مؤسسات الدولة الحديثة بطبيعتها قامت على قاعدتين تبدوان متناقضتين: الأولى ضرورة العيش معا؛ والثانية الخلاف الذى يأخذ شكل التوتر أحيانا، وعندما يستحكم الأمر يصير أزمة. السلطات الثلاث فى الدولة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، يجب أن تكون منفصلة ومستقلة، ولكنها فى الوقت نفسه يراقب بعضها البعض، كما أن وظائفها هى التى تعطى للدولة الحديثة (غير التقليدية وغير القبلية وغير الطائفية وغير الاستبدادية أو الشمولية) معني. وعلى نفس المنوال فإن الحكومة والإعلام، وكذلك الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، يوجد بينها نفس طبيعة العلاقة المتناقضة الأغراض. وفى كل هذه العلاقات فإن خضوع أى من المؤسسات للأخرى يشكل خسارة فادحة للدولة، كما أن الحيوية لا تحل بالنظام العام كله ما لم يقم كل طرف فيه بوظائفه الأساسية. ولذلك فإن الدولة تعظم من عائدها عندما يفهم كل طرف ومؤسسة حقيقة وظائف المؤسسات الأخرى والحدود الواقعة عليها بحكم المهنة أو القواعد الموضوعة من قوانين وتقاليد وما أشبه. وما يهمنا هنا أن الحكومة والإعلام كليهما لا يستطيع الاستغناء عن الآخر، ولكن الواقع يشهد فى الوقت نفسه شكوى الحكومة أن الإعلام يشوه إنجازاتها ليس لأنه يكذب، وإنما لأنه لا يعرض نصف الكوب الممتليء. شكوى الإعلام من الحكومة يبرز أحيانا فى شكل من يتصور أنه يستطيع أن يكون بديلا للحكومة فى تسيير أمور الدولة، وفى أحيان أخرى فإنه يقع فى غرام الحكومة وسلطتها فى عملية تعبوية كبيرة من أجل المصلحة الوطنية. وخلال مسيرتى فى العمل الصحفى والإعلامى كانت نصيحتى للزملاء دائما ألا يحاولوا ممارسة «سلطة الادعاء» على الدولة فيوسعونها بالاتهامات؛ كما أنه ليس من وظيفتهم القيام بدور المحامى المدافع عن الحكومة فى كل الأحوال. الإعلامى وظيفته البحث عن الحقيقة وإتاحتها للمجتمع والدولة، ومع تعدد الحقائق يكون التحليل الذى يتيح ما هو معروف بالمعرفة، التى تقوم جهات مؤسسات أخرى فى الدولة بالاستفادة منها وتحويلها إلى اختيارات وأولويات. الحكومة من ناحيتها لديها فى هذه العلاقة المتوترة بالطبيعة عدد من الأرصدة التى ليس فقط تستطيع استخدامها لتخفيف التوتر، وإنما فى الحقيقة لتحقيق أغراضها فى خدمة المواطنين. فلا توجد جهة أخرى فى الدولة لديها المعلومات قدر ما لدى الحكومة، وعندما يكون لديها كرم كبير فى الإتاحة، فإنها تجعل العلاقة مع الإعلام ذات قيمة للطرفين. وللتقريب، فإن الصورة الناجحة للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى الوصول إلى هدفه فى التحذير من الآثار السلبية للزيادة السكانية قامت على أساس من الإتاحة ليس فقط لكل المعلومات الممكنة، وإنما أيضا للكيفية التى يتم بها جمعها. وعندما بدأ الجهاز يذيع أرقاما حقيقية وشجاعة عن معدلات البطالة والتضخم وغيرها بصورة دورية، لم تعد المؤسسة المصدر الأساسى للمعلومات فى الدولة، وإنما لكل المؤسسات الدولية أيضا. الحكومة قادرة على ذلك فى أمور كثيرة، بل إن لديها القدرة ليس فى العراك أو بث اللوم للصحافة والإعلام، وإنما أن تجعل كليهما يلهثان وراءها، بأن تكون كما يقال «أمام المنحني» وليس خلفه. الحكومة تعرف ما سوف يحدث، وماذا سينفذ وما الذى سوف يؤجل، وقبل ذلك وبعده لديها الأولويات والخيارات المعتمدة، كما أنها تملك القدرة على ترتيب الحجج التى تجعلها تفضل أولوية على أخري، وتتمسك باختيار بعينه بين بدائل متنوعة يكون فى كثير من الأحيان أحلاهما مر. المهم أن تعرف الحكومة صياغة «القصة» ليس بأن تؤلف أمرا لا وجود له، وإنما أن تجيد عرض ما هو موجود. وفى حديث أخير للمهندس شريف اسماعيل رئيس مجلس الوزراء فإن شرحه لقضية المفاعل النووى جاءت من خلال الحديث عن «خلطة الطاقة» التى لابد فى دولة مثل مصر أن يتوافر فيها الطاقة الأحفورية، مع تلك النووية، مع الأخرى المتجددة، لأن لكل منها استخداماته، ولأن أمن الطاقة يحتم عدم الاعتماد على نوعية منها بصورة مطلقة. ومجموع القصص أحيانا يكون مثيرا، وفى حديث وزير الصحة الدكتور أحمد عماد عن مصنع ألبان «لاكتو مصر» لصحيفة المصرى اليوم الغراء فإن الدراما التى جرت فيه ليس فقط القصة الإعلامية المكتملة، بل أنها أيضا المرشحة لمسلسل رمضانى عن كيفية إنقاذ موارد عامة مهدرة. الوزيرة هالة السعيد أخذت الخيط لكى تحكى قصة «رأس المال الميت» فى مصر، والذى ظهر فيه أن هناك 2959 من الأصول غير المستخدمة (الميتة فى الحقيقة) والتى تعمل الحكومة على أن تبث فيها الروح. بالنسبة للصحفى والإعلامى فإن قصة الموت والبعث هى التجسيد الحى لأروع أنواع الدراما الواقعية. وفى كل الأحوال فإنه لا يوجد حلف من الإعلاميين والصحفيين ضد الحكومة؛ فهؤلاء مثلهم مثل غيرهم منقسمون ليس فقط بين اليمين واليسار، والمتدينين والليبراليين، وإنما داخل كل من هذه التيارات ذاتها. ويقال مزحا إنه كلما اجتمع اثنان من الصحفيين فى غرفة فإن ثلاثة آراء تتردد!. وكما هو الحال بين الفقهاء حيث اختلافهم رحمة، فإن ذلك هو الحال بين الصحفيين والإعلاميين إذا ما قام كلاهما بالوظيفة والمهنة المخولة له، ولم يتم إغراؤه بدور «الداعية» أو الواعظ أو الزعيم السياسي، وهذه هى الأخرى وظائف يحتاجها المجتمع والدولة ولكن وفق مواصفات أخرى تقع فى الحزب السياسى أو فى الجمعيات الأهلية. وما تحتاجه الحكومة أن تضبط إيقاع العلاقة مع الإعلام بقدر غير قليل من الشفافية، وإدراك أن الساحة الإعلامية تأخذ شكل وحش هائل يعمل على مدار الساعة، أو فى الحقيقة اللحظة، ويحتاج دائما لأنواع فلكية من المعلومات المتنوعة، والتى بدونها تصير ساحته مثل المسرح الذى لم يأت له جمهور، أو الاستاد الذى لم تقم فيه مباراة، أو قاعة السينما التى توقفت فيها آلة عرض الأفلام. لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد