي لقب تتم إضافته عند الحديث مع أية رتبة شُرطية وبقيت أوصاف مثل سعادة و سيادة و فخامة و معالي مخصصة لفئات مهنية أخري كالقضاة ( يستخدمها مذيعو ومذيعات الإعلام المرئي الرسمي و الخاص تماما كما تزامن شيوع لقب حاج بغض النظر عن قيام صاحبه أو صاحبته بأداء الفريضة مع تملك الموصوف به لعدد من الناطحات عقب هدم ما هو تراثي . الأوليجاركية الجديدة كانت مختلفة أشد الاختلاف عن الارستقراطية والأوليجاركية المثقفة التي تواجدت سياسيا واقتصاديا قبل ثورة الضباط الأحرار. حين أتذكر حنق أصدقاء العمر اليونانيين المصريين بالإسماعيلية مدينتنا ممن يتكلمون العربية ومازالت ذكريات مصر والإسماعيلية كمسقط رأسهم هم وآباؤهم عبر قرون تبكيهم، هؤلاء الذين يحملون جوازات سفر مصرية وجنسية مصرية رغم سفرهم إلي اليونان نهائيا في مرحلة زعيم أحببته و ما زلت وبكيت كثيرا لموته هو جمال عبد الناصر، حين أتذكر ما لا يغفره هؤلاء الأصدقاء حين كانوا يحكون لنا لولا ناصر خرّجنا ماكناش حنخرج أبدا .. كان بيقول كل اليونانيين جواسيس وحين أقرأ ما يحكيه يونانيو الجيل الثالث بالإسكندرية في كتاب ترجمة عنوانه بالإنجليزية بمكتبة الإٍسكندرية أصوات من الإسكندرية الكوزموبوليتانية والصادر عن مركز دراسات الإسكندرية والمتوسط ( د. محمد عوض و سحر حموده عام 2006 م عن معاناة هؤلاء في اليونان حيث يقولون لهم أنتم مش يونانيين، أنتم من مصر كما قيل لإدموند كازيماتيس اليوناني الذي يعود إلي عائلة جاءت إلي مصر من مئة عام وما زالت تدير بعض محلات منطقة الرمل .. حين أتذكر وأحن أجدني أقرأ ما قد لا يعرفه كل المصريين اليونانيين كذلك وما يذكره مايكل هاج في كتاب من أن رجل الدولة والسياسي اليوناني إلڤيثيريوس ڤينيزيلوس جاء للإسكندرية عام 1915 م للحصول علي دعم أثرياء اليونانيين بها ومن بينهم أنطونيو باناكي الصديق المقرب للشاعر كفاڤيس. كان طموح فينيزيلوس هو الفكرة العظيمة لتأسيس اليونان الكبري علي الضفتين الأوروبية والآسيوية (مع أننا في إفريقيا لبحر إيجه. لا نذكر هذا لتبرير ما فعله عبد الناصر مع كل الجاليات الأجنبية وقت حروبنا مع إسرائيل لكن الإنصاف يقتضي التعريف بتفاصيل قد لا تكون معروفة وشائعة بل وكان القنصل اليوناني بالإسكندرية مؤيدا لضربها وقت بدء القصف الإنجليزي لها ( بعد اندلاع شجار بين مالطي وعربجي مصري قتل فيه المالطي المواطن المصري علي العكس من مواقف الأرمن والكثير من الجاليتين السويسرية والإيطالية حيث انخرطت بعض عناصر هذه الجاليات في ثورة أحمد عرابي وانضمت إلي معسكره في كفر الدوار بل وبلغ الأمر حد دعوة بعض الصحف الإيطالية إلي فتح باب التطوع مع المصريين . طبعا تطور المشهد المعماري في الإسكندرية قبل ثورة يوليو متجها للحداثة فبزغت أساليب وطرز جديدة بعد الحرب العالمية الأولي، ظهر آرت ديكو في فيلات ودور سينما وعمارات، وفرضت الظروف الاجتماعية الاقتصادية الجديدة شروطها بما أدي لاستخدام مواد مثل Reinforced Concrete وتواصل الميل إلي انتهاج أساليب وصفت بأنها عالمية . ظهر الآرت ديكو في عمارات متنوعة بالإسكندرية مثل عمارة دينتامارو ( عام 1930 م و عمارة عفيفي ( عام 1931 م وتطور المعمار لأساليب أكثر حداثة في فيلا يازجي فيما كان يعرف بكارلتون وهو ما يسمي اليوم شارع سوريا الشهير بحي رشدي وعمارةL. Camilleri في المنشية . قبل هذا كان قد كثر البناء وفق طراز الباروك المحدث و طراز النهضة الإيطالي ( في تصميمات