تنظيم النسل فكرة إنسانية لا تخلو حضارة من مظاهر لها بادية فى ثقافتها. برديات المصريين القدماء أشارت إليها فى مواضع متعددة بينما أفرد لها ابن سينا الشيخ الرئيسى بابا كاملا فى كتابه الأشهر «القانون». تحدث عن أهميتها العلامة محمد زكريا الرازى وعدد لها طرقا آمنة. فهل قدم لنا العلم فى عصرنا الحل الأمثل عندما أنتج حبوبا لمنع الحمل؟ حبوب منع الحمل قضية هامة بالغة الحساسية مازالت قابلة للجدل والمناقشة حتى بعد مرور خمسين عاما على بداية تداولها واستخدامها.
التوافق بين رغبات الإنسان الطبيعية ومسئولياته الاجتماعية كانت أحد مظاهر تطور الفكر الإنسانى حينما عرف الاستقرار فى أسرة وأصبح ملزما بالتفكير فى مستقبلها.
أدرك الإنسان أن تنظيم النسل هو السبيل للاستمتاع بمباهج الحياة مع القدرة على القيام بأعباء مسئولياتها فى آن واحد فكانت فكرة اللجوء لمنع احتمالات حدوث الحمل فى أوقات قد يعد الطفل القادم فيها غير مرغوب فيه.
الفكرة قديمة قدم الزمن سجلها المصرى القديم فى بردياته حينما استخدم الصمغ العربى فى صورة دهانات أثبت العلم الحديث أن لها أثرا مميتا على الحيوانات المنوية كما لجأ لإعداد أقماع صغيرة من مطحون ثمار الرمان المعروفة بأثرها المماثلة للاستيروجين الذى يستخدم حاليا للحيلولة دون عملية التبويض. ولعلنا لا ننسى كيف كان يعد العربى ناقته لرحلة الصحراء الطويلة بإدخال حصاة لرحمها حتى تتجنب احتمالات الحمل وهى ما زالت على الطريق تسعى!
وسائل طبيعية عديدة تبادل الرجل والمرأة معا ابتداعها لتنظيم النسل إلى أن حمل العلم لها حلولا من نوع آخر حينما تكشفت حقائق دورة الهرمونات فى جسد المرأة. فهل كانت حبوب منع الحمل بمكوناتها الهرمونية هى الحل التوافقى الأمثل أم أنها تحمل أيضا نذر مخاطر آتية محتملة؟
حبوب منع الحمل.. قضية وتاريخ بدأت فكرة إنتاج عقار طبى للحيلولة دون حدوث الحمل عندما بدأت تتضح آليات عمل الهرمونات فى جسم الإنسان خاصة الاستيروجين والبروجيستيورون (Estrogen and Progesteron) وعلاقة الهرمونات بدورة المرأة الشهرية وما يمكن أن يتبعها من حمل.
توالت الاكتشافات التى تنبهت إليها امرأة كرست أيامها للعمل العام مارجريت سانجر الممرضة التى تقضى كل نهاراتها فى الاعتناء بالسيدات الحوامل ومحاولة تقديم النصح لهن فيما يتعلق بمشاكل الحمل وتبعات الأمومة. جاء ترتيب مارجريت السادسة فى قائمة أخوة وأخوات تضم أحد عشر حملا لأم كاثوليكية شديدة التدين، الأمر الذى جعلها تنصاع «لرغبة السماء» وفقا لاعتقادها.
يبدو أن معاناة أمها دفعتها لاعتناق تلك الأفكار التقدمية التى جعلتها تلجأ لكل وسيلة ممكنة لإقناع المجتمع بها من الكتابة فى الصحف إلى الحديث لمريضاتها وأقاربهن حتى التقت وهى فى السبعين من عمرها بالعالم جريجورى بنيكاس (فى أوائل الخمسينيات) وأقنعته بالبدء فى تجارب إنتاج أقراص لمنع الحمل فكانت إشارة البدء. عانت مارجريت كثيرا لكن القدر ألهمها إلى أن ترى بعينيها ثمار جهدها فعاصرت إنتاج حبوب منع الحمل بل وتطورها إلى أن وافتها المنية عن ثمانية وثمانين عاما وبعد أن صدر قرار المحكمة العليا بالولايات المتحدةالأمريكية بتقنين تنظيم النسل للمتزوجين.
كيف تعمل حبوب منع الحمل؟ الفكرة الأساسية فى تلك الأقراص أن مكوناتها سواء كانت من هرمونين معا فى تركيزات تختلف من قرص لآخر (وفقا للتركيبة التى تتبناها الشركة المنتجة) أو (هورمون واحد البروجيسترون). هى التى تمنع التبويض. حينما يتأكد عدم التبويض فإنه بلا شك تنكسر الدائرة الطبيعية التى تبدأ بلقاء الحيوان المنوى ونفاذه للبويضة وبداية نيتة الحمل الذى يسقتر فى الرحم.
