أزمة زيادة الرسوم القضائية تتفاقم.. المحامون يجددون الإضراب    محافظ الدقهلية يستعرض مستجدات إنشاء موقف جديلة الحضاري    انطلاق أولى رحلات طيران الحج السياحي لموسم 1446 ه    حماس: مصادقة الاحتلال على بناء جدار أمني عند حدود الأردن لن يحميه من تداعيات جرائمه    أوربان: انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أكبر تهديد لهنغاريا وسنقاوم    المرشح الأوفر حظا في انتخابات كوريا الجنوبية لا يرى حاجة للاستعجال في إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة    ريال مدريد يهزم إشبيلية المنقوص بثنائية    الدورى الإيطالى.. خيمينيز يقود ميلان لمواجهة روما    أتلتيكو مدريد يكتسح ريال بيتيس برباعية في الليجا    المنيا.. مصرع طفل غرقا في مياه نهر النيل بسمالوط    ريهام عبد الحكيم على مسرح الأوبرا قبل انطلاق عرض فيلم المشروع X    صناع الأفلام العرب الصاعدون يجتمعون في جلسة نقاشية بالجناح المصري بمهرجان كان    شقيقة سعاد حسني: السندريلا كانت تحتفظ بعقد زواجها من العندليب والجواب لم يكن بخط يدها    لطيفة تستفتي جمهورها لاختيار اسم ألبومها الغنائي لصيف 2025    مي عمر تخطف الأنظار بصور جديدة من مهرجان كان.. والجمهور: "قمر مصر"    أمين الفتوى يحسم حكم سفر المرأة وأداء الحج دون محرم: جائز بشرط    "تعليم القاهرة" تكرم الطلاب الأوائل في المسابقة الدينية للعام الدراسي الحالي    نجاح جراحة دقيقة لإصلاح كسر بالرقبة للمرة الأولى في الدقهلية    الرئيس الإيراني: الغرب تجاهل رسائل السلام التي بعثناها    موقع تحميل النماذج الاسترشادية للصف الثالث الثانوي 2025 (الرابط)    وزير التموين يناقش رسالة دكتوراه عن القيادة والولاء الوظيفي بجامعة حلوان    المركز القومي للمسرح ينظم مؤتمرًا علميًا واحتفالية فنية بمناسبة اليوم العالمي للتنوع الثقافي    مشاعرهم تسبقهم.. 5 أبراج تُعرف بالحساسية المفرطة    «رابطة المستأجرين» ترد على الملاك: دفعنا ما يعادل كيلو ذهب «خِلِو»    خبير روسي: انقسام بين العسكريين والاقتصاديين حول إنهاء حرب أوكرانيا    ما لا يجوز في الأضحية: 18 عيبًا احذر منها قبل الشراء في عيد الأضحى    كيف نعالج السهو في الصلاة ؟.. عالم أزهري يوضح    إزالة 9 مخالفات بناء في حملة بالعريش    في 5 خطوات.. طريقة تنظيف الثلاجة والتخلص من الروائح الكريهة بسهولة    خبير: الحرب البرية بدأت فعليًا.. وحماس وقعت في شرك المفاوضات الأمريكية    الكنائس الأرثوذكسية الشرقية يحتفلون بذكرى مرور 17 قرنا على انعقاد مجمع نيقية بالكاتدرائية    9 وزارات تدعم الدورة الرابعة لمؤتمر CAISEC'25 للأمن السيبراني    الحماية المدنية تسيطر على حريق نشب في سيارة تحمل كرتون مضغوط بالمنوفية    علاء عبد العال: بيراميدز فرط في الصدارة.. والأهلي الأقرب لحسم الدوري    أحكام الحج والعمرة (1).. علي جمعة يوضح شروط ووجوه أداء العمرة    جهاز تنظيم الاتصالات يناقش أبرز تحديات المستخدمين في عصر الجيل الخامس    محافظة الجيزة تزيل 3 أدوار مخالفة فى عقار بحى العجوزة    "جلسة جديدة".. بايرن ميونخ يكشف تطورات المفاوضات مع ساني    وزير الدفاع الباكستاني: تلقّينا عرضًا هنديًّا للتفاوض حول كشمير والإرهاب.. ولا يمكن تجاهل الدور الدولي    حكم قضائي بحبس صالح جمعة شهرا لعدم سداده نفقة طليقته    فصل التيار الكهربائي عن 5 مناطق بالعريش غدًا.. تعرف عليها    الهلال الأحمر الفلسطيني: الاحتلال يستهدف بشكل متعمد المراكز الطبية في غزة    رئيس جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية يتفقد سير امتحانات نهاية العام -صور    هل الكركم ضار بالكلى؟    