لاسياك عادة والكلاسيكي المحدث إلي جانب شكل انتقائي من الباروك وبالمقارنة مال لوريا الإيطالي إلي الإيحاءات الفينيسية والتفاصيل القوطية المستوحاة من Palazzo Ducale أوقاتا، وإلي استخدام ألوان البولي كروم في الحجر والموزاييك المستورد من إيطاليا ( وحصل علي جائزة البلدية بالإسكندرية لأجمل واجهة مبني عن إحدي أروع عماراته بمحطة الرمل والتي ستضم بنسيون ميرامار لاحقا بينما يمكن ملاحظة تصميمات لفيلات تقع بين فخامة الباروك و تَكَلُّفِه من جهة ونعومة ورهافة ما بعده من طرز في المدينة التي رغم العدوان الشرس عليها ما زالت تبدو كمعرض نحت مفتوح. في الإسكندرية لا بد أن تمشي كثيرا علي قدميك أو تستقل الترام وتترك عينيك تتشبعان بالمفاجأة، فيلات بعقود و زخارف وردية أو صَدَفية أو كافيّه إغريقية، بهاء ضلف الشيش العالي، البساطة والرهافة باقية، ثم ذلك اللون الطوبي المتآكل علي بعض العمارات في وكالة مِنشا بالمنشية ( تصميم لاسياك عام 1885 م أو تسمح لنفسك أن تتوه لتأمل تصميم لوكالة مونفراتو بنفس الميدان عام 1887 م وتفرك يديك كمدًا لدي المقارنة بين فيلات في إيطاليا يعود بناؤها لنفس تاريخ بناء الفيلات التي تتهدم عندك وقد صارت فيلات إيطاليا فنادق جميلة غالية الأسعار بمواقع علي الإنترنت لجذب السياح ( كمثال من ظاهرة فيلا ماتيرنيني بإيطاليا التي تعود للقرن السابع عشر بينما صارت مثيلاتها عندك ( كمثال من تراث كامل .. قصر الكونت زغيب الذي يعود بناؤه إلي 1877 م تنتظر رصاصة الرحمة واستحال لونها إلي الأسود الكالح ( يذكر بعض المعماريين سيادة درجة من اللونين الأصفر والوردي علي ضلف الشيش القديمة. ينسب الباحث محمد علي محمد خليل إلي بيترو آفوسكاني الفضل في إدخال واستخدام حجر التيراكوتا في البناء خاصة لواجهات بعض المشروعات والمعروف أن زخارف مسرح الكونت زيزينيا عام 1862 م قامت بها فابريقة آندريا بوني من ميلانو،لأن زخارف التيراكوتا كانت تميز مباني ميلانو خاصة في مرحلة . ذكرني لون التيراكوتا المضمحل علي بعض عمارات المنشية وقرب محطة الرمل ب المدينة الوردية ( دون حجارة حمراء كما تُعرف جايپور الراجسثانية بالهند فالمشهود لمعماريّ و مخططي جايپور البناء وفق اتفاقية شيلپا شاسترا الهندوسية المعمارية القديمة ثم قام المهراجا رام سينج في 1876م بطلائها بذلك اللون ( الطوبي حين تراها عيانا للترحيب بأمير ويلز ( الملك إدوارد السابع لاحقا واستمر التقليد حتي اليوم . لكن العديد من قصور الإسكندرية كان أبيض جميلا أيضا. بعض المباني مثل مدارس الليتوريو الإيطالية عام 1931 م للمعماري سيتم عمل إضافات رديئة لها بعد ثورة يوليو وهو ما حدث بعد تحويلها إلي مبني تشغله كلية الزراعة. نجد كذلك مستشفي الكوتسيكا اليونانية لجان والتر عام 1936 م ومستشفي المواساة للمعماري إيرنست كووب عام 1938م وهذه وبعض الملاجئ لجاليات مختلفة أصبحت ملكية للدولة . لاحظ بعض المعماريين الأجانب أنه مع صعود الفاشية في إيطاليا زاد الميل نحو معمار يعبر عن مشاعر القومية وانضواء الفرد تحت الدولة في إيطاليا ولعل الصروح الهائلة واللجوء إلي الأقواس المعمارية بكثافة كان من أهدافه تعزيز حالة العسكرة للمجتمع الإيطالي ولم يقم المعماريون الإيطاليون باستثناء معمارهم خارج إيطاليا من هذا قبل أن ينضم للمشهد جيل جديد من المعماريين المصريين قدم معمارا بملامح مختلفة مثل علي لبيب جبر بك ومصطفي فهمي باشا ثم جاء المعماري السكندري