تتناول المرأة وبانتظام حبة يوميا لمدة 21 يوما متتالية ثم تنقطع لسبعة أيام (إذ أن الحساب المحتمل لدورة المرأة الشهرية 28 يوما) يحدث فيها نزول الدم إعلانا عن انتهاء تلك الدورة دون حمل حدث.
هناك بعض التغيرات الطفيفة التى يمكن أن تصادفها المرأة وفقا لنوع الحبوب التى اختارتها فمنها على سبيل المثال أن هناك بعض الأنواع يحمل الشريط، منها ثمانية وعشرون قرصا بدلا من المتعارف عليه (واحد وعشرون قرصا) منها واحد وعشرون قرصا تحتوى الهرمونات بينما هناك سبعة أقراص أخرى تحتوى فيتامينات مختلفة.
الأثر الهرمونى لحبوب منع الحمل أيضا له أثر على خلايا جدار الرحم إذ يجعلها أقل سمكا بينما له أثر مخالف على خلايا عنق الرحم الأمر الذى يزيد من سمكها.
هل لحبوب منع الحمل فوائد علاجية أخرى؟ نعم الواقع أن لحبوب منع الحمل فوائد علاجية أخرى ترجع لتكوينها الهرمونى منها أنها تعيد التوازن الهرمونى المفقود والذى يتسبب فى تلك الأعراض القاسية التى قد يعانى منها قطاع عريض من السيدات قبل الدورة الشهرية مباشرة.
أيضا هى مفيدة فى تخفيف آلام الدورة الشهرية والتقليل من حدة نزيف الدم الذى قد يمتد لفترات طويلة لدى بعض السيدات.
لها أيضا أثر ملطف على آلام الصداع النصفى الذى قد تعانى منه البعض وقد يمتد فى أيام الدورة الشهرية.
لحبوب منع الحمل أثر فعال على عدد كبير نسبيا من المصابات بحب الشباب من السيدات.
يمكن استعمالها فى المناسبات التى لا يستحب فيها حدوث منغصات الدورة الشهرية كأيام العسل الأولى من الزواج أو المناسبات المهمة لحضور زفاف أو احتفال وربما كان السبب الأهم يرجع لأداء بعض الطقوس الدينية لدى السيدات المسلمات كالحج والعمرة. فى تلك الأحوال تستخدم بصورة مستمرة كافية (شهرين متتاليين دون انقطاع أى 28 يوما كاملة يليها 28 يوما كاملة متصلة).
ماذا عن الأخطار المحتملة؟ تظل زيارة الطبيب قبل البدء فى تناول أقراص منع الحمل وإجراء بعض التحليلات والاختبارات الطبية أمرا هاما يجب الاعتداد به، فهناك بالفعل عوامل للخطر يجب تحديدها وتقييمها قد تمنع من استخدام تلك الأقراص. أو تتطلب متابعة بشكل ما.
هناك بعض الأعراض الجانبية التى غالبا ما تحدث بدرجات شدة مختلفة من سيدة لأخرى مثل الصداع، الرغبة فى القىء، آلام فى الصدر، أو زيادة مبدئية فى الوزن أو نزول بعض من نقاط الدم فى غير وقت نزول الدم بعد انتهاء الدورة الشهرية. كلها أعراض يمكن احتمالها وعلاجها بوسائل طبية بسيطة فى متناول اليد دون تذكرة طبية.
الواقع أن الأمر لا يخلو من احتمالات أخرى خطيرة وإن كانت نادرة الحدوث لكنها بلا شك تلقى ظلا من الإحساس بالخطر يجب تبديده بالحرص دائما على علاج أى أمراض مزمنة واستباق الخطر بتحديده ومشاورة الطبيب دائما فى أى ظاهرة صحية تظهر بعد البدء فى تناول حبوب منع الحمل. خطر حدوث جلطة الأوردة العميقة خاصة عند المدخنات.
هل هناك علاقة بين الحبوب والإصابة بالسرطان؟ ترددت تلك المقولة كثيرا دون سند حقيقى يدعمها إلا ربما بعض الملاحظات التى ترد أحيانا لذا يجب مراجعة الأبحاث والدراسات العلمية الجادة التى قد تشير بالفعل إلى وجود تلك العلاقة من عدمها. ارتباط نشاط الهرمونات ببعض أنواع السرطانات كسرطان البروستاتا لدى الرجال وسرطان الثدى والمبايض والرحم لدى السيدات ربما كان وراء الهواجس. ارتباط تلك الأورام فى نشأتها وانتشارها بالهرمونات قد يوحى بالفعل بذلك.
