برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    «الشيوخ» يوافق على مشروع تعديل بعض أحكام قانون الكهرباء من حيث المبدأ    رئيس جامعة بني سويف: 76 ألف طالبًا يؤدون امتحانات الفصل الدراسي الأول    مؤشرات إيجابية للصادرات غير البترولية خلال الفترة من يناير حتى نوفمبر 2025 |إنفوجراف    محافظ القاهرة: تصدر العاصمة مدن أفريقيا الأكثر تأثيرًا يمثل تكليفًا لجهود الدولة    160 مليار جنيه لدعم التموين في 2025.. «كاري أون» أكبر سلسلة تجارية حكومية تنطلق لتطوير الأسواق وتأمين الغذاء    نائب وزير الإسكان يستقبل مسئولي إحدى الشركات التركية لبحث فرص التعاون في مشروعات المياه والصرف الصحي    تصاريح الحفر لمد الغاز بقرى «حياة كريمة» وخطة لتوصيل الخدمة ل6 مناطق سكنية في 2025    شعبة المواد الغذائية: رفع حد التسجيل في «القيمة المضافة» إلى 3 ملايين جنيه ضرورة لدعم التجار وتحفيز الاقتصاد    مقتل 9 وإصابة 10 آخرين في إطلاق نار بجنوب إفريقيا    اقتصادي: انعقاد منتدى الشراكة الروسية الإفريقية بالقاهرة يؤكد الدور المصري في دعم التنمية الاقتصادية للقارة السمراء    سبورتنج يعلن قائمته لمواجهة الأهلي في كأس السوبر المصري لسيدات السلة    محافظ أسيوط: استمرار تدريبات المشروع القومي للموهبة الحركية    المؤبد لديلر قتل زبونه بالخرطوش في المرج    البحيرة.. ضبط 3 محطات وقود بالدلنجات لتجميعها وتصرفها في 47 ألف لتر مواد بترولية    مصرع شخصين وإصابة ثالث إثر انقلاب سيارة أعلى كوبري أكتوبر بالشرابية    حبس عاطل 4 أيام بعد ضبطه بحوزته 20 فرش حشيش بالجيزة    الجمهور استقبله بالورود.. تامر حسني يغني للعندليب في أول حفل بعد أزمته الصحية    الأقصر تتلألأ في يوم الانقلاب الشتوي.. الشمس تتعامد على مقصورة قدس الأقداس بمعابد الكرنك في مشهد فلكي ومعماري مدهش    أجندة قصور الثقافة هذا الأسبوع.. حفلات ليالي الفن تضيء العام الجديد    وزير الثقافة ومحافظ القاهرة يتفقدان متحف الشمع لوضع خطة عاجلة لتطويره    تاريخ من الذهب.. كاف يستعرض إنجازات منتخب مصر فى أمم أفريقيا    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم مدينة قلقيلية ‫ويداهم بناية    وزير الخارجية يعقد اجتماعًا ثلاثيا حول ليبيا مع نظيريه الجزائري والتونسي    «المصدر» تنشر نتيجة الدوائر الملغاة بالمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب    وزير الخارجية يلتقي نظيره المالاوي    حيماد عبدلي: منتخب الجزائر يسعى للذهاب بعيدًا ببطولة أمم أفريقيا    وزير الخارجية يلتقي نائبة وزير خارجية جنوب إفريقيا لبحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية    الصحة: إغلاق 11 مركزًا خاصًا للنساء والتوليد ب5 محافظات لمخالفتها شروط الترخيص    أبرز المسلسلات المؤجلة بعد رمضان 2026.. غادة عبد الرازق ونور النبوي في الصدارة    "معلومات الوزراء" يستعرض أبرز المؤشرات الاقتصادية العالمية للعامين 2025 و2026    «الرعاية الصحية» تطلق حملة للمتابعة المنزلية مجانا لأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن    رئيس جامعة الازهر يوضح بلاغة التعريف والتنكير في الدعاء القرآني والنبوي    من مصر منارةً للقرآن إلى العالم... «دولة التلاوة» مشروع وعي يحيي الهوية ويواجه التطرف    د.حماد عبدالله يكتب: "اَلَسَلاَم عَلَي سَيِدِ اَلَخْلقُ "!!    