لست ناقدًا سينمائيًا؛ لكني أعرف جيدًا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكر طويلاً... أعرفها وأحتفظ بها جميعًا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي، لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألّا يعرفها من يحب. "بجماليون" هي مسرحية شهيرة جدًا للكاتب الإيرلندي الساخر برنارد شو، ولو كنت تعرف الأساطير الإغريقية، لعرفت أن بجماليون هو النحات الذي صنع تمثالاً لفينوس، ثم وقع في حبه حتى كاد يموت من الوله. أي أن عقدة بجماليون هي عقدة أي شخص يصنع شيئًا ثم يهيم به حبًا. لاقت المسرحية نجاجًا كبيرًا مع معالجة برنارد شو العصرية.. البروفيسور هجنز -خبير التخاطب- يراهن صديقه على أن يستطيع أن يجعل أي إنسان يتكلم لغة راقية. يقع اختياره على بائعة الأزهار الفقيرة إليزا دوليتل التي تتحدث بلغة سوقية فظيعة.. يلاقي الأمرّين في تعليمها حتى ينجح فعلاً، وبالطبع يقع في حبها.. طبعًا أنت شاهدت مسرحية فؤاد المهندس وشويكار الشهيرة التي تم فيها تمصير مسرحية شو، بشكل موفّق للغاية، لدرجة أن أية أغنية في المسرحية الغربية لها ما يقابلها في مسرحيتنا. في العام 1964 يقدّم لنا المخرج جورج كيوكور فيلم "سيدتي الجميلة" عن هذه المسرحية الشهيرة. الفيلم اعتمد على المسرحية الغنائية التي قدّمت في برودواي قبل هذا، والتي كتب أغانيها ليرنر ولوي، وقد حقق نجاحًا مذهلاً.. إنه قطعة من الجمال، وما زال يدرّس في مدارس ومعاهد السينما في كل مكان كدرس في التذوق الفني. كما قلنا تدور قصة الفيلم حول خبير الصوتيات المتحذلق عدو المرأة البروفيسور هجنز.. إنه يؤمن بأن هناك جريمة شنعاء تُرتكب ضد اللغة الإنجليزية يوميًا، بينما العرب -على سبيل المثال- يحافظون على لغتهم فليتنا نتعلم منهم.. لا تعليق! أخرج الفيلم جورج كيوكور عن مسرحية "بجماليون" الشهيرة نقابل كذلك الفتاة إليزا دوليتل الزهرة الرقيقة النامية وسط الأوحال، وبين عصابات الشوارع وأبيها السكير الأفّاق.. إنها تتكلم أفظع لغة إنجليزية يمكن تخيلها، وكالعادة لا تنطق حرف H أبدًا بل تحيله إلى همزة، كما أنها تنطق Today كأنها "توضاي".. وتتحدث عن قصر باكنام بدلاً من باكنجهام. عندما تذهب الفتاة إليزا للبروفيسور تطلب منه أن يعلّمها النطق الصحيح، فإن التحدي يبدو مستحيلاً. تعرض أن تدفع له شلنًا.. إنه معتاد على تقاضي أعلى الأثمان، لكنه لم يتلقّ قط عرضًا كهذا.. أن يقدم له أحدهم كل ما يملك هذا إغراء شديد.. إن مشاهد تعليم الفتاة ذات اللسان العصيّ تمثل عذابًا حقيقيًا لها وللبروفيسور، لكنها متعة حقيقية للمشاهد. لقد صارت تكرهه بجنون، وتتمنى أن يموت فعلاً. وفي واحدة من أجمل أغاني الفيلم توجّه له السباب وتتوعده وهو لا يراها طبعًا، وتتخيل أن ملك إنجلترا سيحبها، فتكون أول رغبة تطلبها منه هي أن يقطع رأس هنري هيجنز.. سوف تندم يا هنري هيجنز بعد فوات الأوان.. فقط انتظر! تؤدي الأغنية بلكنة الكوكني الشنيعة فتنطق Wait كأنها White، وتنطق late كأنها light. أما اسمه هنري هجنز فتنطقه إنري إيجنز؛ لأنها عاجزة نهائيا عن نطق حرف الهاء. شاهد هذه الأغنية هنا، ومعظمها بصوت أودري هيبورن فعلاً إضغط لمشاهدة الفيديو: وفي اللحظة التي يقرر البروفيسور هجنز فيها أن المهمة مستحيلة تتمكن الفتاة من نطق جملة صعبة، هي: The rain in Spain stays mainly in the plains المطر في إسبانيا يبقى أساسًا في الوديان. وهي جملة مصممة لتدريبها على نطق الحروف التي تجد نطقها مستحيلاً. وهكذا تنزاح الغمة.. شاهد هذا المشهد الرائع هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: هنا يبدي البروفيسور رقة زائدة نحوها، مما يوقع الفتاة في غرامه.. وتقضي ليلتها غارقة في الأحلام.. الفراش! لا أستطيع أن أذهب للفراش حتى لو أعطوني جواهر التاج كلها.. شاهد نشوتها وعجزها عن النوم، بينما المربية تحاول دسّها في الفراش بالقوة هنا: إضغط لمشاهدة الفيديو: يأخذها البروفيسور لسباق صيد الخيول في أسكوت؛ لتختلط بالطبقة الراقية المتحذلقة. هنا يستعرض لنا كيوكور لوحات مذهلة للأزياء الأرستقراطية، مع تحذلق الطبقة الراقية كأننا نرى طواويس مغرورة لا بشرًا.. وجوه باردة متعالية لا تعكس أي انفعال، برغم أنهم يتحدثون عن توترهم الشديد قبل السباق. إضغط لمشاهدة الفيديو: تسحر إليزا -الجميلة الرقيقة أصلاً- المجتمع الراقي بأناقتها ولهجتها. يقع شاب ثري في غرامها، لدرجة أنه يمر كل ليلة أمام دارها مغنيًا.. تعود لبيت البروفيسور، لتجد أنه يحتفل بأنه حوّل فتاة جاهلة مثلها إلى شيء راقٍ.. المشكلة أن أحدًا لا يبالي بها على الإطلاق.. كأنها مجرد شيء، أو كأنها قرد تمكّنوا من تعليمه الكلام. هكذا تدرك أنها كانت واهمة عندما حسبت أن البروفيسور يمكن أن يحبها.. لقد صارت مسخًا لا ينتمي للطبقة الراقية، ولا يستطيع العودة لطبقته الأصلية... تخرج من الدار عازمة على أن تصنع ثقبًا في النهر حسب تعبيرها، لتقابل ذلك الفتى العاشق يمشي في شارعها مترنمًا كالعادة، وفي لقطة من أجمل لقطات الفيلم تنفجر فيه صارخة: - "كلمات.. كلمات.. ليس لديكم سوى الكلمات.. أتلقى كلمات طيلة اليوم سواء منك أو منه.. هذا كل ما تستطيعون عمله!" شاهد هذا المشهد الرائع هنا، ولاحظ كيف تقاطع أغنية أغنية أخرى إضغط لمشاهدة الفيديو: لكن البروفيسور لم يستطع أن يتخلص منها بهذه البساطة.. لقد وقع في غرامها فعلاً.. اعتاد وجهها واعتاد وجودها في حياته.. هكذا ينتهي الفيلم به وقد استعادها لتكون زوجته. هذه نهاية سينمائية تختلف عن نهاية المسرحية.. من المعروف أن برنارد شو كان يكتب أكثر من نهاية لبعض مسرحياته، وقد قدّر هو أنها فتاة ذكية عملية ولن تفوت فرصة الزواج من الشاب الثري الوسيم الذي يهيم بها. أما البروفيسور فلا جدوى منه على الأرجح. كانت أودري هيبورن تتمنى أن تؤدي أغاني الفيلم، لكنها صدمت عندما عرفت أن الغناء سيكون مهمة المطربة مارني نيكسون. لم يترك صوتها إلا في أغنية "فقط انتظر". أما عن ركس هاريسون فقد كان الأمر سهلاً؛ لأن معظم أغانيه عبارة عن كلام موقع، ولم يستطع قط أن يصاحب الغناء بشفتيه، لذا كل مقاطع غنائه يؤديها في نفس الوقت باستعمال أول ميكروفون بلا سلك في تاريخ السينما. كان الفيلم كما قلنا درسًا في الإخراج الفني وتصميم الأزياء والتصوير. تألقت أودري هيبورن في دور إليزا دوليتل برغم التوقّعات التي أجمعت على أنها لن تصلح؛ فهي أرستقراطية أصلاً ولا يمكن أن تعطي انطباعًا بأنها من العامة. وكان الإجماع على أن جولي أندروز أصلح منها، خاصة وهي من لعب الدور في المسرحية. وقد حصد الفيلم ثماني جوائز أوسكار؛ هي أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تمثيل وأفضل تصوير وأفضل صوت وأفضل موسيقى وأفضل إخراج فني وأفضل تصميم أزياء. أعاد الفيلم مجد الفيلم الغنائي وذكّر منتجي هوليوود بما تدرّه هذه الأفلام من مكسب، واستمرت هذه الموجة في الصعود إلى أن قضى عليها فيلم دكتور دوليتل الفاشل الذي أعاد للمنتجين توجسهم وخشيتهم من الأفلام الغنائية، وكان على الأفلام الغنائية أن تنتظر فيلم "حمى مساء السبت" في السبعينيات. وإلى أن نقابل فيلمًا آخر من الحافظة الزرقاء،،،