يبدو أننا لا ننتبه إلى أن الدنيا كلها ليست إلا دوائر من زمن ؛ زمن يشرق فينا بميلاد الحب دون أن نستعد إلى لحظات غروبه وآه من لحظة غروب الحب ، حيث تجذبك دوامة من صقيع تأخذ قلبك لتهبط بك عبر بئر ضيق مزروع بالشوك على كل جدرانه ، فتسحبك مرارة الجراح التي تدميك ، لكن لا احد يلحظ آلامك سواك . ........................................................... هكذا رأيت الدنيا كدائرة تخرج من الميناء الشرقي السكندري الواقع أمام تمثال سعد زغلول ليكون على الطرف الآخر اللون الأبيض لقلعة قايتباي ولتدور عيوني إلى مئذنة سيدي المرسي ابو العباس على جهة اليسار ، بينما أرى على يميني مبنى هيئة الصحة العالمية الذي ملأت طرقاته في طفولتي صخبا حيث كان مكتب ابي ، ومن دائرة حركة الموج المتتابعة ، تتوهج دائرة أخرى من التاريخ العاطفي لتحيط بقلبي فتذكرني ببهجة اللقاء الذي تغيرت به كيمياء الروح حين رأيت الدنيا آكثر صفاء ونسمات الهواء تؤكد أن الربيع المولود في قلبي سيمتد إلى الأبد . وجاء صوت العالم النفسي وأستاذي سعد جلال منبها لي « أول الحب هو إعادة ميلاد أنت لم تحسب حسابه ؛ لذلك فعليك أن تدرس حسابات العشق وهل يمكنه أن يدوم ، أو تجد نفسك وأنت ملقى بقوة غريبة من فوق نجمة بعيدة في السماء ويكون الهبوط على الأرض مدويا بآلام لاتعرف لها نهاية « وفتحت أمامي كلمات العالم الكبير ما لم أره من أبواب تاريخي ؛ فالحب يولد بتاريخ شخصي ، يمكن أن تمتد إلى آدم وحواء والشجرة والغواية و الارتواء من فيض نهر الإمتزاج النوراني ، وعبثية الافتراق المؤقت من أجل إنجاز مهام الحياة من عمل ومأكل ومشرب ومدرسة وجامعة وحياة عملية ، ويبقى مشهد التقارب الخلاب بين العاشق ومحبوبته هو قائد بوصلة الحركة إلى الأمام أو الخلف ، وتنبت لهذا التقارب عقارب زمن خاص تتحرك بما يحقق إنجازا أو يقترب من الفشل، وفي قلب الإنجاز تقابلك ثقة بأنك تستحق التقارب الخلاب مع الحبيبة ، وعلى حافة الفشل يجرحك سكين الخوف من خسران الحبيبة. أما كيف تحقق لنفسك عالما سبق أن وصفته لي ليليان الإيطالية التي تحيا في باريس لترعى والدتها الفرنسية وتدرس الآداب نهارا وتدير بقية الشقة الشاسعة كبنسيون في قليل من الوقت ، قالت ليليان : مجيئك إلى باريس من أجل لقاء من تحب هو مغامرة لكنها ستثقل التجربة العاطفية بأثقال من ديون بنقود ستفترس قدرتك على بناء عش صغير للتجربة العاطفية الحلوة ، وراحت ليليان تضيف « سأكون سعيدة لك حين تخرج من بيت صغير وأنت في شوق إلى عملك ، وحين تنتهي منه فتسرع إلى بيتك الصغير؛ لكن أسلوب حياتك لا يتيح لك قدرة الصوم عن التواجد الدائم مع الحبيبة « . لا أنسى أني دققت النظر في عيون ليليان قائلا : ولكنك كذلك مع من تحبين؟» وتفضلين البقاء معه طوال الوقت . أجابتني بصوت مزدحم بالسخرية والإندهاش «لو كنت