نشرت صحيفة المساء فى 14 فبراير 1957 خبرًا فى صفحتها الأدبية عن صدور مجموعة قصائد شعرية تحت عنوان «قصائد من القنال» للشاعر كيلانى حسن سند، وتمتاز هذه القصائد بالحماس الوطنى العارم، إذ كانت مصر فى ذلك الوقت خارجة من حرب 1956، الشهيرة بالعدوان الثلاثى الغادر على مصر، وكتب الشعراء وكتّاب القصة والمسرحيون وكاتبو المذكرات فى هذه الحرب، كما أنشأ الفنانون التشكيليون ورسامو الكاريكاتير معارض متجولة فى أحياء القاهرة، وأنشد المطربون أغانيهم الصادحة، وكان أشهر من كتب فى هذا المجال الشاعر الشعبى صلاح جاهين «موال عشان القنال»، والذى بدأه ب: يجعل كلامى فانوس وسط الفرح قايد يجعل كلامى على السامعين بفوايد يجعل كلامى ولا ناقص ولا زايد إحنا فى وقت البنا ماحناش فى وقت كلام يجعل كلامى حجارة ومونة وحدايد . وأشارت الصحيفة إلى المقدمة النقدية التى كتبها محمود أمين العالم، وكان اسم العالم فى ذلك الوقت يدوّى بقوة شديدة، وقرينا لكل ما هو طليعى وتقدمى ووطنى واشتراكى، على المستويات الفكرية والسياسية والأدبية، وكان الكتّاب والشعراء والساسة يركنون إليه فى تقديم كتاباتهم، لذلك فهو الذى قدّم كتاب ماذا تريد أمريكا من الشرق الأوسط ، للكاتب والمفكر الشيوعى والمناضل شهدى عطية الشافعى، وكذلك قدّم مجموعة الأنفار للكاتب محمد صدقى، واعتبره العالم أحد رواد القصة الواقعية فى مصر، ثم قدّم أول ديوان للشاعر محمد الفيتورى عام 1955، وبعد أن انتقده فى وقت سابق، كتب له المقدمة بعد أن تطورت تجربة وخبرة الفيتورى الفنية جيدا وأصبحت قدرة الشاعر على التجسيد والتصوير وإبراز القسمات ذات طابع متكامل إلى حد كبير لا يقف عند حدود الجزء، بل يمتد فيشمل القصيدة كلها كما فى قصيدته العملاقة (الطوفان الأسود) وفى قصيدة (مات غدا) . وفى هذا العام البعيد 1955، أى منذ ستين عاما تماما، أصدرت دار النديم كتابا قصصيا، ضم مجموعة من الكتاب المصريين المجيدين، منهم إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ومصطفى محمود وغيرهم، وكتب لهذا الكتاب الدكتور طه حسين مقدمة فخيمة، ولكنه أخذ على بعض هؤلاء الكتاب انحراف لغتهم التى لا بد أن يقوموا بتجويدها والتزام الفصحى فى ثناياها، وإذا كانت مقدمة طه حسين قد أفسدت فرح البعض به وبمقدمته، فإن محمود أمين العالم كتب دراسة طويلة وفاحصة للقصص، وإن كان قد لاحق بعض القصص ببعض مآخذ رآها واجبة القول، مما أغضب مصطفى محمود الذى ناله نقد طه حسين ومحمود العالم، فكتب مقالًا فى مجلة صباح الخير عنوانه مذبحة القلعة، واعتبر أنه ورفاقه وقعوا بين دفتى اليمين واليسار، وتلقوا ضربات من الجهتين، مع عدم علمهم بهذا الكمين الذى نصبه لهم الناشر، مما اضطر الناشر لطف الله سليمان أن يكتب تعقيبا، يصرّح فيه بأن كل الكتّاب الذين نشروا فى الكتاب، كانوا على علم بمقدم الكتاب طه