تكريم لمسيرة نضالية ملهمة.. دورة عربية لتأهيل الشباب في حقوق الإنسان تحمل اسم محمد فايق    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    فريدة سيف النصر تنعي سمية الألفي بكلمات مؤثرة وتسرد ذكرياتهما معاً    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بالسوق السوداء بقيمة 3 ملايين جنيه    انطلاق الجلسة العامة لمجلس الشيوخ لمناقشة تعديلات قانون الكهرباء    الري تتابع إيراد النيل.. تشغيل السد العالي وإدارة مرنة للمياه استعدادًا للسيول    وزارة التموين تطلق قافلة مساعدات جديدة بحمولة 1766 طنًا لدعم غزة    استمرار تدريبات المشروع القومي للموهبة الحركية لاكتشاف ورعاية الموهوبين رياضيًا بأسيوط    إصابة 14 عاملا فى حادث انقلاب أتوبيس بالشرقية    نقابة صيادلة القاهرة تكشف حقيقة عدم توافر أدوية البرد والأمراض المزمنة    مواعيد مباريات اليوم الأحد 21-12- 2025 والقنوات الناقلة لها | افتتاح أمم إفريقيا    محافظ القاهرة يعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول للعام 2025    شهر رجب.. مركز الأزهر العالمي للفتوى يوضح خصائص الأشهر الحرم    خطة أمريكية بقيمة 112 مليار دولار لتحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط    نادي المقاولون العرب يعلن تعيين علي خليل مستشارا فنيا لقطاع الناشئين    النادى الذى فقد نجمه!!    الصحة: فحص 8 ملايين طالب ابتدائى ضمن مبادرة الكشف المبكر عن «الأنيميا والسمنة والتقزم»    الصحة: فحص أكثر من 20 مليون مواطن في مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    الإسكان الاجتماعي لصاحبة فيديو عرض أولادها للبيع: سنوفر الحلول الملائمة.. والحاضنة لها حق التمكين من شقة الإيجار القديم    عضو بالأرصاد: أجواء مستقرة ودرجات حرارة طبيعية خلال الأسبوع الجاري    حبس المتهم بقتل زميله وتقطيع جثمانه إلى أربعة أجزاء وإخفائها داخل صندوق قمامة بالإسكندرية    علاء نبيل: حذرت أبو ريدة من الصدام بين طولان وحسام حسن قبل كأس العرب    ندوة بمعرض جدة للكتاب تكشف «أسرار السرد»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا جرى للعقل المصري؟!
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 03 - 2017

هل نستطيع أن نصف العقل المصرى الآن بأنه العقل المنفتح على العصر وعلى العالم على السواء؟ هل نستطيع أن نصف الصفات الغالبة عليه بأنها صفات التقدم التى تحلم بالمستقبل الأكمل والأجمل، وتعمل على تحقيقه، ساعية إلى الرفض الخلاق لكل ما يعوق تحقيق الحلم، ويعرقل مساره، مدركة متغيرات الزمان والمكان
، واعية بأن ما تحقق بالفعل، يدفع إلى المزيد من الإنجازات التى تواكب ركب الحضارة العالمية، متسارعة الإيقاع، مؤمنة بقيم التنوع الخلاق والحركة التى لا تتوقف صوب الأمام باستمرار، ساعية إلى تجاوز كل معوقات التقدم، مستبدلة بالقياس على الماضى القياس على المستقبل، وبجمود الاتّباع حيوية الابتداع، وبحلم استعادة الماضى رغبة اقتحام المستقبل بكل وعوده الخلاقة، وبخنوع الإذعان جسارة المساءلة، وبمبدأ الواقع مبدأ الرغبة الذى يمضى بمدى الحلم إلى تحقيق كل ما يبدو مستحيلا أو عسير التحقق. إن مقارنة سريعة بين هذا العقل فى العصر الليبرالى وما أصبح عليه حاليا، ستكون فى صالح الماضى للأسف، وستكشف لنا أن هذا العقل أصبحت عيناه فى قفاه، وأنه أصبح مقيدا بقيود كثيرة، سياسية واجتماعية واقتصادية، تعوق حركته، وتفقده طاقته الخلاقة، فيغدو عقلا جامدا، سلفيا، تقليديا، عاجزا عن الحركة، غير قادر على التفكير فى المستقبل، أو الحلم بالممكن أو المحتمل، عاجزا عن الابتكار والريادة، يزداد ترهلا ووخما وجمودا، راضيا بأن يكون تابعا لا قائدا، مذعنا لا متمردا، يتقلص حضوره فى محيطه العربى والعالمي، ويتآكل تأثيره كلما امتد به الزمن، وتزايدت قيوده التى أفقدته فاعليته، واستبدلت بقدرته على الابتكار رغبته فى التقليد، وبإرادة الحياة الخلاقة الرضا بما هو كائن أو ما هو مفروض عليه من حاضر مهيض.
