عندما ننظر فى حال أصحاب الفكر المتطرف نلاحظ فرقًا شاسعًا بين حلاوة المنطق ومرارة العمل، فلم نجد قومًا أشد فتكًا بالمسلمين قبل غيرهم من هؤلاء، رغم أنهم تبدو عليهم صفات التعبد والتأله من قراءة دائمة للقرآن الكريم وكثرة للصوم والصلاة، مع إغراء للعامة بشعارات ذات بريق من رفع الظلم ومحاربة الفساد وتطبيق شرعة الإسلام! ولا ريب أن السنة النبوية تمثل المصدر الثانى للتشريع عند المسلمين قاطبة، فهى مبينة للكتاب وكاشفة له لا مبطلة له أو معطلة لأحكامه، وعلماء الأمة يعرفون الفرق بين ما ورد فى هذه السنة المطهرة على سبيل القطع والتعبد، وبين ما ورد على سبيل الظن ومعقولية المعنى، فهناك أحكام كثيرة جاءت معللة، أو هى وقائع أعيان لا عموم لها. ولقد قاموا بتمييز ما كان منها على جهة الوجوب، وما كان على سبيل الندب، وما هو من مكارم الأخلاق، أو ما كان مبنيًا على العرف والعادة والآداب العامة والذوق الإنساني، الذى يطرأ على كثير من مظاهرها التطوير والتغيير من زمان لآخر ومن مكان لغيره ومن حضارة لأخرى. كما لفتوا أنظار من بعدهم إلى أن قراراته وتصرفاته صلى الله عليه وسلم لم تكن على نمط واحد، وإنما جاءت حسب تنوع الاختصاصات والصلاحيات ومراعاة مقتضيات الواقع وأحوال الناس، فما كان من قبيل الرسالة والبلاغ فهو شرع للمسلمين وهم مخاطبون به جميعًا، وما كان من قبيل أحكام القضاء فإنه لا ينبغى العمل به إلا وفق نظام القضاء وآلياته، وما كان من قبيل الإمامة فيرجع إلى القيادة السياسية (ولى الأمر) للنظر والعمل بمقتضيات أحوال الناس والعصر وفق المقاصد الكلية للشريعة، كما قرر ذلك القرافى فى الفروق والإحكام. هذه معالم المنهج الوسط فى التعامل مع السنة النبوية، والتى افتقدها هؤلاء وضلوا عنها، فنراهم يقرأون نصا ويغفلون عن آخر، مع تعميم الأحكام التى نتجت عن هذه القراءة الانتقائية التى تجمع مع الاجتزاء إهمال دلالات السياق الموضوعية والبلاغية والنحوية والمقاصدية، وعدم الالتفات إلى أسباب ورود الأحاديث، واتِّباع المتشابهات دون ردها إلى المحكمات، وعدم التفرقة بين التشريعى منها وغير التشريعي ونجد ذلك واضحًا فى كثيرٍ من النصوص التى يفرغها هؤلاء من سياقاتها ومواردها حتى تدعم اتجاهاتهم وتناسب أهواءهم وتشددهم نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»(متفقٌ عليه). فكلمة «الناس» كلمة عامة تفيد الخاص يقصد به المشركون الذين يقاتلون المسلمين فأمره الله تعالى بقتالهم مع عدم الاعتداء عليهم إذا لم يبدأوا بالقتال، وهذا الفهم جار فى الاستعمال الشرعى كقوله تعالى:»وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا»[الحج:27]، فهل كل الناس مخاطبون بالحج؟ وقوله تعالى:«الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»[آلعمران:173]. كما يخرج المسلمون من العموم لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويخرج أيضا المعاهدون وأهل الكتاب والمسالمون والنساء والأطفال والرهبان، لورود استثنائهم فى السنة طبقًا للأخبار الصحيحة الثابتة، بل إنه صلى الله عليه وسلم شدد على حرمة المعاهد مع عدم إسلامه فى دمه وماله، فقال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما» (رواه البخاري). ومن ذلك تبرز سمات ومظاهر ضلال هؤلاء منهجًا وحركةً؛ فلديهم خلل كبير واضطراب عظيم فى مناهج وآليات الاستمداد من السنة النبوية خاصة، وهذا جعلهم يفهمون هذه النصوص فهمًا قاصرا ومجتزءا يجعل عصر الرسالة وأحداثه إذا ما نُظر إليه بعيون العصر الحاضر منفرًا للعالمين رغم وضوح طريق النبوة – وهو كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها - لكيفية فهم هذا الدين وضبط أصول الاستنباط وطرائقه، فكانوا حربًا على السنة باسم السنة! لمزيد من مقالات د. شوقى علام - مفتى الجمهورية