فى 28 فبراير من هذا العام انعقد المؤتمر الدولى الذى نظمه الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين فى القاهرة تحت عنوان «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل». وفى مقدمة الحضور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط. والذى يعنينى فى هذا المقال هو ما قاله البابا تواضروس، وقد أوجزتها جريدة «الحياة» على النحو الآتي: «ضرورة مواجهة الفكر المتطرف بالفكر المستنير. فقد عانت مصر والمنطقة العربية ولا تزالان تعانيان الفكر المتطرف الناتج من الفهم الخاطئ للدين والذى أدى إلى الارهاب والتطرف اللذين يعدان أكبر تحديات العيش المشترك» ثم استطرد قائلاً: إن أسباب هذا التطرف والعنف ترجع إلى التربية الأحادية القائمة على الرأى الواحد فيكون كل رأى مخالف كافراً ومضللاً. ثم طالب بتقديم الدين بصورة عصرية وليس عبر خطاب إنشائي. إننا نحتاج إلى انفتاح العقل والتمسك بالمسئولية وإلى المشاركة الجماعية فى بناء الحضارة الإنسانية عبر وسائل الإعلام. وأنا بعد ذلك أنتقى ألفاظاً معينة من خطاب البابا تواضروس وأقوم بتحليلها تحليلاً فلسفياً وربطها ببعضها البعض من أجل الكشف عن الوحدة الكامنة فيه. أبدأ بالألفاظ وهى على النحو الآتي: التنوير والفهم الخاطئ للدين والإرهاب وعصرية الدين والخطاب الإنشائي. ثم أتساءل: ما التنوير؟ أجاب عن هذا السؤال فى القرن الثامن عشر الفيلسوف الألمانى العظيم كانط فى مقالته الشهيرة التى نشرها فى عام 1784 تحت عنوان «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» إنه عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة الآخرين. وهذا العجز من صنع الإنسان عندما يفقد رشده، بل عندما يفقد الجرأة فى إعمال عقله. ومن هنا يقول كانط : «كن جريئاً فى إعمال عقلك». والسؤال بعد ذلك: ماذا يحدث للإنسان عندما يفقد هذه الجرأة؟ يستسلم لمن يقدمون أنفسهم على أنهم الأوصياء. وهؤلاء يتميزون بإيهام المعتمد عليهم بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة الأمر الذى من شأنه أن يدفع الإنسان إلى اشتهاء هذه الملكية بديلاً عن الجرأة المفقودة والتى لا يرغب فى استعادتها لأنها مرهقة ومثيرة للقلق. غير أن تحقيق هذا الاشتهاء لن يكون ممكناً إلا إذا خضع لتربية معينة وهى ما أطلق عليها البابا تواضروس «التربية الأحادية القائمة على الرأى الواحد فيكون كل رأى مخالف كافر». ومغزى هذه العبارة أن التربية الأحادية تلزم مَنْ تربى عليها بأن يصوب سهام التكفير إلى كل مَنْ خرج على الرأى الواحد الذى هو أحد المؤمنين به. وفى رأى البابا تواضروس أن هذا النوع من التربية يفضى بالضرورة إلى فهم خاطئ للدين، وهذا الفهم يفضى بدوره إلى الإرهاب الذى يعنى تحول الإنسان إلى قنبلة انتحارية تنفجر فيه وفى المخالفين للرأى الواحد الذى يعتنقه. والسؤال إذن: ما البديل للفهم الخاطئ للدين؟ الجواب عند البابا تواضروس يكمن فى تقديم الدين بصورة عصرية وليس عبر خطاب إنشائي. إلا أن هذا الجواب بدوره يثير سؤالين: ما هى سمات العصرية المطلوب قبولها؟ وما سمات الخطاب الإنشائى المطلوب رفضه؟ سمات العصرية تدور حول سمة محورية هى ما يُطلق عليها مصطلح الكوكبية التى تعنى موت المسافة زمانياً ومكانياً، ومن شأن هذا الموت بزوغ ظاهرة الاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب، وبالتالى تصبح الأمور كلها نسبية، ومع النسبية ينتفى «الرأى الواحد» أو بالأدق «المعتقد الواحد» أيا كانت سمة هذا المعتقد، وبالتالى ينتفى العقل الدوجماطيقي، أى العقل الذى يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة، ويكون البديل هو «انفتاح العقل» على حد تعبير البابا تواضروس والذى يؤدى بالضرورة إلى المشاركة الجماعية فى بناء الحضارة الإنسانية على حد تعبيره أيضاً. ومعنى هذا البديل أن بناء الحضارة ليس ممكناً من غير مشاركة العقول المنفتحة، وليس ممكناً بالعقول المنغلقة، أو بالعقول الدوجماطيقية، إلا أن البابا تواضروس يضيف شرطاً مهماً لبناء الحضارة فى هذا العصر وهو وسائل الإعلام. وأهميتها مردودة إلى أن هذه الوسائل المتمثلة الآن فى القنوات الفضائية هى وسائل جماهيرية، والجماهيرية هنا هى الجماهيرية المليونية لأنها عابرة القارات. واللافت للانتباه هنا هو أن النسبة المئوية للقنوات الفضائية الدينية فى حالة تصاعد، ومن شأن هذا التصاعد أن يؤدى دوراً ايجابياً فى بناء الحضارة إذا استند إلى انفتاح العقل، أما إذا استند إلى انغلاق العقل فالإرهاب بالضرورة حتمى ويلزم عنه انهيار الحضارة. يبقى بعد ذلك الجواب عن السؤال الثانى وهو الخاص بالخطاب الإنشائي. والمقصود الخطاب الذى ينطوى على عبارات فضفاضة وبالتالى يكون بلا معنى محدد فى حده الأدنى وبلا معنى غير محدد فى حده الأقصى كأن يقال على سبيل المثال إن الإرهابى بلا دين، مع أن هذا القول يتسم بأنه بلا معنى على الإطلاق لأنه لا يستقيم مع قول الإرهابى قبل أن يمارس قتل الآخرين أو إماتتهم التفوه بعبارات دينية. ومعنى ذلك أن هذا الإرهابى له دين. إذن علينا مواجهة هذا الدين أو بالأدق هذا «الفهم الخاطئ للدين» على حد تعبير البابا تواضروس. ويترتب على ذلك أن تجديد الخطاب الدينى يستلزم النقد الديني، أى إعمال العقل فى النصوص الدينية لكى يتم تحويرها من الفهم الدينى الخاطئ الذى ينتهى بالضرورة إلى العنف ومن ثم إلى الإرهاب وما ينطوى عليه من قتل البشر. وتترتب على ذلك نتيجة مهمة مفادها أن إدانة الإرهاب بعبارات خطابية هى إدانة بلا معني، بل إدانة من شأنها تدعيم الفهم الخاطئ للدين. لمزيد من مقالات مراد وهبة;