....................................................................تأمل هذا العقل فى مجالاته المختلفة، وقارن ما سبق له من إنجازات وما كان متاحا له، وقادرا عليه، بما هو موجود الآن ومفروض عليه. على مستوى الفكر التاريخي: كان طه حسين قادرا على أن يحلم بمستقبل مشرق للثقافة المصرية، فيقول فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» سنة 1938:
«الواقع أنى معجب بهؤلاء المثقفين من المصريين، فهم بذلوا من الجهد واحتملوا من العناء، ما لا يشعر به المعاصرون لهم وما سيقدره لهم التاريخ حق قدره، نشأوا فى بيئة معادية للثقافة أشد العداء، ممانعة لهم، ممانعة لها أشنع الممانعة، وقد بدأوا بأنفسهم فحرروها من كثير من التقاليد الثقيلة الفادحة حتى عدّتهم بيئتهم شواذا، وقاومتهم ألوان من المقاومة فلم يهنوا ولم يضعفوا، وإنما مضوا أمامهم لا يلوون على شيء حتى كتب لهم النصر. قاومهم الشعب لأنه لم يفهم عنهم، وقاومهم السلطان الظاهر لأنه أشفق منهم، وقاومهم السلطان الخفى لأنه رأى فيهم قادة الحرية والهداة إلى الاستقلال، فثبتوا لذلك كله، وانتصروا على هذا كله، وخرجوا من المعركة ظافرين».
هذه الروح التى أملت على طه حسين كتابة هذه الكلمات هى نفسها التى أملت عليه أن يقول لنا- نحن أحفاده، وأبناء أحفاده: «هذه الحرية التى نطلبها... لن تنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمني، وما كان الأمل وحده منتجا، وما كان يكفى أن تتمنى لتحقق أمانيك. إنما تنال هذه الحرية يوم أن نأخذها بأنفسنا، لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة ما، فقد أراد الله أن تكون مصر بلدا متحضرا يتمتع بالحرية فى ظل الدستور والقانون».
ومن هذا المنطلق الذى يتكلم منه طه حسين، كتب على عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» سنة 1925، داعيا إلى مدنية الدولة التى ينبغى أن تكون ديمقراطية وحديثة، مؤكدا أن الإسلام الذى يعرفه ترك للمسلمين حق الاجتهاد فى صياغة الدولة التى تحقق لهم العدل والتقدم، ولم يفرض عليهم نظاما بعينه، ولا هذه الخلافة التى كانت تاريخا من الدم والظلم، فإدارة الدولة أمر دنيوى وليس دينيا، ونحن أدرى بشئون دنيانا التى ينبغى أن نحقق العدل فيها، وأن نؤكد الديموقراطية التى هى الاسم الحديث أو المعنى المعاصر للشوري. وقامت القيامة على على عبد الرازق، وسحبت منه لجنة كبار العلماء فى الأزهر شهادة العالمية، استجابة لتعليمات الملك فؤاد الذى قضى على عبد الرازق على أحلامه وأحلام شبيه له فى تولى منصب الخليفة الذى ألغى سنة 1924. ومن يومها تحولت الدولة الدينية إلى دولة مدنية، أو علمانية، بمعنى الفصل التام بين الدين وإدارة الدولة التى تقوم على المواطنة من ناحية والعقد الاجتماعى الذى يعلو بحق المواطنة على الحق الديني، «فالدين لله والوطن للجميع» كما قال شعار ثورة 1919 التى كانت ثورة علمانية أو مدنية بهذا المعني. ورغم كل ما انصب على «على عبد الرازق» من صنوف العقاب والطرد من وظيفته، فإن الرجل واجه العواصف، صامدا كما صمد طه حسين، إلى أن أصبحت أفكاره عن حقيقة موقف الإسلام من الدولة بعامة، والخلافة بخاصة، هى الأصل السائد لمستنيرى الإسلام وعقلاء المسلمين، ولم يعد من هؤلاء من ينظر سوى نظرة السخرية لما قاله الشاعر أحمد شوقى فى رثاء الخلافة بالأبيات التى تقول:
ضجت عليك مآذن ومنابر
وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة
تبكى عليك بمدمع سحّاح
والشام تسأل والعراق وفارس
أمحا من الأرض الخلافة ماح؟
ويرثى لموقف لجنة كبار العلماء فى الأزهر الذين نسوا ثواب المجتهد، فأصدروا قرارهم الشائن بإسقاط «العالمية» عن المجتهد الذى أثبتت الأيام صحة اجتهاده، وخطأ قرار لجنة كبار العلماء الذى لم يكتف بإلغاء شهادة الرجل، وإنما جاوز ذلك – بالإجماع- إلى «محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر، والمعاهد الأخري، وطرده من كل وظيفة، وقطع رواتبه فى أى جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأى وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية». ولكن المستنيرين المصريين قاوموا هذا القرار الضار بحرية الفكر وحق الاجتهاد الذى يعنى حق الخطأ. ولم يخطئ الرجل الذى اجتهد فأصاب، فاستحق أن يدافع عنه رجال من أمثال عبد العزيز فهمى باشا وزير الحقانية الذى أحال قرار لجنة كبار العلماء إلى لجنة لمراجعة قانونيته، فأمر الملك فؤاد بفصله من الوزارة، واستقال توفيق دوس باشا ومحمد على علوبة باشا، وإسماعيل صدقى باشا. ووقف ممثلو العقل المصرى المستنير ضد هذا القرار، مدافعين عن حرية الفكر وحق الاجتهاد ومدنية الدولة وحقوق المواطنة. أعنى أمثال العقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين ولطفى السيد وسلامة موسى وغيرهم من الذين أضاءوا الوطن المصرى فى مرحلة إبداعه الخلاق. وكانت لكتابتهم المستمرة لعقدين السبب فى أن يعود على عبد الرازق إلى زمرة العلماء، بعد وفاة الملك فؤاد المعروف بديكتاتوريته، وأن يعود إليه مؤهله العلمي، ليصبح بعدها وزيرا للأوقاف فى عام 1948. ويشغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ بعد ذلك، ويصبح عضوا فى مجمع اللغة العربية إلى أن يتوفاه الله معززا مكرما فى وطنه فى سبتمبر عام 1966.
هذا على مستوى الفكر الدينى فى زمن كانت فيه عقول كبيرة مستنيرة، لا تسير إلى الأمام وعيناها فى قفاها، وإنما عيناها مسلطة على المستقبل الواعد بالدولة المدنية، القائمة على الحرية والعدل بكل لوازمها الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية. ولم يكن من المصادفة، والأمر كذلك، أن يقف عباس محمود العقاد، فى مجلس النواب المصري، مدافعا عن حق الوطن والشعب فى حياة نيابية سليمة وحرة، وحقه فى دستور وطنى يحقق مصالح كل الأمة وليس بعضها، حين كان نائبا، فيقول بمنتهى الجرأة: «إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس فى البلد تخون الدستور ولا تصونه»، ودفع ثمن جرأته عن طيب خاطر، عندما حوكم بتهمة العيب فى الذات الملكية، وحكم عليه بالسجن تسعة أشهر مع الشغل، ودخل السجن مرفوع الرأس، وخرج منه مرفوع الرأس كذلك ( سنة 1930)، وكان السبب فى ذلك إرادة الملك فؤاد تغيير عبارتين فى الدستور، تنص أولاهما على أن الأمة مصدر السلطات، والثانية: أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان. وانتهت أشهر السجن، وخرج العقاد من عالم السدود والقيود. وكان أول ما فعله هو التوجه إلى ضريح سعد زغلول وكأنه يلقاه فى بيت الأمة، عقب معركة خرج منها خروج الظافرين. وألقى أبياته التى يؤكد فيها محاربة خصوم الأمة. ومازلت أحفظ منها:
وكنت جنين السجن تسعة أشهر
فها أنذا فى ساحة الخلد أولد
فى كل يوم يولد المرء ذو الحجى
وفى كل يوم ذو الجهالة يُلحد
وما أفقدت لى ظلمة السجن غرفة
فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنى
من الرأى يتلو فرقدا منه فرقد
عداتى وصحبى لا اختلاف عليهم
سيعهدنى كل كما كان يعهد
والسياسة التى جرنا إليها عباس العقاد بدفاعه عن الأمة مصدر السلطات، وأن الوزراء مسئولين أمام البرلمان الذى يمثل مصالح الأمة، ويدافع عن الحرية والعدالة ومبادئ المواطنة التى تجعل المواطنين الأحرار متساوين فى الحقوق والواجبات، دون تمييز بينهم على أساس من الدين أو الثروة أو النوع- أقول إن الحديث عن العقاد السياسى يجرنا إلى الحديث عن مصطفى النحاس تلميذ سعد زغلول النجيب فى تأكيد الحضور المدنى الحديث للدولة المصرية الديمقراطية. وكان ذلك بعد أن توفى الملك، وتآمر شيخ الأزهر مصطفى المراغى مع أعضاء مجلس الوصاية الذى كان برئاسة الأمير «محمد علي» على تغيير حساب عمر الملك الجديد لكى يعجلوا بالتنصيب، فأفتى الشيخ المراغى بأن عمر الملك المسلم لابد أن يحتسب بالتقويم الهجرى لا الميلادي، وبموجب ذلك يبلغ فاروق سن الرشد فى يوليو 1937، وتتم مراسم تتويجه داخل القلعة، ويبايعه الناس خليفة للمسلمين ويتسلم التاج من شيخ الأزهر، ويحمل سيف جده محمد على الكبير، ثم يتلو المشايخ الدعاء الخاص بالخلفاء العباسيين وسلاطين عثمان. ولكن النحاس رئيس الوزراء رفض ذلك بحسم لأنه تحويل للدولة المدنية الديموقراطية إلى دولة دينية، وهدد بالاستقالة، مؤكدا أن الملك ينبغى أن يتم تتويجه فى البرلمان الذى يمثل الأمة التى هى مصدر السلطات. وكانت النتيجة تراجع الملك الشاب، وتوجه لنواب الشعب فى البرلمان، وألقى القسم أمامهم مؤكدا احترامه لمجلس النواب الذى يمثل الأمة بوصفه مصدر سلطته الدستورية من حيث هو ملك لدولة يحكمها نواب الشعب، استنادا إلى الدستور الذى يحقق التوازن بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقانونية، وبعيدا عن أى سلطة دينية، خصوصا بعد أن أشاع الإمام محمد عبده أن الدين الإسلامى هدم السلطة الدينية ومحا آثارها، وأن الدين مسألة بين العبد وربه، دون تدخل من سلطة تدعى لنفسها النيابة عن الله. وهكذا لم ينتصر مصطفى النحاس للدولة المدنية الديمقراطية فحسب، وإنما انتصر للإسلام المستنير فى الوقت نفسه. ونجح فى فصل الدين ورجاله عن شئون الدولة إلى الدرجة التى حالت بين جماعة الإخوان المسلمين ودخول مجلس النواب فى ذلك الزمن الذى كان العقل المصرى منفتحا على المستقبل ورائدا لغيره فى الدول العربية التى تعلمت من مصر الرائدة معنى بناء الدولة الحديثة القائمة على الدستور والقانون.
