بايدن: نبذل كل ما في وسعنا لإنهاء الحرب على غزة    الحوثيون: تنفيذ 3 عمليات عسكرية ضد مدمرة أمريكية وسفينتين فى البحرين الأحمر والعربى    إريكسن أفضل لاعب في مباراة سلوفينيا ضد الدنمارك ب"يورو 2024"    تعادل منتخب الدنمارك مع نظيره السلوفيني بنتيجة 1 – 1 ضمن المجموعة الثالثة في يورو    بوفون: إسبانيا منتخب صلب.. وسيصل القمة بعد عامين    موعد مباراة البرتغال والتشيك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة والمعلق    إقبال كبير لرحلات اليوم الواحد على شواطئ رأس البر    الحج السعودية: وصول ما يقارب 800 ألف حاج وحاجة إلى مشعر منى قبل الفجر    توفير 10 سيارات مياه ب 4 مناطق في الهرم بأول أيام عيد الأضحى (صور)    أول أيام عيد الأضحى المبارك.. سينمات وسط البلد كاملة العدد | فيديو    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    الرياضة: حملة بشبابها تشارك في احتفالات عيد الأضحى وزيارات للمحافظين للتهنئة    "Inside Out 2" يزيح "Bad Boys 4" من صدارة شباك التذاكر الأمريكي    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    وكيل «صحة كفر الشيخ» يتابع انتظام العمل بالمستشفيات في أول أيام عيد الأضحى    «أتوبيس الفرحة».. أمانة شبرا بمستقبل وطن توزع 3000 هدية بمناسبة عيد الأضحى| صور    سويسرا تعتزم إجراء محادثات مع روسيا بعد قمة السلام بشأن أوكرانيا    الغندور ينتقد صناع "أولاد رزق" بسبب "القاضية ممكن"    الدراما النسائية تسيطر على موسم الصيف    ريهام سعيد تبكي على الهواء (تعرف على السبب)    «العيدية بقت أونلاين».. 3 طرق لإرسالها بسهولة وأمان إلكترونيا في العيد    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    مرور مكثف على مكاتب الصحة ومراكز عقر الحيوان بالإسماعيلية    في أقل من 24 ساعة.. "مفيش كدة" لمحمد رمضان تتصدر التريند (فيديو)    وزير الداخلية الباكستاني يؤكد ضمان أمن المواطنين الصينيين في بلاده    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    التصعيد مستمر بين إسرائيل وحزب الله    لتحسين جودتها.. طبيبة توضح نصائح لحفظ اللحوم بعد نحر الأضحية    قصور الثقافة بالإسكندرية تحتفل بعيد الأضحى مع أطفال بشاير الخير    موراي يمثل بريطانيا في أولمبياد باريس.. ورادوكانو ترفض    عيد الأضحى 2024.. اعرف آخر موعد للذبح والتضحية    وصية مؤثرة للحاجة ليلى قبل وفاتها على عرفات.. ماذا قالت في آخر اتصال مع ابنها؟    قرار عاجل في الأهلي يحسم صفقة زين الدين بلعيد.. «التوقيع بعد العيد»    وفاة ثانى سيدة من كفر الشيخ أثناء أداء مناسك الحج    يقام ثاني أيام العيد.. حفل أنغام بالكويت يرفع شعار "كامل العدد"    تقارير: اهتمام أهلاوي بمدافع الرجاء    هالة السعيد: 3,6 مليار جنيه لتنفيذ 361 مشروعًا تنمويًا بالغربية    «سقط من مركب صيد».. انتشال جثة مهندس غرق في النيل بكفر الزيات    ضبط 70 مخالفة تموينية متنوعة فى حملات على المخابز والأسواق بالدقهلية    