المولد حسن فتحي بعمارة الفقراء التي يبنيها الفقراء . ويلاحظ أن التغريب الذي طال كثيرا من مظاهر الحياة ظل بعيدا عن عامة الشعب بطبقاته بما فيها الوسطي لأنه حين كانت صفوة المجتمع السكندري الكوزموبوليتاني تستمتع بسبل الترفيه الأجنبية في صالات الرقص للجالية اليونانية حول ترعة المحمودية وحدائق النزهة وأنطونيادس ونادي الصيد بمحرم بك والحفلات الموسيقية في كازينو الرمل حين جاءت الممثلة سارة برنار إلي مسرح زيزينيا ( أوبرا الإسكندرية حاليا ، وممارسة هواية التزلج في The Skating Rosette والتي بناها نيكولاس پاراسيكڤاس من 1907- 1924م كان المواطن العادي يواصل حياته اليومية بعيدا نوعا بثقافته المحلية رغم أن التعامل كان ينقل بعض رذاذ الاختلاف لهذا المواطن و يمكن النظر للأمر ك فصل ثقافي و حياتي إلي حد الذي استدعي تقييم أديبنا الكبير نجيب محفوظ الذي ذكر في حديث لجريدة الأهرام ويكلي في يونيو 1996 م كان كل شيء في أوربا يمكن العثور عليه في الإسكندرية بنصف الثمن : دور السينما، المطاعم، قاعات الرقص .... لكن كل هذا كان للأجانب . ويستدعي محفوظ ذكريات عن مدي نظافة المدينة التي كان يمكنك أن تأكل الطعام من علي شوارعها كما يشير إلي وجود مكان مخصص للمصريين بالسينما أحيانا مع وجود لافتة تفيد ذلك وهي سمة استعمارية لا تنفرد بها المدينة قبل ثورة يوليو بل نجد ما يقابلها في الهند وغيرها قبل الاستقلال وفي جنوب إفريقيا أثناء حكم البيض وفي الولاياتالمتحدة قبل حركة الحقوق المدنية لمارتين لوثر كينج كما نعلم أن القانون المحلي وقت الاحتلال البريطاني لمصر لم يكن يسري علي الأجانب فكان ينظر القضايا المدنية المحاكم المختلطة ذات القضاة المصريين والأجانب بينما ينظر القضايا الجنائية والجرائم التي يرتكبها أجانب في مصر قناصل دولهم وكان بعض أبناء تلك الجاليات يرددون علي مسامع المواطن المحلي في الشجارات تعبير أنا حماية . مع كل هذا فقد كانت كثرة المسارح التي يملكها أوربيون بالمدينة ( تياترو زيزينيا و تياترو جولدوني نسبة للمسرحي الإيطالي الشهير كارلو جولدوني و مسرح روسيني ومسرح إيمانويل في طريق المسلة وتياترو لاپوللو وهذا في مقهي باراديسو- وأماكن العروض المسرحية مثل مقهي باريس الكبير في شارع أنسطاسي و جراند كازينو آند كافيه في ميدان القناصل دافعا علي قيام موظفي السكك الحديد بالإسكندرية علي إنشاء الفرق المسرحية وكان بعض تلك الفرق يقدم من عروضه إعانة لبعض المدارس ولا ننسي أن الملك فؤاد كان قد شاهد أحد العروض المسرحية للمؤسس والممثل المسرحي جورج أبيض الذي كان ناظرا لمحطة الرمل فوافق الملك علي سفره لفرنسا للاطلاع علي التجربة المسرحية هناك . أظن لو حادثنا موظفي الترام أو السكك الحديدية اليوم بالإسكندرية وغيرها بمصر عن فكرة تأسيسهم لفرق مسرحية قد نجد تعليقات نابية من فرط السخرية. إن هذا بدوره يجيب عن أسئلة كثيرة سيظل السكندريون في كل الأحياء ينظرون لك بواحدة من حالتين : إما بصفتك سائحا أو بارتياب وعدوانية فسواء أكانوا من مافيا المال العنيف وكبار تجار الأراضي أو من الباعة السرّيحة في إشارات المرور الخوف واحد علي المال . كنت أطمئن بعض صغار السرّيحة المرتعبين من تصويري لما خلفهم إذ اعتقدوا أني أصورهم بينما لا أنكر خوفي من بعض البقر السمان ( تعبير الرجل المجاور لي في القطار خاصة في الحارات النائية شبه المهجورة بمناطق الشُّوَن في الأحياء الشعبية. الشُّوَن كانت