ولم يكن العقل السياسى مستنيرا، متطلعا إلى مستقبل أفضل فحسب، فقد كان العقل العلمى ينطوى على وعى التقدم فى الجامعة وبالجامعة التى وصفها سعد زغلول بأنها «جامعة دينها العلم». وهذا هو ما فكر فيه مؤسسو البحث العلمى فى الجامعة، ووصلوا بهذا العلم الحر إلى أعلى الذري. وهو ما فعله أمثال أحمد لطفى السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وما أضافه على مصطفى مشرفة فى العلوم الطبيعية أو البحتة بوصفه أول مصرى يحصل على دكتوراه العلوم D.Sc من جامعة لندن فى إنجلترا سنة 1924، ويمنح لقب أستاذ من جامعة القاهرة، وهو دون الثلاثين من عمره، وينتخب عميدا لكلية العلوم سنة 1936، ليكون أول عميد مصرى لها، فيمنحه الملك فاروق لقب الباشوية، ويتتلمذ على يديه مجموعة من أشهر علماء مصر، ومن بينهم سميرة موسي. وقد كانت أبحاثه موازية لأبحاث أينشتين الذى كان يعرفه وكانت بينهما صلة علمية تقوم على الاحترام المتبادل. ونتيجة إنجازاته البحثية المعترف بها دوليا، كرّمته الحكومة البريطانية بإنشاء منحة تعليمية لدراسة الدكتوراه تحت اسم «منحة نيوتن- مشرفة». وكان مشرفة عالما تنويريا يحلم بمستقبل علمى باهر لوطنه. ولذلك كان من المؤمنين بأهمية دور العلم فى تقدم الأمم، وإشاعته بين طوائف الشعب، حتى لغير المتخصصين فيه. ولذلك كان مهتما بكتب تبسيط العلوم لغير المتخصصين، كما كان يؤمن بأن تعميم الوعى العلمى بين الناس يتيح لهم مواجهة الخرافة، وفى الوقت نفسه قدرة مصر على الإسهام فى التقدم العلمى متسارع الإيقاع فى العالم المتقدم الذى ينبغى أن نتعلم من تقدمه لنضيف إليه إسهاما متكافئا. وقد مات مشرفة فى يناير 1950 وهو فى الحادية والخمسين من سنوات عمره، بعد أن ترك لنا نموذجا باهرا لقدرة العقل المصرى على التجاوز والإسهام الخلاق الذى يؤسس للتقدم. ولولا التقاليد الخلاقة التى أسسها هؤلاء وأمثالهم ما حصل أمثال نجيب محفوظ وأحمد زويل على نوبل، ولا وصل بطرس غالى إلى منصب الأمين العام للأمم المتحدة.
هذه النماذج الباهرة التى ذكرتها، هى شواهد على قدرة العقل المصرى على الإنجاز والابتكار الذى يفتح آفاقا واعدة للمستقبل، حين كان هذا العقل المنارة التى تشع أنوار الاستنارة والتقدم حولها. ترى ما الذى جرى لهذا العقل، ما الذى انحرف به عن مسار التقدم، وجعله يستبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير؟. يمكن أن أضيف إلى النماذج التى ذكرتها عشرات غيرها، لا لكى أؤكد أن الزمن الليبرالى هو أزهى أزمنة العقل العربى فحسب، وإنما لكى أبحث عن العلة والداء، فنعرف الأسباب التى صرفت هذا العقل عن الاهتمام بالمستقبل الذى استبدل به عبادة الماضي، تماما كما استبدل التقليد بالابتكار. وعانى التسلطية السياسية المتحالفة مع نزعات تديين مظلمة، ما جعله عقلا مقموعا، غير قادر على الابتكار الخلاق، فأصابته نزعة إذعان واستسلام لما هو حوله أو مفروض عليه، فأصبح يمضى إلى الأمام وعيناه فى قفاه، مقموعا، مبتور الذاكرة، غير قادر على الرفض الخلاق. ولكن لحسن الحظ، فإن هذا العقل المريض لا يزال منطويا على الحياة، يحمل بعض ما يصله بماضيه الخلاق كى ينطلق إلى المستقبل. ولكن كيف؟ هذا هو السؤال الذى يطرحه علينا وضعنا الحالي، لا لكى نكتفى بالعودة إلى الماضى وإنما ننطلق إلى المستقبل الأفضل والأجمل الذى يليق بالماضى العريق لهذا العقل، خصوصا فى إفادته من ماضيه الموجب، كى يتجاوز مشكلات حاضره إلى وعود مستقبله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.