الداخلية تواصل تيسير الإجراءات للحصول على خدمات الجوازات والهجرة    أشرف العربى: تحسن ملموس فى مستوى التنمية فى مصر    الشيوخ يحيل تقارير اللجان النوعية إلى الحكومة    رئيس «تعليم الشيوخ» يقترح خصم 200 جنيه من كل طالب سنويًا لإنشاء مدارس جديدة    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع لسرقته    التعليم العالي: قافلة طبية من المركز القومى للبحوث تخدم 3200 مريض فى 6 أكتوبر    حماس: الإدارة الأمريكية تتحمل مسئولية المجازر الإسرائيلية بغزة    وفاة بالسرطان.. ماقصة "تيفو" جماهير كريستال بالاس الخالدة منذ 14 عامًا؟    محافظ الدقهلية يفتتح الوحدة الصحية بالشيخ زايد بمدينة جمصة    فيديو.. لحظة اصطدام سفينة بجسر في نيويورك ومقتل وإصابة العشرات    السلطات السعودية تحذر الحجاج من ظاهرة منتشرة تعيق حركة الطائفين والمصلين    أشرف العربي: رغم التحسن الملموس في أداء التنمية في مصر إلا أنه لازال أقل من المأمول    مستشهدًا ب الأهلي.. خالد الغندور يطالب بتأجيل مباراة بيراميدز قبل نهائي أفريقيا    مصطفى عسل يهزم علي فرج ويتوج ببطولة العالم للإسكواش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهم العالم
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 04 - 2017

صحيح أن منع الإنسان من طرح سؤاله يعادل تمامًا منع الإنسان من تحقيق وجوده، وصحيح كذلك أن محاصرة عقله بالأجوبة السابقة،
هو إجهاض يقضى على إمكانية امتداد علاقة عقلية بين الإنسان والحياة، التى يتلمسها الوعي، فيدفع الإنسان إلى فهم الواقع والتأثير فيه، وذلك ما يتطلب بالضرورة تجديد الوعى دومًا حتى لا يصبح الإنسان أسير الأجوبة السابقة التى تنفى كل ما عداها من الحقائق باستبداد مطلق، ومن ثم تنكر بالتالى إمكانية التغيير، وتفرض أجوبتها بوصفها قانونًا ثابتًا، عندئذ تتوتر العلاقات بين المعارف التى تدرك بواسطة ثقافة المجتمع فى فترة من تاريخه، وعبر الزمن تتحول فى الواقع الاجتماعى بالممارسات المستمرة إلى حقائق يؤمن بها الناس ويعتقدونها، وبين المعارف الجديدة التى تدرك بجوهرها؛ أى تلك التى تدرك بالعلم والتعلم والتى قد تنفى ما يعتقد الناس اجتماعيًا أنه حقائق، وتظلان فى تعارض يرهق المجتمع بالعجز، دون تخط يسعى إلى نفى التعارض، وتجاوز يستهدف الأكثر قيمة والأكثر حقيقة. والمجتمعات لا تخرج من هذا العجز المرهق إلا بالتجدد، أى عندما تستطيع أن تجدد أدواتها الإدراكية والمعرفية، وفهمها للعالم، لتعيد تأسيس طريق جديد كاشف لمصداقية تصوراتها لواقعها، وتزيح المفاهيم التى تطمس قيمها، بفك الالتصاق بالماضى والانغلاق عليه، لتمارس سيطرتها على عالمها بوعى المراجعة، الذى يستهدف استخلاص المعارف وحق الفهم للواقع والتفكير فيه ونقده؛ بل نقد تلك المعرفة وفحص أدواتها ومناهجها وتعديلها، وذلك بالتوازى مع الاقتدار على كشف المؤسسات المناهضة التى تستهدف لجم الحركة نحو المعرفة والتغيير.
