مرت سنوات وحدثت ثورات وسقط حكام ومر فى نهر العيادات وغرف العمليات آلاف المرضى. إلا أن هذا الخبر ظل واضح المعالم، فلقد كان يخص إنساناً مصرياً بسيطاً يعمل كسائق تاكسي، انتحرت زوجته قفزاً من أعلى منزلهم وهى الأم لثلاثة أطفال، بعد أن يئست من إقناع زوجها برغبتها فى إجهاض نفسها، حتى تتخلص من حملها »غير المرغوب فيه«. وعزت الصحيفة الحدث للقضاء والقدر، واستخدم من صاغ الخبر تعبير (الشيطان الذى وسوس للمرأة) حتى تتخلص من حملها. لم يحاول أحد أن يتناول الموضوع طبياً واجتماعياً؛ ففى جميع أنحاء العالم تعد وفاة المرأة الحامل حدثاً مأساوياً. والحقيقة أن الحمل غير المرغوب هو ظاهرة بشرية وإنسانية ونسوية تمتد عبر التاريخ والجغرافيا. وهو أيضاً ظاهرة تثير مشاعر متناقضة بين البشر والناس حول العالم ولا يمكن الهروب منها ومن تداعياتها، فحتى وإن تصرفنا كالنعام بإخفاء الرأس فى الرمال، فإن عشرات الآلاف من أطفال الشوارع فى مصر وحول العالم هم نتاج لحمل غير مرغوب فيه. وعلى الرغم من اهتمام المجتمع بتلك القضية وآثارها إلا أن أحداً لم يقترب منها من زاوية تنظيم الحمل والإجهاض. يحب الإنسان دوما أن يعتقد أنه أكثر حرصا على الفضيلة من الآخرين، وينطبق ذات الأمر على المجتمعات وأصحاب الأديان المختلفة. الأمر كذلك حتى وإن كانت تلك الفضيلة محض خيال أو تجارة يمارسها البعض. ولكن الحقيقة أن اعتقادات البشر متشابهة فى الأغلب حول العالم، وأن الصراع هو ما يفتح أبواب التغيير فى المعتقدات والتقدم؛ فما زال هناك صراع حول العالم فى قضايا الحمل والإنجاب. فلقد ارتبط خروج المرأة من جدران البيوت للمدارس والتعليم والعمل بضرورة تنظيم الحمل. وحتى اليوم يوجد من يطلقون على أنفسهم (أنصار الاختيار) وهم من يدعون لحرية المرأة أن تحدد هى ذاتها متى تحمل وهل تحتفظ بحملها أم لا، أولئك هم من يدعون لتحرير وتقنين الإجهاض. وهناك آخرون ممن يطلقون على أنفسهم (أنصار الحياة) وهم من يقفون ضد الإجهاض. ولعل التقاضى الذى وصل للمحكمة العليا الأمريكية عام 1973 حول منع امرأة من الإجهاض والذى عرف باسم (روى ضد وادى Roe vs. Wade) يلخص الأمر ويؤكد لنا أن المثير للجدل فى مسيرة البشرية هى أمور تتجاوز أى دين بعينه. ففى تلك المعركة القضائية اعتبر فرد ما أنه يدافع عن حياة إنسان لم يولد واعتبرت تلك المرأة أن جسدها وحملها هى أمورها الخاصة. حسمت المحاكم الأمريكية الأمر وصار الإجهاض مباحاً تنظمه القوانين، ويدور فى المستشفيات فى شمال العالم بسرعة واحترام لكرامة المرأة وصحتها. فمن المعروف أن مضاعفات الإجهاض تزداد بنسبة 100 % مع كل أسبوع تأخير. وليست المضاعفات الطبية هى المشكلة فقط بل هى أحد جوانب المشكلة فالمرأة التى تقرر أنها تحتاج للإجهاض لا تتوافر أمامها مصادر للمعلومات وتقترب منه بحذر وخوف فتكون العزلة والوحدة والعبء النفسى والإنسانى أشباحا حقيقية تحاصرها. صار حراك النساء لتوفير وسائل منع الحمل وتقنين الإجهاض ركنا مهما فيما أطلق عليه (الحرية الإنجابية). فتنظيم الحمل واختيار توقيته صار أساسيا لحياة المرأة، التى