بعد قيام ثورة 23 يوليو سنة 1952، بدأت خطابات جديدة تظهر فى الساحة الفكرية والسياسية والقانونية والثقافية، وعن الثقافة تحديدا بدأت معالم جديدة تظهر، واتجاهات وتيارات، ولم يكن إغلاق مجلتى «الرسالة» و«الثقافة» حدثا جاء بالصدفة. ولم يكن ازدهار كتابات نجيب محفوظ -كذلك- ازدهارا بعيدا عما يحدث، ولكن كانت كل الأشكال الجديدة، والتوجهات الملائمة للمرحلة، تبحث عن إمكانيات تحققها، ومساحات تتنفس فيها بشكل طبيعى. لذلك أغلقت المجلات القديمة أبوابها، وراحت كتابات سعد مكاوى ويوسف جوهر ومحمود البدوى ومحمود كامل المحامى، وغيرهم، تكدح بين صيحات أدبية جديدة، وشعارات أخرى ترتفع، وتعلن عن ملامح جديدة، لكتابة جديدة. ولم يقتصر الأمر على صيحات وكتابات نظرية فقط، بل راح الشعراء وكتّاب القصة والرواية والمسرحيون، يقدمون إبداعاتهم التى تقطع الشك باليقين. فجاءت قصيدة «رسالة من أب مصرى إلى الرئيس ترومان» للشاعر عبد الرحمن الشرقاوى، وديوان «إصرار» للشاعر فؤاد حداد، وكانت روايات «القاهرة الجديدة» و«السراب» و«زقاق المدق» و«نهاية وبداية» لنجيب محفوظ، قد قطعت شوطا قبل قيام الثورة نفسها، لتنطلق بعدها كتابات روائية تؤكد هذا المنحى الواقعى. وإذا كان كل ما سبق لم يجعل من منهج الواقعية حقيقة لا خيالا، فما راح يكتبه محمود أمين العالم على وجه الخصوص، جعل من الواقعية معركة اشتعلت على مستوى واسع، وتجاوز الأسوار المصرية، وبلغ خبر هذه الواقعية إلى سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، وأصبح هناك مَن ينتصرون للواقعية بقوة. وبعد أن خاض «العالِم» ورفيقه عبد العظيم أنيس معارك شهدتها صحف ومجلات وقاعات درس، وشاركت فيها أقلام على الطرفين من طراز طه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف السباعى وعلى الراعى ومحمد مندور وأحمد عباس صالح، وغيرهم، وصدر فى عام 1955 كتاب «فى الثقافة المصرية» للعالم وأنيس، ليصبح هذا الكتاب بمثابة إعلان مبادئ للواقعية. بعد كل ذلك، ظلت المعركة تعمل بأشكال ووتائر مختلفة، ودخل فى المعركة كتّاب جدد، لذلك كان محمود العالم يواصل حهاده النقدى والفكرى فى إرساء ما طمح إليه من أفكار ورؤى، ويعقّب ويرد على كل من يقترب ناقدا لفكرة الواقعية، وفى 8 أغسطس سنة 1955، نشر مقالا عنوانه «الواقعية فى الأدب»، وراح يكثّف ملاحظات إلى مَن اعتنقوا وطبقوا الواقعية، ولكنهم فهموها فهما خاطئا، وكذلك مَن راحوا يعادونها، ويكيلون لها الضربات الموجعة. وفى بداية المقال، ذكر أن شاعرا سودانيا من أنصار الواقعية، كان قد كتب قصيدة عاطفية، وكان يخفيها، ولا يقرأها فى الندوات، ويتحرك بها على اعتبار أنها قصيدة خادشة للواقعية، حيث إن الواقعية -كما فهمها- لا بد أن تدافع عن الفلاحين والعمال، والقضايا الاجتماعية الكبرى، والبحث عن قيمة العدل وهكذا من قضايا. فما كان من العالم إلا تصحيح هذا المفهوم الأعرج للواقعية، وأكّد أن الواقعية لا تكتسب معناها من شرف القضية التى تتبناها، ومن الممكن أن تسىء إليها، إذا لم يتقن هذا الشاعر، أو ذلك الأديب، كيفية التناول، والاعتناء بشكل الكتابة وتجديدها وتطويرها، واكتشاف العلاقة العميقة بين مفردات الحياة، وانتقد فى ذلك السياق بعض الذين أساؤوا إلى الواقعية، وسخروا منها، واعتبروها أنها مجرد صيحات سياسية أو اجتماعية للدفاع عن العمال والفلاحين، وكان ممن ذكر ذلك وناقشه -ساخرا من الواقعية والواقعيين- إحسان عبد القدوس فى مجلته «روز اليوسف». ولم يفوّت محمود العالم الفرصة، فراح ينتقد توفيق الحكيم فى مسرحيته «بجماليون»، هذه المسرحية التى انبثقت من أسطورة «بجماليون»، وعالجها الحكيم على طريقته الخاصة، عندما صنع مثّال ما بإزميله، تمثالًا بديعًا لامرأة أسماها «جالاتيا»، وعندما أعجبه ما صنعت يداه، لدرجة الانبهار، توسل إلى الآلهة لكى تبعث الروح فى جالاتيا، واستجابت الآلهة لرغبة الفنان، وراحت الروح تدبّ فى التمثال، حتى استقام وأصبح امرأة بالفعل، وفى لحظة ما، راحت المرأة تفقد جمالها الذى كانت عليه فى صورتها التمثالية، لدرجة أن صانعها شاهدها وهى تمسك بالمكنسة لتنظيف المكان، فهاج وماج، وطلب من الآلهة إعادة «جالاتيا» إلى صورتها الأولى الجامدة، فاستجابت الآلهة مرة ثانية للفنان، وأعادت «جالاتيا» تمثالًا مرة أخرى، هنا انتفض الفنان ليحطم تمثاله، كأنه لم يكن. ووجه العالِم عددا من الملاحظات إلى هذه المعالجة، التى وصفها بأنها لم تستطع إدراك العلاقة بين التمثال الجامد، والمرأة الحية المتحركة، فالحكيم غير قادر على فهم الواقع، وبالتالى فهو غير قادر على التعبير عنه، ولم يُرجع العالم عجز الحكيم عن فهم الواقع لكونه يستدعى الأسطورة فى التعبير عن رأيه، بل أرجع هذا العجز إلى ثبات توفيق الحكيم عند نقطة قديمة فى الزمن، ولم يتزحزح عنها، وهذا -من وجهة نظر العالم- هو الملخص الوافى لمعظم ما كتبه توفيق الحكيم. كذلك تناول العالم إحدى قصص مصطفى محمود، وهى قصة تتحدث عن الضياع، هذا الضياع الذى نتج عن فقدان بطل القصة فتاته، وكان مصطفى محمود عموما ينطلق فى كتاباته من نظرات فلسفية وتأملية، ربما تتناقض تماما مع ما كان يذهب إليه العالم ورفاقه تحت لواء الواقعية. ويعتبر هذا المقال من العلامات الرئيسية فى وجهة نظر العالِم، بالإضافة إلى سلسلة مقالات ودراسات كانت تعلن عن أن اتجاها جديدا، يشق الصفوف ليبقى مرحلة طويلة من الزمان، ويفرض نفسه فى كل حوارات ذلك العصر الذهبى المفعم بالجدية.