حسين، وكذلك بكاتب الدراسة النقدية محمود أمين العالم، بل إنهم كانوا مبتهجين بهذين الاسمين الكبيرين فى الساحة الأدبية والفكرية فى ذلك الوقت. وإذا كان طه حسين قد أخذ أهميته من تاريخه الطويل فى حقل الثقافة المصرية، فإن محمود العالم لم يكن عمره الأدبى والفكرى والثقافى يتجاوز ست سنوات فقط، ولكنه أحدث ثورة حقيقية على المستوى النقدى، وكان كتابه فى الثقافة المصرية ، الذى صدر عن دار الفكر الجديد فى بيروت، وقدّم له الكاتب والناقد والمفكر اللبنانى حسين مروة بدراسة وافية، وأشار إلى بعض المناطق المهمة التى تناولها الكتاب. وكان هذا الكتاب بمثابة الدستور النقدى والثقافى الذى تبناه الكتّاب والأدباء الشباب فى ذلك الوقت، وكان قد ثار على الأدب القديم، بما فى ذلك أدب نجيب محفوظ، وكتب عبد العظيم أنيس -شريك العالم فى تأليف الكتاب- منتقدا رواية القاهرة الجديدة ، بشكل اعتبره البعض مبالغا فيه، أما العالم فقد كتب عن عبقرية العقاد وعن توفيق الحكيم، وقدّم دراسة طويلة ومستفيضة فى الشعر المصرى. واعتبر أن الشعر هو انعكاس للواقع الذى ينشأ فيه، وبدأ العالم دراسته بإرسال بعض الوقائع التى يعتبر الشعر أحد المعبرين عنها بشكل واضح تماما، فمن مؤتمرات العلماء، واحتجاجات التجار وأصحاب الحرف الصغيرة، نشأت قوميتنا المصرية فى مفتتح القرن التاسع عشر، نشأت من عمليات التجمع والترابط والتآزر بين فئاتنا الشعبية خلال حركات المقاومة السلبية حينا، المسلحة أحيانا. فى ظل هذا المناخ نشأ الشعر المصرى، وراح يعبّر عن المشاعر المتأججة رويدا رويدا حتى وصل إلى محمود سامى البارودى، والذى تفجرت على يديه ينابيع الثورة الشعرية الجديدة وشعر البارودى -كما يقول العالم- صدى رائع لهذه الحركة الناهضة، لمعركتنا الأولى فى قوميتنا المصرية، ثم هو تعبير بالغ عن هزيمتنا المبكرة . إذن فالعالم يرى أن الشعر، وكذلك معظم الفنون المكتوبة، ما هى إلا صدى لما يحدث فى الواقع، ولكن العالم لا ينظر إلى الأمر بهذه السهولة واليسر، ولكنه يرى فى كثير من تطبيقاته فى ما بعد، بأن الفن ليس انعكاسا آليا وميكانيكيا للواقع، مثل الصرخات الاضطرارية لأى كائن حى، بل إن هذا الصدى تعبير ينطوى على وعى فنى بأدوات الكتابة، وينطبع بالروح التى يريد المبدع أن يرسلها فى كتابته، والتى هى بالأحرى قسماته الإنسانية. ولم يمر الكتاب مرور الكرام آنذاك، بل أثار جدلا عنيفا بين كل الأطراف الجيلية، بداية من طه حسين نفسه، والذى كان قد دخل الصراع مبكرًا، عندما كانت تنشر مقالات الكتاب فى صحيفة المصرى ، وكانت ردوده عنيفة وساخرة، وكذلك دخل توفيق الحكيم والسباعى ومحمد تيمور وغيرهم، كما استقطبت معركة الواقعية ناقدين وكاتبين آخرين، ليصبح محمود أمين العالم هو بطل معركة الواقعية الاشتراكية الأول، والذى حفر لها مجرى عميقا فى النقد الأدبى المصرى والعربى.