احتفل أجدادنا فى مصر منذ فجر التاريخ بعيد الحصاد أى شم النسيم. كان ذلك احتفالا بأول انتاج من الزهور والخضار والبقول خاصة الحمص فى مثل هذا اليوم من كل عام. وكان الحصاد رمزا لحيوية الأرض بعد فيضان النيل (قبل إنشاء السد العالي) الذى نتج عنه حرمان التربة من ترسب طبقة جديدة من الطمي. كان هذا الطمى غذاء طبيعيا لكل النباتات على ضفتى النيل من جنوب مصر على حدود السودان حتى ساحل البحر المتوسط. وعيد الحصاد ظل رمزا لوحدة الشعب المصرى فى كل العصور، فالروايات تقول انه بدأ فى عهد الاسرة ال 18 قبل الميلاد واعتبروه بداية الحياة وبداية الزهور والثمار وهو أيضا بداية الانقلاب الربيعي، وانتصاف اليوم بين الليل والنهار، كما تقول الروايات أن بنى اسرائيل اختاروا يوم احتفال المصريين بعيد شم النسيم للخروج من مصر بما حملوا من مجوهرات وخيرات ثم اعتبروه عيدا بعد ذلك، وفى المسيحية يأتى عيد شم النسيم سنويا فى اليوم التالى لعيد القيامة المجيد بعد نهاية فترة الصوم الطويل الذى يمنع فيه تناول اطعمة مثل السمك فيكون هذا اليوم من مباهجه ان يأكل المصريون كلهم المسلمون والمسيحيون السمك بمختلف الأشكال على السواء. وهكذا ارسل الله رسله للانسان واحدا تلو الآخر وكانت لآخر ثلاثتهم علاقة وطيدة بعيد مصر فى هذا اليوم. واستمر الاحتفال بشم النسيم فى كل ارجاء مصر عيدا سعيدا يملأ الدنيا زهورا وبهجة ومحبة واخاء. علينا إذن ان نتفكر فى مصدر وتاريخ ومعنى هذا العيد السعيد وان نعيد البهجة لكل مصرية ومصري، الطفل منهم والكهل طوال هذا اليوم وما بعده. وهذا العام بالذات ما أحوجنا ان نحاول قدر المستطاع نسيان مساوئ الأحداث الدامية المفجعة فى الأيام الأخيرة والعدوان الغادر على كنيستى طنطا والإسكندرية، علينا جميعا ان نعمل جاهدين لترسيخ الشعور بالانسانية المتفتحة وبالمواطنة الصالحة لكى نعيد لمصر ابتسامتها الفريدة. ما قد ميز مصر على مدى التاريخ هو صلابة أهلها فى أوقات الصعاب وحسهم المرهف للحفاظ على تاريخ بلدهم الذى اختاره الله عزوجل ملاذا لكل من آمن به وبقدرته. مازال الاحتفال بشم النسيم من اجمل ذكريات طفولتى فى مصر. كان ذلك فى دمياط حيث كان والدى هناك شيخا فى مدرسه الأزهر الثانوية. كنت اخرج مع ثلاثة اخواتى الثلاثة الأصغر منى سنا للذهاب الى حديقة النيل على ساحل النهر ومعى ما تيسر من غذاء لنا. كانت الناس تمر مبتهجة سعيدة، البعض يغنى والأطفال تمرح. بين آونة وأخرى يمر البعض بحمل من الزهور او الورود او نبات الحمص. كثيرا منهم كان يهدونى اعوادا من نبات الحمص الذى يسعد اخواتى فى اثناء البحث عن حبيباته اللذيذة المنعشة داخل الثمرات الخضراء. استمرار الغناء والتصفيق ودوام الابتسامة جعل لهذا الاحتفال المتعمق فى جذور مصر القديمة اعظم الأثر على نفسي. لذلك فانى أهنيء شعب مصر بحلول هذا العيد الأزلى وأخص منهم أخواتنا واخوتنا الأقباط وباقى المسيحيين لخصوصية ابتهالهم بهذا العيد. ادعو الله ان يعيده عليهم وعلى أهل مصر جميعا بالسعاة والخير واليمن والبركات. لمزيد من مقالات د.فاروق الباز;