صحيح أن المنظومة الثقافية تعنى مفهوم القيم المعيارية فى نوعية علاقاته، ونظام وجوده واتصالاته فى مستوياتها ومجالاتها المختلفة، حيث لا تصبح حركة الواقع تجسيدًا لهذه المنظومة، إلا من حيث مصداقية علاقاتها بهذه القيم المعيارية، باعتبارها المرجعية لأنشطته وممارساته، وصحيح أيضًا أن المنظومة الثقافية هى الطاقة المحركة لتاريخ أى مجتمع، إذ تحوى المخطوط والمحفور والمرسوم والمدون والمقول، فتشكل هوية ذلك المجتمع وخصوصيته، والصحيح كذلك أن النقد الثقافى أشد ارتباطًا فى ممارساته، بالنقد الموجه إلى الجمهور العام، متجاوزًا فى ذلك حد التفسير إلى المعارضة والاختلاف مع السائد الثقافي، مستهدفًا نطاق التغيير دعوة وتحقيقًا وتأثيرًا فى الواقع، انطلاقًا من أن الثقافة هى مرآة تعكس تصورات الناس، وأيضًا هى أداة للهيمنة عليهم، وذلك ما يتطلب تعقب المخفى المسيطر، وتلك مهمة تنويرية تفرض منازلة المخفى أو المضمر بتنويره، وكشف أنساقه، سواء أكانت مرئية أم مكتوبة أم مسموعة، واختراقها، وتعرية استراتيجية بنية المخفى أو خطابه، فضحًا للأقنعة الخادعة والمضادة للتنوير؛ إذ التنوير ليس نوعًا من التغيير؛ بل هو محدث التغيير بوصفه الكاشف للجمود، والدافع إلى بلورة الوعى الذى يقود إلى التغيير، ورهانه أن يكون المجتمع قابلاً للتغيير وقادرا عليه؛ لذا فإن استمرار الوعى المتجدد الحضور والفعالية، يشكل النقد الثقافى جانبًا مهمًا فى تحقيقه بخاصيته المميزة، التى تتأسس على ضرورة طرحه لوجهة نظر، وهو ما لا يتأتى إلا بالحفر على القصدية فى الأنساق الثقافية والاستدلال عليها، كشفًا لما يستهدفه المخفى برصد ما يقطع معه، أو ما يصل به من أفكار، فسلطة التنوير دائمًا أعلى من كل سلطة للأمر الواقع، وبالعقل يظل التنوير قادرًا على الكشف والتعرية. وقد يتبدى النقد الثقافى أيضًا متخطيًا مجال التجريد النظري، إلى صياغة إبداعية تطرح وعيًا تنويريًا لقضية ما، سبق لكاتب آخر أن طرح صياغة مغايرة تكرس للقطيعة مع التنوير، ويزخر التراث العالمى بتلك الإبداعات، إذ نرى فى الأسطورة اليونانية الرومانية تتمفصل شخصية «بجماليون» بوصفه فنانًا نحاتًا، بين موهبة دفعته أن يحقق وجودًا ذاتيًا إبداعيًا منحه فرح الاستمتاع بذاته مبدعًا، وعلى النقيض يتمفصل ذلك الوجود مع معاناة هم ذاتي، يتجسد فى علاقته الإشكالية بالنساء التى تتبدى فى شدة كراهيته لهن ورفضه الزواج، و هو ما يعد معاناة تحويلية لذات النفس؛ لذا راح يستنهض طاقته الإبداعية ليصوغ تمثالاً لامرأة يتجاوز بها كل النساء، بدلاً من أن يعيد تأهيل ذاته فكريًا، تجاه معنى الوجود، إقرارًا حقيقيًا وواقعيًا بثنائية الجسد الإنسانى المتشابه والمختلف، تأسيسًا لفكرة استمرار الوجود وتواصله. أفرغ «بجماليون» كل موهبته فى صياغة تمثال من العاج يستحضر تصوره لجسد المرأة المثالية التى أطلق عليها اسم «جالاتيا»، وتبدت متألقة الجمال الجسدى المتحقق بإبداعه، لكن ترى هل الذات الإنسانية جسد فقط؟ ومع أنه ليس ثمة كينونة لذلك الجسد المصنوع من العاج، فإن «بجماليون» أصبح عاشقًا لها متعلقًا بها، يداعبها ويكسوها بالثياب الفاخرة، ويزينها بالحلي، ويهديها الزهور؛ بل يفضى إليها بغرامه حتى أصبح التمثال امتدادات مستقبله، وتمنى أن يتحول إلى امرأة حقيقية، فتضرع إلى «أفروديت» إلهة الحب، فغدا التمثال امرأة حية لحمًا ودمًا. وتنتهى الأسطورة بزواجهما ثم إنجاب «جالاتيا» ولدًا. إن الحدث الاستثنائى الذى حقق النقلة النوعية- بتدخل «بجماليون»- كى يصبح التمثال إنسانًا، إنما يجسد عمق دلالة علاقة الامتلاك والهيمنة القادمة، بل الإخضاع والإتباع والإمعان فى قولبة «جالاتيا» وفقًا لنهج «بجماليون». صحيح أنه أحب جسد «جالاتيا» بوصفها تمثالاً، لكن عندما أصبحت إنسانًا، ماذا عن كيانها بوصفه عالمًا مستقلاً قائمًا بذاته بلا نوافذ إلا بإرادتها؟ ماذا عن مشاعرها حين وجدت نفسها فى علاقة حتمية؟ ليس ثمة نظرة تأملية لتلك المرأة سوى أن يستمتع بها الزوج وتلد له طفلاً. تناول أسطورة «بجماليون» أدباء من جنسيات متعددة، أحدهم الكاتب الأيرلندى «جورج بيرنارد شو» ( 1856 1950)، الذى هجر زمان الأحداث ومكانها، واستبقى شخصية «بجماليون» تحت اسم «هنرى هيجنز» الذى يعمل أستاذًا للأصوات، وأيضًا شخصية «جالاتيا» تحت اسم الفتاة «إليزا» التى تعمل بائعة للزهور. يلتقيها «هنرى هيجنز» وصديقه الكولونيل «بيكرنج»، فتلفت نظرهما لهجتها المبتذلة، وأسلوبها المشاكس، وتدنى سلوكها، فيراهن «هنري» صديقه على تحويلها إلى سيدة مجتمع راقية، فيواصل تدريبها ويحقق نجاحًا باهرًا، تمامًا كما نجح «بجماليون» فى نحت تمثال «جالاتيا»، لكنها كانت تختلف عنها بوصفها كائنًا بشريًا. لقد فتنت «إليزا» باقتدار أستاذها، أما هو فقد كان مفتونًا بذاته، ويعاملها بسلوك خال من الدفء الإنساني، وبيقين أن مصير وجودها أصبح منحصرًا به؛ إذ نجاحها لا يعود إليها؛ بل إلى أستاذها، لكنها عندما أدركت أنه يوظف معطياتها لصالحه، أعلنته بتمردها رفضًا للخضوع والدونية، فهى لن تعود لبيع الزهور، بل ستصبح أستاذة صوتيات وستنافسه، وستتزوج صديقًا له. ترى هل ما زال ورثة «بجماليون» يمارسون تصنيع المرأة وتشيئها، انتهاكًا لكينونتها، لامتلاك وجودها والهيمنة عليها؟
وفى صدر العمر، سألت شيخى الجليل الراحل د. محمد مندور: هل علاقة التلميذ بأستاذه تبدأ بالافتتان وتنتهى بالتمرد؟ فأجابني: إذا أدرك التلميذ أن أستاذه يمتلكه ويهيمن عليه».
◀ د. فوزى فهمى
صحيح أن منع الإنسان من طرح سؤاله يعادل تمامًا منع الإنسان من تحقيق وجوده، وصحيح كذلك أن محاصرة عقله بالأجوبة السابقة، هو إجهاض يقضى على إمكانية امتداد علاقة عقلية بين الإنسان والحياة، التى يتلمسها الوعي، فيدفع الإنسان إلى فهم الواقع والتأثير فيه، وذلك ما يتطلب بالضرورة تجديد الوعى دومًا حتى لا يصبح الإنسان أسير الأجوبة السابقة التى تنفى كل ما عداها من الحقائق باستبداد مطلق، ومن ثم تنكر بالتالى إمكانية التغيير، وتفرض أجوبتها بوصفها قانونًا ثابتًا، عندئذ تتوتر العلاقات بين المعارف التى تدرك بواسطة ثقافة المجتمع فى فترة من تاريخه، وعبر الزمن تتحول فى الواقع الاجتماعى بالممارسات المستمرة إلى حقائق يؤمن بها الناس ويعتقدونها، وبين المعارف الجديدة التى تدرك بجوهرها؛ أى تلك التى تدرك بالعلم والتعلم والتى قد تنفى ما يعتقد الناس اجتماعيًا أنه حقائق، وتظلان فى تعارض يرهق المجتمع بالعجز، دون تخط يسعى إلى نفى التعارض، وتجاوز يستهدف الأكثر قيمة والأكثر حقيقة. والمجتمعات لا تخرج من هذا العجز المرهق إلا بالتجدد، أى عندما تستطيع أن تجدد أدواتها الإدراكية والمعرفية، وفهمها للعالم، لتعيد تأسيس طريق جديد كاشف لمصداقية تصوراتها لواقعها، وتزيح المفاهيم التى تطمس قيمها، بفك الالتصاق بالماضى والانغلاق عليه، لتمارس سيطرتها على عالمها بوعى المراجعة، الذى يستهدف استخلاص المعارف وحق الفهم للواقع والتفكير فيه ونقده؛ بل نقد تلك المعرفة وفحص أدواتها ومناهجها وتعديلها، وذلك بالتوازى مع الاقتدار على كشف المؤسسات المناهضة التى تستهدف لجم الحركة نحو المعرفة والتغيير.
