بطلنا اليوم ...ليس واحدا ممن تسير معهم الحكاية من البداية إلى النهاية وكأنه وحده فى هذه الدنيا، ولكن البطل هنا بطلان فى واحد يمكن أن يمنحا عن جدارة لقب الشيخين. ليس فى الأمر استرجاع للعمل الأدبى الكبير «الشيخان» الذى قدمه د. طه حسين عميد الأدب العربى حين اجتهد فى قراءة حياة أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب رضى الله عنهما اللذين توليا أمر أمة الإسلام وحال المسلمين بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. كما أن الأمر أيضا لا يعنى التوقف طويلا أمام آخرين ممن حصلوا على هذا اللقب ومنهم الإمام البخارى والإمام مسلم، فالشيخان اللذان أقصدهما من أهل العلم والاجتهاد فى بر مصر المحروسة. وكيف لا يكونان وهما العالمان الجليلان د.حسين نصار شيخ المبدعين والمحققين والمترجمين، والشيخ المعمم المستنير د. حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية. الدكتور حسين نصار إن صح التعبير أعتبره مدادا مصريا نقيا استطاع بقوة ووضوح أن يشارك فى كثير من الاجتهادات الثقافية التى شغلت بال أهل مصر منذ منتصف العشرينيات التى شهدت مولده، فهو ينسب إلى جيل من المتعلمين يعتبر جزءا أصيلا من تحضر المجتمع المصري، وكانت ميزة عالمنا الجليل فى إدراكه منذ زمن تخرجه فى كلية الآداب فى الأربعينيات أن يكون هو نفسه إضافة من خلال منهج التأصيل، والتحقيق وفهمه للاعجاز البيانى للقرآن الكريم وصحيح الدين والتاريخ. فقد وجد الكثير من النصوص التاريخية والأدبية تنتظره لتحقيقها ومنها «معجم تيمور الكبير» و«النجوم الزاهرة فى حلى حضرة القاهرة» و «ولاة مصر» و«رحلة ابن جبير» وجزء مهم من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب»، فكان وهو يقوم بمهمته باحثا عن الأصول ومتحريا للدقة فى معرفة هوية النصوص. كان يكفيه ما قدم، ولكن من يعرف العربية يستطيع أن يتقن لغات أخري، ومن يدخل من باب التحقيق، يلقنه الصبر معنى أن يضيف، فاختار مهمة الترجمة التى جعلته يثرى العربية بكتابات لمستشرقين كبار أمثال برنارد لويس و فارمر، ليبدو صاحب رؤية موسوعية تناقش حتى أدق التفاصيل فى فنون الموسيقى والغناء. ولاعجب فهو ابن مدينة أسيوط، تلميذ القاهرة العاشق للثقافة والمفضل لدراسة الأدب على علوم الطب. أما شيخنا الآخر المعمم المستنير د. حسن الشافعى، فهو ابن بنى سويف والأزهر الشريف الذى يرأس مجمع اللغة العربية ليصبح الرئيس السابع لمجمع الخالدين، الداعى إلى ترشيح الشباب والعلماء والأقباط والنساء ليكون لهم اسهام فعلى فى عمل هذا المجمع الذى يشهد الآن نشاطا يذكرنا بزمن كان للعربية فيه الكلمة الأولى فى مصر المحروسة. لكن هذا ليس كل تاريخه، فمن قبل قدم عالمنا الفاضل رؤيته فى علم الكلام والتصوف والفلسفة الإسلامية من خلال مؤلفات عدة، وحقق كتاب «عطف الألف المألوف على اللام المعطوف» وترجم لكولين والشاعر الكبيرمحمد إقبال عن الانجليزية، لتبدو حياته مسيرة طويلة لا تفتقد الحس الإنسانى الذى يجعله عذب الحديث والحكى كما تدلنا سيرته الذاتية «حياتى فى حكاياتى». هذا قليل من كثير، أما ما يجمع بينهما فهو التكريم، لكونهما ينتميان إلى جيل بارك الله فى عمره وعافيته الذهنية. وأما الحديث الآخر الذى جمع بين الشيخين فهو احتفالية «العربية: سؤال التراث» بمعهد المخطوطات العربية. فكما يقول د. فيصل الحفيان مدير المعهد: تواجه لغتنا العربية الآن مأزقا، ولا فصل بين العربية