حققت ذلك فأي إهانة لنفسي أن اظل في إنتظار من أحبه بعد انتهاء وقت عمله ، وليمضى علينا وقت التسكع في الشوارع ، ونتأمل أمثالنا المتسكعين أيضا ، وهم يملأون وقتهم بالغرق في القبلات في الشوارع .. ولو كانت الدراسة أو العمل يحققان تسلية طيبة لقضينا كل الحياة في الدراسة أو العمل ، ولو كانت البيوت بلا مشكلات لأسرعنا لنلتقي بمن نحب ، لكن العمل بالدراسة أو غيرها رتيب وملىء بالعيون المترصدة ، والبيت بالنسبة للجيل الشاب ملىء بانتظار مشاركة العائلة إما بالمال أو بوقت لرعاية الكبار كما في حالتي مع أمي ؛ فضلا عن ضرورة فض مشكلات ساكني البنسيون مع بعضهم؛ فمنهم من يترصد جارته في الغرفة المجاورة له ، ومنهن من تترصد ابن العجوز الساكن في الغرفة المجاورة ، لكنه لا يلتفت إليها، فينكسر حلمها في تجربة متوهجة ولا يصبح أمامها سوى من يعرض قلبه عليها فتتصدق عليه بلقاء عاطفي تعض من بعده أصابع خيبتها، ولذلك فالوجودا بالشارع أو المقهى لأطول فترة هو المتاح للحلم مع الحبيب بعيدا عن مشكلات البنسيون كي أربح وقتا لا أواجه فيه تفاصيل مشاكل حياتي . ومثلي في ذلك مثل الكثير من أبناء جيلي . كلمات الإيطالية التي تحيا في باريس أعطتني تفسيرا لهذا الزحام المغموس في أركان الشوارع الباريسي التي تمتلئ بشباب وفتيات ، غارقين في العناق ، فأهمس لنفسي هم بالحب يؤجلون إحساسهم بالتعاسة . أضحك لليليان وأروى لها ما فعلته معي جرسونة المطعم في الحي اللاتيني ؛ وهو بالتأكيد واحد من أرخص مطاعم باريس ، حيث يمكن تناول ربع فرخة وطبق سلطة وطاجن من الكسكسي المغربي المزين بالشطة الحاميه ، ولا أدفع إلا أقل قدر من النقود. طلبت طعامي من الجرسونة الشابة التي لا تقل جمالا عن صوفي مارسو، ومرت عشرون دقيقة ولم يصل الطعام، فناديت بصوت مرتفع متسائلا عن سبب التأخير، فجاءت الجرسونة ووجها يضج بالغضب قائلة «تطلب إستعجال طعامك بصوت عال وبلهجة تبدو فيها كجنرال متقاعد ، عليك أن تعرف أن متعجرفا مثلك تشاجر معي ، ثم دعاني للعشاء وإعترف لي بحبه لي ووجدت نفسي أنجذب إليه؛ فعشنا معا في غرفة بفندق كعشرات الشباب المتزوج بباريس ، لكنه كان دائم السرقة من كيس نقودي على الرغم من أنه يعمل في مكتبة الجامعة وطالب في نفس الوقت ، ثم بدا يشكو الإرهاق فراقبته وعرفت أنه أقام علاقة مع إيطالية تدرس القانون ، فطردته من حياتي ، لكنه ترك جنينا في أحشائي، تركني حامل وقضيت كثير من الوقت في عذاب ، ورغم إنجابي ومسئوليتي عن الطفل إلا أن جاذبية هذا الشرير مازالت تأسرني؛ وأتحجج للإتصال به بدعوى ضرورة مشاركته في رعاية الطفل؛ وما أن أراه حتى أستسلم له ويستجيب بسرعة للغواية لكنه يعود إلى الإيطالية ، وهي من تعرف إرتباطنا معا ، لكنها تتجاهل خيانته لها معي ؛ والتي هي في الحقيقة إسترداد لمن سرقته مني لتخونني معه «. كانت الجرسونة تواصل الصياح بتفاصيل حياتها مع من تحب ، ونطقت أخيرا في مواجهتي « عندما تزعق أنت لأن طعامك تأخر ، تذكر أن صراخك قد يلفت صاحب المطعم وقد أكسر طبقا أو طبقين ، فيخصم ثمنهما من مرتبي ، وقد يقوم بفصلي من العمل ، فمن يقوم بالصرف على أبني الذي أنجبته من رجل ندل ؟ وأنا أحب هذا الندل وأتمنى الخلاص من جاذبيته لكني لا أستطيع ؛ وهو لن يقوم بتكلفة حياتي؛ لأن لديه إمرأة تقوم بشفط نقوده تباعا . فهل تأخري في إحضار طعام غدائك سيكون سببا في مزيد من التعاسة لي ؟ أخفض صوتك وانت تتكلم مع أي جرسونة في أي مطعم فأغلب الجرسونات لديهن مشكلات قد تفوق مشكلتي « . طبعا غرقت في الضحك من حكاية الجرسونة التي أسرعت بإحضار الطعام الذي طلبته ، ووجهت لي سؤالا « هل تعرف لماذا تسرق إمرأة رجل إمرأة أخرى ؟». أجبتها : لعلها الجاذبية. وأضفت « هل تلتقين يوميا برجلك الخائن ؟» أجابت « أحيانا أنتظره وقت خروجه من عمله لنقضي بعضا من الوقت في الشارع ، وقد نتبادل القبلات ، لكنه يتركني وحيدة لأعود إلى طفلي وطبعا أفكر في طرده من حياتي لكني لا أعرف كيف أتخلص من جاذبيته . هل تعرف وسيلة للخروج من هذا الإدمان ؟ قلت : لو أني أعرف لكتبت مؤلفا في ذلك الموضوع، خصوصا ضرورة التخلص من حالة المهانة التي يشعر بها العاشق أو العاشقة عندما يتم هجره إلى كائن آخر . ......................................................الخروج من تجربة حب يحتاج إلى إرادة قد لا يملكها الرجل أو المرأة . ناقشت ذلك مع عديد من أطباء النفس ، هناك من يحترف تغيير كيمياء المخ بالأدوية المهدئة عاطفيا ، فالطب النفسي من مدرسة أحمد عكاشة يتعامل مع مثل هذه الحالة كما يتعامل مع الإدمان ، فالأدوية المطمئنة والتي يسميها « مفرحات النفوس « يمكن أن تؤجل الشوق ، حتى يتكوم بعيدا في ركن ما من الذاكرة ويتعود الإنسان على الحياة بدون لقاء الشريك الذي خرج بإرادته _أو بقرار منا _ من حياتنا . أما مدرسة الراحل الصديق محمد شعلان الذي تطور به الطب النفسي في مصر ، مدرسة محمد شعلان كانت تؤمن بأن كل خلية في المخ هي مخ مكتمل ، وعلى ذلك فمحو تجربة عاطفية يقتضي قدرة فنية على النضج العاطفي مع الإستقاله من وهج راحة الإعتمادية التي يسببها خروج مئات الملايين من صورة هذا المحبوب من كل خلايا المخ ، ولا يمكن إلقاء ملايين الصور خارج دائرة الحياة ، اللهم إلا بالقاعدة الدينية القائلة « لا يزيل الله قدرا إلا بقبوله « ولم يبق في دائرة أصدقائي المحترفين للطب النفسي من هذه المدرسة سوى سيد واحد محترف لتدريب العشاق على قبول قدر الإفتراق ، وهو الطبيب النفسي عادل المدني تلميذ محمد شعلان الأثير . وهو من ضحك كثيرا عندما قلت له أن والده وهو الشيخ محمد محمد المدني شريك محمود شلتوت وزميله ايام الخمسينيات من القرن الماضي ، ضحك عادل المدني