صحيح أن المنظومة الثقافية تعنى مفهوم القيم المعيارية فى نوعية علاقاته، ونظام وجوده واتصالاته فى مستوياتها ومجالاتها المختلفة، حيث لا تصبح حركة الواقع تجسيدًا لهذه المنظومة، إلا من حيث مصداقية علاقاتها بهذه القيم المعيارية، باعتبارها المرجعية لأنشطته وممارساته، وصحيح أيضًا أن المنظومة الثقافية هى الطاقة المحركة لتاريخ أى مجتمع، إذ تحوى المخطوط والمحفور والمرسوم والمدون والمقول، فتشكل هوية ذلك المجتمع وخصوصيته، والصحيح كذلك أن النقد الثقافى أشد ارتباطًا فى ممارساته، بالنقد الموجه إلى الجمهور العام، متجاوزًا فى ذلك حد التفسير إلى المعارضة والاختلاف مع السائد الثقافي، مستهدفًا نطاق التغيير دعوة وتحقيقًا وتأثيرًا فى الواقع، انطلاقًا من أن الثقافة هى مرآة تعكس تصورات الناس، وأيضًا هى أداة للهيمنة عليهم، وذلك ما يتطلب تعقب المخفى المسيطر، وتلك مهمة تنويرية تفرض منازلة المخفى أو المضمر بتنويره، وكشف أنساقه، سواء أكانت مرئية أم مكتوبة أم مسموعة، واختراقها، وتعرية استراتيجية بنية المخفى أو خطابه، فضحًا للأقنعة الخادعة والمضادة للتنوير؛ إذ التنوير ليس نوعًا من التغيير؛ بل هو محدث التغيير بوصفه الكاشف للجمود، والدافع إلى بلورة الوعى الذى يقود إلى التغيير، ورهانه أن يكون المجتمع قابلاً للتغيير وقادرا عليه؛ لذا فإن استمرار الوعى المتجدد الحضور والفعالية، يشكل النقد الثقافى جانبًا مهمًا فى تحقيقه بخاصيته المميزة، التى تتأسس على ضرورة طرحه لوجهة نظر، وهو ما لا يتأتى إلا بالحفر على القصدية فى الأنساق الثقافية والاستدلال عليها، كشفًا لما يستهدفه المخفى برصد ما يقطع معه، أو ما يصل به من أفكار، فسلطة التنوير دائمًا أعلى من كل سلطة للأمر الواقع، وبالعقل يظل التنوير قادرًا على الكشف والتعرية. وقد يتبدى النقد الثقافى أيضًا متخطيًا مجال التجريد النظري، إلى صياغة إبداعية تطرح وعيًا تنويريًا لقضية ما، سبق لكاتب آخر أن طرح صياغة مغايرة تكرس للقطيعة مع التنوير، ويزخر التراث العالمى بتلك الإبداعات، إذ نرى فى الأسطورة اليونانية الرومانية تتمفصل شخصية «بجماليون» بوصفه فنانًا نحاتًا، بين موهبة دفعته أن يحقق وجودًا ذاتيًا إبداعيًا منحه فرح الاستمتاع بذاته مبدعًا، وعلى النقيض يتمفصل ذلك الوجود مع معاناة هم ذاتي، يتجسد فى علاقته الإشكالية بالنساء التى تتبدى فى شدة كراهيته لهن ورفضه الزواج، و هو ما يعد معاناة تحويلية لذات النفس؛ لذا راح يستنهض طاقته الإبداعية ليصوغ تمثالاً لامرأة يتجاوز بها كل النساء، بدلاً من أن يعيد تأهيل ذاته فكريًا، تجاه معنى الوجود، إقرارًا حقيقيًا وواقعيًا بثنائية الجسد الإنسانى المتشابه والمختلف، تأسيسًا لفكرة استمرار الوجود وتواصله. أفرغ «بجماليون» كل موهبته فى صياغة تمثال من العاج يستحضر تصوره لجسد المرأة المثالية التى أطلق عليها اسم «جالاتيا»، وتبدت متألقة الجمال الجسدى المتحقق بإبداعه، لكن ترى هل الذات الإنسانية جسد فقط؟ ومع أنه ليس ثمة كينونة لذلك الجسد المصنوع من العاج، فإن «بجماليون» أصبح عاشقًا لها متعلقًا بها، يداعبها ويكسوها بالثياب الفاخرة، ويزينها بالحلي، ويهديها الزهور؛ بل يفضى إليها بغرامه حتى أصبح التمثال امتدادات مستقبله، وتمنى أن يتحول إلى امرأة حقيقية، فتضرع إلى «أفروديت» إلهة الحب، فغدا التمثال امرأة حية لحمًا ودمًا. وتنتهى الأسطورة بزواجهما ثم إنجاب «جالاتيا» ولدًا. إن الحدث الاستثنائى الذى حقق النقلة النوعية- بتدخل «بجماليون»- كى يصبح التمثال إنسانًا، إنما يجسد عمق دلالة علاقة الامتلاك والهيمنة القادمة، بل الإخضاع والإتباع والإمعان فى قولبة «جالاتيا» وفقًا لنهج «بجماليون». صحيح أنه أحب جسد «جالاتيا» بوصفها تمثالاً، لكن عندما أصبحت إنسانًا، ماذا عن كيانها بوصفه عالمًا مستقلاً قائمًا بذاته بلا نوافذ إلا بإرادتها؟ ماذا عن مشاعرها حين وجدت نفسها فى علاقة حتمية؟ ليس ثمة نظرة تأملية لتلك المرأة سوى أن يستمتع بها الزوج وتلد له طفلاً. تناول أسطورة «بجماليون» أدباء من جنسيات متعددة، أحدهم الكاتب الأيرلندى «جورج بيرنارد شو» ( 1856 1950)، الذى هجر زمان الأحداث ومكانها، واستبقى شخصية «بجماليون» تحت اسم «هنرى هيجنز» الذى يعمل أستاذًا للأصوات، وأيضًا شخصية «جالاتيا» تحت اسم الفتاة «إليزا» التى تعمل بائعة للزهور. يلتقيها «هنرى هيجنز» وصديقه الكولونيل «بيكرنج»، فتلفت نظرهما لهجتها المبتذلة، وأسلوبها المشاكس، وتدنى سلوكها، فيراهن «هنري» صديقه على تحويلها إلى سيدة مجتمع راقية، فيواصل تدريبها ويحقق نجاحًا باهرًا، تمامًا كما نجح «بجماليون» فى نحت تمثال «جالاتيا»، لكنها كانت تختلف عنها بوصفها كائنًا بشريًا. لقد فتنت «إليزا» باقتدار أستاذها، أما هو فقد كان مفتونًا بذاته، ويعاملها بسلوك خال من الدفء الإنساني، وبيقين أن مصير وجودها أصبح منحصرًا به؛ إذ نجاحها لا يعود إليها؛ بل إلى أستاذها، لكنها عندما أدركت أنه يوظف معطياتها لصالحه، أعلنته بتمردها رفضًا للخضوع والدونية، فهى لن تعود لبيع الزهور، بل ستصبح أستاذة صوتيات وستنافسه، وستتزوج صديقًا له. ترى هل ما زال ورثة «بجماليون» يمارسون تصنيع المرأة وتشيئها، انتهاكًا لكينونتها، لامتلاك وجودها والهيمنة عليها؟
وفى صدر العمر، سألت شيخى الجليل الراحل د. محمد مندور: هل علاقة التلميذ بأستاذه تبدأ بالافتتان وتنتهى بالتمرد؟ فأجابني: إذا أدرك التلميذ أن أستاذه يمتلكه ويهيمن عليه».
لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.