مراجعة بعض الدراسات العلمية المهمة قد يحقق بعضا من الاطمئنان للسيدات: الإصابة بسرطان الثدى تعزى لعدة عوامل منها الهرمونات بالفعل والراصد للدراسات الحديثة يجد أن بعضها بالفعل يشير إلى علاقة ما بين تناول الحبوب والإصابة به لكن هناك دراسات جادة أيضا تنفى تلك العلاقة.
أما سرطان المبايض وهجرة بطان الرحم فعلى العكس هناك دراسات عديدة تؤكد أن للحبوب أثرا يحمى السيدات منها.
أما سرطان عنق الرحم فيفرده العلم لوجود فيروسات (Paoilloma Verus) وعلاقة حبوب منع الحمل به غير مباشرة إذ إن الرغبة فى منع الحمل نتيجة لأغراض مختلفة فى المجتمعات المفتوحة ربما كانت السبب.
العلاقة بين حبوب منع الحمل وأمراض القلب والشرايين السمنة وارتفاع نسبة الكوليستيرول الردىء، ارتفاع ضغط الدم، وجود عيب ما فى عملية تجلط الدم كلها بلا شك عوامل خطر تؤدى للإصابة بالأزمات القلبية وربما فشل عضلة القلب فما علاقة حبوب منع الحمل بها وهل هى تسببها؟
زيادة الوزن التى تسببها حبوب منع الحمل إنما هى نتيجة لاحتباس السوائل فى الجسم بينما تأثيرها على نسبة الكوليستيرول يرجع لأثر هورمون الاستيروجين ذاته فهو يؤدى لارتفاع نسبة الكوليستيرول الحميد والردىء فى المقابل تنخفض لذا فلا أهمية تذكر.
تأثير حبوب منع الحمل على ارتفاع ضغط الدم هو الأهم إذ إنه فى حالات ارتفاع ضغط الدم يجب للمرأة أن تبحث عن وسيلة أخرى لمنع الحمل عوضا عن الحبوب التى تتسبب فى ارتفاعات إضافية لضغط الدم.
أما فى الحالات البسيطة من ارتفاع ضغط الدم فيجب استمرار المتابعة ومراقبة قراءة ضغط الدم باستمرار وانتظام إذا كانت الحبوب هو اختيار السيدة الحامل مع العلم الكامل بحقيقة حالتها.
وعليه فإنه من الواجب اتخاذ كل الاحتياطات الواجبة قبل اتخاذ قرار التخطيط لتنظم الأسرة عن طريق تناول الحبوب المانعة للحمل فى حالة إذا ما كانت السيدة تعانى من أى عوامل الخطر المتمثلة فى الإصابة بمرض السكر أو ارتفاع ضغط الدم، السمنة، أمراض الدم وارتفاع نسبة الكوليستيرول خاصة إذا أضيف إلى تلك العوامل عامل أكثر خطورة هو التدخين الذى يزيد من احتمالات حدوث جلطة الأوردة العميقة.
هل للسن أثر على اختيار الحبوب كوسيلة لمنع الحمل؟ نعم: حبوب منع الحمل وسيلة ملائمة تماما فى مقتبل العمر بالطبع مع غياب عوامل الخطر المعروفة خاصة التدخين وحتى مرحلة سن الأربعين. هناك دراسات تؤكد أمانها أيضا بعد الأربعين لكن الأفضل أن تلجأ لوسائل أخرى ربما كان منها ربط أنابيب فالوب أو الحبل المنوى لدى الرجل. بلا شك تلك وسائل قد تبدو غير مألوفة فى مجتمعنا لكنها فى الواقع واردة بقوة فى المجتمعات الغربية.
فى النهاية لنا أن نتصور أن الجدل حول أهمية تحديد النسل وتنظيم الأسرة أمر عليه اتفقت الآراء بينما ما زال الباب مواريا فيما يتعلق بحبوب منع الحمل فهى بلا شك وسيلة آمنة وإن كان الخطر ما زال واردا محتملا يحتاج لمراجعة نهائية واحتياطات واجبة يتشارك فيها الطبيب والمرأة والزوج معا. اذكرى دائما عند تناول حبوب منع الحمل.
ألا تنسى إطلاقا الحبة فى موعدها. أن القىء والإسهال يلغى مفعولها. أنها إطلاقا لا تؤخذ إذا كان لزاما أن تتناولى أدوية الصرع مثل الايبانيوتن واليتجرتول. أن هناك عددا من المضادات الحيوية يضعف من مفعولها أو يوقفه خاصة ريفامايسين (لعلاج السل الرئوى). اسألى دائما عن مفعول المضاد الحيوى. إذا توقفت عن تناول الحبوب ولم تكتمل مظاهر الدورة الشهرية (نزول الدم) وطالت المدة لثلاثة أشهر أجرى اختبار الحمل.