عندما قلت له أتي سمعت القاعدة الدينية التي يطبقها الطب النفسي حاليا من والده الذي كان صديقا أثيرا لأبي ، وكان يقول تلك النصيحة لعاشق شاب وقع في هوى صاحبة أحد بنسيونات محطة الرمل ، ولا يطيق الإفتراق عنها ، ولا ترضى عائلته بالإرتباط بها . وطبعا أضاف عادل المدني لتلك القاعدة شهورا من الدراسة في روما لأنها من أهم العواصم الأوروبية في التعامل مع العواطف المؤثرة في تكوين الأسر . وسر تقدمهم في تقديم الدعم كي يحقق الرجل أو المرأة درجة من النضج العاطفي ، سر التقدم ببساطة أن إيطاليا كاثوليكية ، أي لا طلاق على الإطلاق . ولذلك يخاف الرجل وتخشى المرأة من الجاذبية التي قد تشد ايا منهما خارج دائرة الزواج. ولهذا تتقدم وسائل علاج الأزمات العاطفية هناك حتى عن سيدة الطب النفسي في الكون وهي الولاياتالمتحدة التي تمزج بين العلاج بالأدوية وصولا للصوم العاطفي كي يخرج الكائن من التجربة العاطفية بأقل قدر من الخسائر النفسية التي تدمي بجراحها العديد من سلوك البشر . ومازلت في رأسي مناقشات مع عديد من صديقاتي الممارسات للطب النفسي وعلاج مشكلات العلاقة العاطفية بالولاياتالمتحدة ، خصوصا الطبيبة مارلي التي كانت حواراتي معها مصدر حوار لا ينتهي مع العالم د. أحمد عكاشة الذي كان يرى في حواراتها معي لمسة من أدب فني يذكره بالأيام الأولى لدراسته للطب النفسي ، فهو الفرع الوحيد من علوم الطب الذي يحتاج من يعمل به أن يدرس الآداب العالمية لأنها الكاشفة لغابات الأعماق البشرية . وكانت ومازالت مارلي تعتبر أن واحدا من أروع من قام بعرض عميق لتجربة الإدمان العاطفي بلا شفاء منه هو جارثيا ماركير في روايته الأثيرة « الحب في زمن الكوليزا « والتي تحكي قصة شاب تعلق بمحبوبة ، لكنها تحت ضغط العائلة تزوجت من طبيب ، ومضى العاشق في رحلات من شتات عاطفي لا ينتهي خصوصا بعد أن إكتمل إقتصاديا وصار مرموق الثروة ، فدخل في دوامة من علاقات منوعة لكن لم تستطع علاقة ما أن تخرجه من دوامة العشق القديم . وجاء وقت صارت فيه الحبيبة أرملة عجوز وصار هو عجوز غير قادر على السباحة في أنهار التجارب الخاطئة التي أدمنها لعله ينسى عشقه القديم . ويزورها ليجد صورته في عينيها المجهدتين ، وتتلمسه كأن في داخله الزوج الذي عاشت عمرها معه . ويركبان معا مركبا مجهزا لرحلات نهرية طويلة ، ولأنه صاحب الشركة التي تملك المركب ، يقرر أن يرفع على المركب علما أصفر، وهو نصيحة بعد الإقتراب لأن العلم الأصفر هو شارة مرض معد شديد الخطورة ، ويظل المركب يقطع رحلته في النهر ذهابا وإيابا دون توقف ، فالحب القديم إن لم ينخلع من القلب صار إدمانا يصعب العثور على علاج له إلا بالصوم العاطفي، هذا الذي لا يستطيعه كثير من البشر، ومن يستطيعون يخفون أحزانهم خلف إبتسامات مؤقتة في إنتظار مركب عليها علم ينذر بعدم الاقتراب.