بورصة الإسكندرية أكبر بورصة خارج أمريكا وأوربا و ثاني أكبر بورصة في العالم بعد بورصة ليڤرپول. مبني بورصة ميناء البصل الذي تنطق حجارته بالحروف الفرنسية وباللغة العربية أثر فادح الجمال لا يشعر به أحد من عمال المنطقة أو البلدية لكني فرحة بوجوده . حجارة تبليط الممرات في الشون ما زالت نفس الحجارة القديمة من البازلت الكبير القطع المستورد من الخارج وكانت تميز بقية المدينة قبل الرصف الحديث بالقطران. سمعت بكلمة الشُّوَن من شباب كرموز رغم أني كنت مشيت أمام بورصة ميناء البصل قبلها بأيام. كانوا غاضبين يدعونني للكتابة عل الحكومة تنصت إليهم وتفتح لهم الشُّوَن . سألت : جواها إيه . قالوا : ولا حاجة . قرب مستشفي صدر كرموز منطقة مساكن عمالية بشكل الفيلات عظيمة الجمال والرقي . تم بناء أغلبها أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين .أشار سائق في المنطقة إلي حفرة بيضاوية علي مساحة هائلة في الأرض وشرح أن وزارة الآثار كانت تحفر هنا وقد عرضت علي السكان تعويضات مقابل الخروج من منازلهم لاستكمال الكشف الأثري فرفضوا مبدأ الإخلاء والتعويض. أري الشّوَن القديمة بحد ذاتها تصلح للوضع علي برامج مزارات شركات السياحة بجانب قصور وفيلات المدينة التراثية. حدثني رجل كبير السن يعمل حارسا لإحدي الشُّوَن كيف بدأ يعمل مبكرا في سن 12 عاما . كانت الشونة التي يشير إليها معروفة ب شونة مكبس اليهودي نسبة لصاحبها اليهودي وقتها. سأرمز للحارس بحرف س . قال س مشيرا إلي جسر مرتفع يربط بين شونتين عملاقتين : كانت المنطقة بتشغي ( تمور حركة معتمدة علي القطن، وكانوا العمال بيتحركوا بشكل مستمر ويدفعوا عربات عليها بالات القطن . يومية الراجل في الشونة قبل ثورة 1952م عبارة عن 21 قرش صاغ و يومية الست ( المرأة 16 صاغ ويومية الطفل أو العيال ( الذين كان منهم هي 8 صاغ ونصف . يستطرد س شارحا : مهمة العيال والستات ( النساء كانت جمع المتناثر من القطن الفرط اللي بيطير من الشونة ووضعه في أكياس، وغيرهم من الحمالين يشيل ويرجعه داخل الشونة . وممكن طفل يلاقي مسمار صغير ويجمع المسامير لبيعها علي إمّة ( وتعني باللهجة الإسكندراني مقدمة أو ناصية الشارع فيتحصل علي نص فرنك. صاحب الشونة كان ساعات يحمس الأطفال عشان تجميع المسامير الضالة ويخرج له نصف فرنك من جيبه الخاص وكان عنده جيب للقروش وجيب للجنيهات، لأن سفر أي حتة قطن بمسمار بره مصر كان بيعيد اللوتّة كلها للبلد تاني علي حساب ( نفقة صاحب العمل ثم يشير بيده دون سؤال مني إلي الحجارة الحمراء القديمة المنتظمة في مباني الشُّوَن والتي حكي سائق في مساكن العمال بكرموز أنها كانت تأتي من إنجلترا عام 1937 م فيقول س كانت بتيجي في مراكب من إنجلترا . يذكر س أمين باشا رجل الإحسان و حرمه التي كانت تبحث بنفسها عن المحتاجين و حين تجد سيدة فقيرة وتتعرف علي حالتها تقوم بعمل أبونيه مصور لها بحالتها وعدد أطفالها ليصبح لها الحق في تناول ثلاث وجبات يوميا في المطعم الذي أقامته مع زوجها لذلك الغرض الخيري . اليوم الشُّوَن غارقة في التراب الذي أحالها كلها إلي لونٍ واحد أقرب للسواد شأنها شأن خرابات، تحوطها القمامة عادة والكلاب الضالة باستثناء الشون التي يؤجرها بعض الحرفيين بشكل جماعي أو التي وضعت البنوك وبعض شركات التأمين يدها عليها كمخازن، كذلك تستخدمها الدولة لتخزين الغلال قبل توزيعها علي تجار القطاعي رغم بقاء الكثير من طوابقها العليا مهجورة.