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    روسيا: مقتل محتجزي الرهائن في أحد السجون بمقاطعة روستوف    القوات الروسية تحرر بلدة «زاجورنويه» في مقاطعة زابوروجيه    3 فئات ممنوعة من تناول الكبدة في عيد الأضحى.. تحذير خطير لمرضى القلب    رئيس دمياط الجديدة: 1500 رجل أعمال طلبوا الحصول على فرص استثمارية متنوعة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    عيد الأضحى 2024.. "شعيب" يتفقد شاطئ مطروح العام ويهنئ رواده    قائمة شاشات التليفزيون المحرومة من نتفليكس اعتبارا من 24 يوليو    النمر: ذبح 35 رأس ماشية خلال أيام عيد الأضحى بأشمون    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    بالصور.. محافظ الغربية يوزع هدايا على المواطنين احتفالا بعيد الأضحى    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد ناصر الكبير    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    محافظ كفرالشيخ يزور الأطفال في مركز الأورام الجديد    ما هي السنن التي يستحب فعلها قبل صلاة العيد؟.. الإفتاء تُجيب    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    ارتفاع نسبة الرطوبة في الجو.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهم العالم
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 04 - 2017

صحيح أن منع الإنسان من طرح سؤاله يعادل تمامًا منع الإنسان من تحقيق وجوده، وصحيح كذلك أن محاصرة عقله بالأجوبة السابقة،
هو إجهاض يقضى على إمكانية امتداد علاقة عقلية بين الإنسان والحياة، التى يتلمسها الوعي، فيدفع الإنسان إلى فهم الواقع والتأثير فيه، وذلك ما يتطلب بالضرورة تجديد الوعى دومًا حتى لا يصبح الإنسان أسير الأجوبة السابقة التى تنفى كل ما عداها من الحقائق باستبداد مطلق، ومن ثم تنكر بالتالى إمكانية التغيير، وتفرض أجوبتها بوصفها قانونًا ثابتًا، عندئذ تتوتر العلاقات بين المعارف التى تدرك بواسطة ثقافة المجتمع فى فترة من تاريخه، وعبر الزمن تتحول فى الواقع الاجتماعى بالممارسات المستمرة إلى حقائق يؤمن بها الناس ويعتقدونها، وبين المعارف الجديدة التى تدرك بجوهرها؛ أى تلك التى تدرك بالعلم والتعلم والتى قد تنفى ما يعتقد الناس اجتماعيًا أنه حقائق، وتظلان فى تعارض يرهق المجتمع بالعجز، دون تخط يسعى إلى نفى التعارض، وتجاوز يستهدف الأكثر قيمة والأكثر حقيقة. والمجتمعات لا تخرج من هذا العجز المرهق إلا بالتجدد، أى عندما تستطيع أن تجدد أدواتها الإدراكية والمعرفية، وفهمها للعالم، لتعيد تأسيس طريق جديد كاشف لمصداقية تصوراتها لواقعها، وتزيح المفاهيم التى تطمس قيمها، بفك الالتصاق بالماضى والانغلاق عليه، لتمارس سيطرتها على عالمها بوعى المراجعة، الذى يستهدف استخلاص المعارف وحق الفهم للواقع والتفكير فيه ونقده؛ بل نقد تلك المعرفة وفحص أدواتها ومناهجها وتعديلها، وذلك بالتوازى مع الاقتدار على كشف المؤسسات المناهضة التى تستهدف لجم الحركة نحو المعرفة والتغيير.
صحيح أن المنظومة الثقافية تعنى مفهوم القيم المعيارية فى نوعية علاقاته، ونظام وجوده واتصالاته فى مستوياتها ومجالاتها المختلفة، حيث لا تصبح حركة الواقع تجسيدًا لهذه المنظومة، إلا من حيث مصداقية علاقاتها بهذه القيم المعيارية، باعتبارها المرجعية لأنشطته وممارساته، وصحيح أيضًا أن المنظومة الثقافية هى الطاقة المحركة لتاريخ أى مجتمع، إذ تحوى المخطوط والمحفور والمرسوم والمدون والمقول، فتشكل هوية ذلك المجتمع وخصوصيته، والصحيح كذلك أن النقد الثقافى أشد ارتباطًا فى ممارساته، بالنقد الموجه إلى الجمهور العام، متجاوزًا فى ذلك حد التفسير إلى المعارضة والاختلاف مع السائد الثقافي، مستهدفًا نطاق التغيير دعوة وتحقيقًا وتأثيرًا فى الواقع، انطلاقًا من أن الثقافة هى مرآة تعكس تصورات الناس، وأيضًا هى أداة للهيمنة عليهم، وذلك ما يتطلب تعقب المخفى المسيطر، وتلك مهمة تنويرية تفرض منازلة المخفى أو المضمر بتنويره، وكشف أنساقه، سواء أكانت مرئية أم مكتوبة أم مسموعة، واختراقها، وتعرية استراتيجية بنية المخفى أو خطابه، فضحًا للأقنعة الخادعة والمضادة للتنوير؛ إذ التنوير ليس نوعًا من التغيير؛ بل هو محدث التغيير بوصفه الكاشف للجمود، والدافع إلى بلورة الوعى الذى يقود إلى التغيير، ورهانه أن يكون المجتمع قابلاً للتغيير وقادرا عليه؛ لذا فإن استمرار الوعى المتجدد الحضور والفعالية، يشكل النقد الثقافى جانبًا مهمًا فى تحقيقه بخاصيته المميزة، التى تتأسس على ضرورة طرحه لوجهة نظر، وهو ما لا يتأتى إلا بالحفر على القصدية فى الأنساق الثقافية والاستدلال عليها، كشفًا لما يستهدفه المخفى برصد ما يقطع معه، أو ما يصل به من أفكار، فسلطة التنوير دائمًا أعلى من كل سلطة للأمر الواقع، وبالعقل يظل التنوير قادرًا على الكشف والتعرية. وقد يتبدى النقد الثقافى أيضًا متخطيًا مجال التجريد النظري، إلى صياغة إبداعية تطرح وعيًا تنويريًا لقضية ما، سبق لكاتب آخر أن طرح صياغة مغايرة تكرس للقطيعة مع التنوير، ويزخر التراث العالمى بتلك الإبداعات، إذ نرى فى الأسطورة اليونانية الرومانية تتمفصل شخصية «بجماليون» بوصفه فنانًا نحاتًا، بين موهبة دفعته أن يحقق وجودًا ذاتيًا إبداعيًا منحه فرح الاستمتاع بذاته مبدعًا، وعلى النقيض يتمفصل ذلك الوجود مع معاناة هم ذاتي، يتجسد فى علاقته الإشكالية بالنساء التى تتبدى فى شدة كراهيته لهن ورفضه الزواج، و هو ما يعد معاناة تحويلية لذات النفس؛ لذا راح يستنهض طاقته الإبداعية ليصوغ تمثالاً لامرأة يتجاوز بها كل النساء، بدلاً من أن يعيد تأهيل ذاته فكريًا، تجاه معنى الوجود، إقرارًا حقيقيًا وواقعيًا بثنائية الجسد الإنسانى المتشابه والمختلف، تأسيسًا لفكرة استمرار الوجود وتواصله. أفرغ «بجماليون» كل موهبته فى صياغة تمثال من العاج يستحضر تصوره لجسد المرأة المثالية التى أطلق عليها اسم «جالاتيا»، وتبدت متألقة الجمال الجسدى المتحقق بإبداعه، لكن ترى هل الذات الإنسانية جسد فقط؟ ومع أنه ليس ثمة كينونة لذلك الجسد المصنوع من العاج، فإن «بجماليون» أصبح عاشقًا لها متعلقًا بها، يداعبها ويكسوها بالثياب الفاخرة، ويزينها بالحلي، ويهديها الزهور؛ بل يفضى إليها بغرامه حتى أصبح التمثال امتدادات مستقبله، وتمنى أن يتحول إلى امرأة حقيقية، فتضرع إلى «أفروديت» إلهة الحب، فغدا التمثال امرأة حية لحمًا ودمًا. وتنتهى الأسطورة بزواجهما ثم إنجاب «جالاتيا» ولدًا. إن الحدث الاستثنائى الذى حقق النقلة النوعية- بتدخل «بجماليون»- كى يصبح التمثال إنسانًا، إنما يجسد عمق دلالة علاقة الامتلاك والهيمنة القادمة، بل الإخضاع والإتباع والإمعان فى قولبة «جالاتيا» وفقًا لنهج «بجماليون». صحيح أنه أحب جسد «جالاتيا» بوصفها تمثالاً، لكن عندما أصبحت إنسانًا، ماذا عن كيانها بوصفه عالمًا مستقلاً قائمًا بذاته بلا نوافذ إلا بإرادتها؟ ماذا عن مشاعرها حين وجدت نفسها فى علاقة حتمية؟ ليس ثمة نظرة تأملية لتلك المرأة سوى أن يستمتع بها الزوج وتلد له طفلاً. تناول أسطورة «بجماليون» أدباء من جنسيات متعددة، أحدهم الكاتب الأيرلندى «جورج بيرنارد شو» ( 1856 1950)، الذى هجر زمان الأحداث ومكانها، واستبقى شخصية «بجماليون» تحت اسم «هنرى هيجنز» الذى يعمل أستاذًا للأصوات، وأيضًا شخصية «جالاتيا» تحت اسم الفتاة «إليزا» التى تعمل بائعة للزهور. يلتقيها «هنرى هيجنز» وصديقه الكولونيل «بيكرنج»، فتلفت نظرهما لهجتها المبتذلة، وأسلوبها المشاكس، وتدنى سلوكها، فيراهن «هنري» صديقه على تحويلها إلى سيدة مجتمع راقية، فيواصل تدريبها ويحقق نجاحًا باهرًا، تمامًا كما نجح «بجماليون» فى نحت تمثال «جالاتيا»، لكنها كانت تختلف عنها بوصفها كائنًا بشريًا. لقد فتنت «إليزا» باقتدار أستاذها، أما هو فقد كان مفتونًا بذاته، ويعاملها بسلوك خال من الدفء الإنساني، وبيقين أن مصير وجودها أصبح منحصرًا به؛ إذ نجاحها لا يعود إليها؛ بل إلى أستاذها، لكنها عندما أدركت أنه يوظف معطياتها لصالحه، أعلنته بتمردها رفضًا للخضوع والدونية، فهى لن تعود لبيع الزهور، بل ستصبح أستاذة صوتيات وستنافسه، وستتزوج صديقًا له. ترى هل ما زال ورثة «بجماليون» يمارسون تصنيع المرأة وتشيئها، انتهاكًا لكينونتها، لامتلاك وجودها والهيمنة عليها؟
وفى صدر العمر، سألت شيخى الجليل الراحل د. محمد مندور: هل علاقة التلميذ بأستاذه تبدأ بالافتتان وتنتهى بالتمرد؟ فأجابني: إذا أدرك التلميذ أن أستاذه يمتلكه ويهيمن عليه».
◀ د. فوزى فهمى
صحيح أن منع الإنسان من طرح سؤاله يعادل تمامًا منع الإنسان من تحقيق وجوده، وصحيح كذلك أن محاصرة عقله بالأجوبة السابقة، هو إجهاض يقضى على إمكانية امتداد علاقة عقلية بين الإنسان والحياة، التى يتلمسها الوعي، فيدفع الإنسان إلى فهم الواقع والتأثير فيه، وذلك ما يتطلب بالضرورة تجديد الوعى دومًا حتى لا يصبح الإنسان أسير الأجوبة السابقة التى تنفى كل ما عداها من الحقائق باستبداد مطلق، ومن ثم تنكر بالتالى إمكانية التغيير، وتفرض أجوبتها بوصفها قانونًا ثابتًا، عندئذ تتوتر العلاقات بين المعارف التى تدرك بواسطة ثقافة المجتمع فى فترة من تاريخه، وعبر الزمن تتحول فى الواقع الاجتماعى بالممارسات المستمرة إلى حقائق يؤمن بها الناس ويعتقدونها، وبين المعارف الجديدة التى تدرك بجوهرها؛ أى تلك التى تدرك بالعلم والتعلم والتى قد تنفى ما يعتقد الناس اجتماعيًا أنه حقائق، وتظلان فى تعارض يرهق المجتمع بالعجز، دون تخط يسعى إلى نفى التعارض، وتجاوز يستهدف الأكثر قيمة والأكثر حقيقة. والمجتمعات لا تخرج من هذا العجز المرهق إلا بالتجدد، أى عندما تستطيع أن تجدد أدواتها الإدراكية والمعرفية، وفهمها للعالم، لتعيد تأسيس طريق جديد كاشف لمصداقية تصوراتها لواقعها، وتزيح المفاهيم التى تطمس قيمها، بفك الالتصاق بالماضى والانغلاق عليه، لتمارس سيطرتها على عالمها بوعى المراجعة، الذى يستهدف استخلاص المعارف وحق الفهم للواقع والتفكير فيه ونقده؛ بل نقد تلك المعرفة وفحص أدواتها ومناهجها وتعديلها، وذلك بالتوازى مع الاقتدار على كشف المؤسسات المناهضة التى تستهدف لجم الحركة نحو المعرفة والتغيير.