اقتحمت كل مجالات الحياة حول العالم من قيادة الطائرات لرئاسة الوزراء. فظهرت قفزات علمية فى كل وسائل منع الحمل حتى تلائم التنوع فى احتياجات ملايين النساء ثم تطورت وسائل الإجهاض ذلك فظهرت الحبوب البسيطة التى حولت الإجهاض من عملية جراحية إلى تدخل بالأقراص والحبوب إن كانت المرأة فى أول حملها. هذه الأقراص تحمى النساء من مضاعفات الجراحة والتخدير. ففى البرازيل مثلا كان الإجهاض ومضاعفاته من الأسباب المهمة لطوارئ المستشفيات إلى أن ظهرت تلك الحبوب الحديثة؛ فانخفضت المضاعفات بشكل ضخم. مثلت تلك الحبوب قفزة علمية كبيرة ولكنها مازالت ممنوعة فى مصر رغم أن احتياج النساء للإجهاض فى الأغلب هو لأسباب قهرية. فلقد رأى مشرعو لجان وزارة الصحة أن على المرأة المصرية أن تستخدم وسائل جراحية متخلفة حتى لو كان الإجهاض كالحمل بطفل مشوه مثلاً أو بموت جنين فى أحشائها. فهكذا مارست لجان وزارة الصحة مبدأ (الباب اللى يجيى لك منه الريح سده واستريح). التشريع للإجهاض فى عالم الشمال لم يكن أمراً بسيطاً؛ فلقد حددت القوانين البريطانية التى أجازها البرلمان البريطانى عام 1967 خمسة مبادئ عامة تبيح الإجهاض، وبالطبع كانت الصياغة من العموم والاتساع بحيث تسمح للنساء والأطباء بحرية الحركة. فالمبدأ الثانى فى هذا القانون كان ينص أن الحمل سوف يكون (مضرا للمرأة عقلياً). وكان من المعتاد فور صدور القانون أن يسعى الأطباء لأخذ مشورة طبيب الأمراض النفسية وتوقيعه على الأوراق. هذا التعبير (الغامض) مقصود لذاته فلقد فتح الأبواب للأطباء وللفتيات والنساء أن يمارسن كل شيءٍ فى العلن. أما فى بلادنا فالإجهاض يمارس فى الخفاء. فترى كم من النساء تموت؟ وكم من الأطباء يبتزون فتيات أو شبابا أو محدودى الدخل فيتحولون إلى مجرمين فى نظر المجتمع والقانون. فتقنين التعامل مع الحمل غير المرغوب فيه قضية مجتمعية فى دولة بها برلمان به عشرات السيدات وبها رجال دين متنورين كتصريحات شيخ الجامع الأزهر الراحل الشيخ طنطاوى بشأن هذا الأمر؛ فالمجتمع أكثر تزمتاً وتضييقاً من التشريعات ذاتها والأمر كذلك فى اغلب الأمور. رحلت المرأة البسيطة زوجة سائق التاكسى فى صمت ولم ينفعها ولا نفع اطفالها الثلاثة نهنهة و نحيب زوجها الكادح المقهور الى جوار جثمانها على مهبط السلم أو درج منزلهم فى أحد أحياء القاهرة الشعبية المكتظة بالناس المظللة بغبار المدينة والحياة. فمن هو المسئول عن تلك المأساة هل هم مشرعو القوانين وتواكلهم وبينهم نساء فى برلمانات مصرية متتابعة؟ أم هم اطباء النساء والولادة الذين يدركون الحقيقة ويتواكلون بلا وازع انسانى كنظرائهم الاوروبيين الذى دخل بعضهم السجون لانهم اصروا على خطأ تجريم الاجهاض أيضا أم أنصار تيار الاسلام السياسى الذين يبتزون المجتمع ويحاصرون المرأة ويتاجرون بها وبالدين فلا بضاعة اخرى لديهم.ستظل النساء تحمل رغما عن وسائل منع الحمل ورغما عن نصائح الأطباء بعدم الحمل فماذا تفعل المرأة التى حملت وحملها يمثل عبئا عليها او على اسرتها ؟ لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;