صحيح أن المنظومة الثقافية تعنى مفهوم القيم المعيارية فى نوعية علاقاته، ونظام وجوده واتصالاته فى مستوياتها ومجالاتها المختلفة، حيث لا تصبح حركة الواقع تجسيدًا لهذه المنظومة، إلا من حيث مصداقية علاقاتها بهذه القيم المعيارية، باعتبارها المرجعية لأنشطته وممارساته، وصحيح أيضًا أن المنظومة الثقافية هى الطاقة المحركة لتاريخ أى مجتمع، إذ تحوى المخطوط والمحفور والمرسوم والمدون والمقول، فتشكل هوية ذلك المجتمع وخصوصيته، والصحيح كذلك أن النقد الثقافى أشد ارتباطًا فى ممارساته، بالنقد الموجه إلى الجمهور العام، متجاوزًا فى ذلك حد التفسير إلى المعارضة والاختلاف مع السائد الثقافي، مستهدفًا نطاق التغيير دعوة وتحقيقًا وتأثيرًا فى الواقع، انطلاقًا من أن الثقافة هى مرآة تعكس تصورات الناس، وأيضًا هى أداة للهيمنة عليهم، وذلك ما يتطلب تعقب المخفى المسيطر، وتلك مهمة تنويرية تفرض منازلة المخفى أو المضمر بتنويره، وكشف أنساقه، سواء أكانت مرئية أم مكتوبة أم مسموعة، واختراقها، وتعرية استراتيجية بنية المخفى أو خطابه، فضحًا للأقنعة الخادعة والمضادة للتنوير؛ إذ التنوير ليس نوعًا من التغيير؛ بل هو محدث التغيير بوصفه الكاشف للجمود، والدافع إلى بلورة الوعى الذى يقود إلى التغيير، ورهانه أن يكون المجتمع قابلاً للتغيير وقادرا عليه؛ لذا فإن استمرار الوعى المتجدد الحضور والفعالية، يشكل النقد الثقافى جانبًا مهمًا فى تحقيقه بخاصيته المميزة، التى تتأسس على ضرورة طرحه لوجهة نظر، وهو ما لا يتأتى إلا بالحفر على القصدية فى الأنساق الثقافية والاستدلال عليها، كشفًا لما يستهدفه المخفى برصد ما يقطع معه، أو ما يصل به من أفكار، فسلطة التنوير دائمًا أعلى من كل سلطة للأمر الواقع، وبالعقل يظل التنوير قادرًا على الكشف والتعرية. وقد يتبدى النقد الثقافى أيضًا متخطيًا مجال التجريد النظري، إلى صياغة إبداعية تطرح وعيًا تنويريًا لقضية ما، سبق لكاتب آخر أن طرح صياغة مغايرة تكرس للقطيعة مع التنوير، ويزخر التراث العالمى بتلك الإبداعات، إذ نرى فى الأسطورة اليونانية الرومانية تتمفصل شخصية «بجماليون» بوصفه فنانًا نحاتًا، بين موهبة دفعته أن يحقق وجودًا ذاتيًا إبداعيًا منحه فرح الاستمتاع بذاته مبدعًا، وعلى النقيض يتمفصل ذلك الوجود مع معاناة هم ذاتي، يتجسد فى علاقته الإشكالية بالنساء التى تتبدى فى شدة كراهيته لهن ورفضه الزواج، و هو ما يعد معاناة تحويلية لذات النفس؛ لذا راح يستنهض طاقته الإبداعية ليصوغ تمثالاً لامرأة يتجاوز بها كل النساء، بدلاً من أن يعيد تأهيل ذاته فكريًا، تجاه معنى الوجود، إقرارًا حقيقيًا وواقعيًا بثنائية الجسد الإنسانى المتشابه والمختلف، تأسيسًا لفكرة استمرار الوجود وتواصله. أفرغ «بجماليون» كل موهبته فى صياغة تمثال من العاج يستحضر تصوره لجسد المرأة المثالية التى أطلق عليها اسم «جالاتيا»، وتبدت متألقة الجمال الجسدى المتحقق بإبداعه، لكن ترى هل الذات الإنسانية جسد فقط؟ ومع أنه ليس ثمة كينونة لذلك الجسد المصنوع من العاج، فإن «بجماليون» أصبح عاشقًا لها متعلقًا بها، يداعبها ويكسوها بالثياب الفاخرة، ويزينها بالحلي، ويهديها الزهور؛ بل يفضى إليها بغرامه حتى أصبح التمثال امتدادات مستقبله، وتمنى أن يتحول إلى امرأة حقيقية، فتضرع إلى «أفروديت» إلهة الحب، فغدا التمثال امرأة حية لحمًا ودمًا. وتنتهى الأسطورة بزواجهما ثم إنجاب «جالاتيا» ولدًا. إن الحدث الاستثنائى الذى حقق النقلة النوعية- بتدخل «بجماليون»- كى يصبح التمثال إنسانًا، إنما يجسد عمق دلالة علاقة الامتلاك والهيمنة القادمة، بل الإخضاع والإتباع والإمعان فى قولبة «جالاتيا» وفقًا لنهج «بجماليون». صحيح أنه أحب جسد «جالاتيا» بوصفها تمثالاً، لكن عندما أصبحت إنسانًا، ماذا عن كيانها بوصفه عالمًا مستقلاً قائمًا بذاته بلا نوافذ إلا بإرادتها؟ ماذا عن مشاعرها حين وجدت نفسها فى علاقة حتمية؟ ليس ثمة نظرة تأملية لتلك المرأة سوى أن يستمتع بها الزوج وتلد له طفلاً. تناول أسطورة «بجماليون» أدباء من جنسيات متعددة، أحدهم الكاتب الأيرلندى «جورج بيرنارد شو» ( 1856 1950)، الذى هجر زمان الأحداث ومكانها، واستبقى شخصية «بجماليون» تحت اسم «هنرى هيجنز» الذى يعمل أستاذًا للأصوات، وأيضًا شخصية «جالاتيا» تحت اسم الفتاة «إليزا» التى تعمل بائعة للزهور. يلتقيها «هنرى هيجنز» وصديقه الكولونيل «بيكرنج»، فتلفت نظرهما لهجتها المبتذلة، وأسلوبها المشاكس، وتدنى سلوكها، فيراهن «هنري» صديقه على تحويلها إلى سيدة مجتمع راقية، فيواصل تدريبها ويحقق نجاحًا باهرًا، تمامًا كما نجح «بجماليون» فى نحت تمثال «جالاتيا»، لكنها كانت تختلف عنها بوصفها كائنًا بشريًا. لقد فتنت «إليزا» باقتدار أستاذها، أما هو فقد كان مفتونًا بذاته، ويعاملها بسلوك خال من الدفء الإنساني، وبيقين أن مصير وجودها أصبح منحصرًا به؛ إذ نجاحها لا يعود إليها؛ بل إلى أستاذها، لكنها عندما أدركت أنه يوظف معطياتها لصالحه، أعلنته بتمردها رفضًا للخضوع والدونية، فهى لن تعود لبيع الزهور، بل ستصبح أستاذة صوتيات وستنافسه، وستتزوج صديقًا له. ترى هل ما زال ورثة «بجماليون» يمارسون تصنيع المرأة وتشيئها، انتهاكًا لكينونتها، لامتلاك وجودها والهيمنة عليها؟
وفى صدر العمر، سألت شيخى الجليل الراحل د. محمد مندور: هل علاقة التلميذ بأستاذه تبدأ بالافتتان وتنتهى بالتمرد؟ فأجابني: إذا أدرك التلميذ أن أستاذه يمتلكه ويهيمن عليه».
لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.