وتراثها، ولا تفكير ولا إبداع ولا مشاركة حضارية بدون اللغة. والمشكلة أن البعض ينظر إلى حرف العربية بوصفه غير جميل، معتبرا الحرف الآخراللاتينى هو الأجمل. وبوجه عام الكلام عن العربية لا يكون- كما يشير د. عبد الحميد مدكورالأمين العام لمجمع اللغة العربية- إلا بتعريف الأجيال الجديدة بتراث لغتنا الجميلة، لأن البعض قد يتطاول على هذا التراث لعدم اطلاعه على جوانبه المتنوعة عالية القيمة، ويصدر أحكاما مجحفة، حتى سمعنا من يقول إن التراث يمكن أن يختصر فى سطر واحد لأنه جزء تافه من التاريخ، بل إنه لا يستحق الحبر الذى كتب به هذا السطر!. ينبغى أن نعرف أن تراث العربية من أضخم أنواع التراث فى العالم، فقد امتدت هذه اللغة لتاريخ طويل، وهى لغة حياة وفكر وشريعة، وقد اصطفاها الله تعالى وعاء للقرآن الكريم، وهو ما أضفى عليها مهابة وجلالا. والشعوب التى توصف بأنها أعجمية ارتبطت بهذه اللغة عند دخولها الإسلام، واسهمت فى التأليف فيها، فازداد التراث المكتوب بالعربية. كما أضافت الترجمة ليصبح تراث الفارسية والسريانية واليونانية جزءا من تراث هذه اللغة، وحتى عندما ظهرت علوم فى العالم لأول مرة من رياضيات وفكر وفلسفة كتبت بالعربية، فكانت المصدر الذى نقلت عنه أوروبا فى العصور الوسطى ووضعت أسس المنهج التجريبي. ولكن الآن وباستخدام الشباب للغة الرموز، تشهد العربية انحسارا، رغم أنه فى أوروبا نفسها لا تجد الفرنسى يتكلم سوى الفرنسية والألمانى يتحدث الألمانية بفخر. والمشكلة أن المناهج التى تقدم للشباب غير موفقة، فقد يختار لهم نصوصا صعبة مبهمة تجعلهم يؤمنون بأن العربية لغة بدوية غير صالحة للتواصل بين الناس. ولنتذكر عندما كنا صغارا كان شاعرنا الكبير طاهر أبو فاشا يكتب «ألف ليلة وليلة» وكان الناس يسهرون للاستماع إليها، فاللغة ليست قرارا سياسيا و على الناس أن يدركوا أن لغتهم هى تاريخهم وفكرهم. ويشرح د. أحمد درويش الناقد والأستاذ بكلية دار العلوم معنى أن تكون أن مهمتنا هى تمكين اللغة العربية، وحتى فى القرآن الكريم يقول الله تعالى: «الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» . فلغتنا فى حاجة إلى أدوات تمكين لكى توظف توظيفا حقيقيا فى الحياة. وأفضل قرار لربط العمل باللغة كان عند تعريب الدواوين فى زمن الدولة الأموية. فلم تمض عقود حتى نبغ الراغبون فى التوظف وتعلموا العربية، وأروع مثال ابن المقفع أمهر المتحدثين، وسيبويه واضع النحو رغم أصولهما الفارسية. والتعليم من أسباب تمكين لغتنا، وكثير من الشعوب الأوروبية تحرم على التلاميذ تعلم لغات أخرى قبل سن الثامنة، ولكننا نربط بين الحرف والطبقة الاجتماعية، والأفضل اجتماعيا فى ظن البعض هو تعلم اللغات الأجنبية. كما أن وسائل الاعلام لم تعلم الناس حب لغتهم حتى إن اليونسكو صنفت العربية ضمن اللغات المريضة أى التى لا توظف تعليميا واعلاميا. ويضيف د. محمود فهمى حجازى أستاذ علم اللغة بجامعة القاهرة أن اللغة العربية هى الخامسة فى العالم من حيث عدد السكان، ولكن الانتاج الفكرى والعلمى لا يتناسب مع نسبة متحدثيها. والمؤثر الأساسى لدراسة اللغة العربية فى الخارج هو وضعها فى الداخل، وهناك مصطلح اسمه السياسة اللغوية وهو خاص باستخدام اللغة فى مجال الادارة والاعلام والقوانين ونشر اللغة فى الخارج، وغياب هذه السياسة هو الأساس. فإذا لم يكن للوطن العربى سياسة لغوية واضحة الملامح، فإنه يؤثر تأثيرا مباشرا على وجود اللغة فى الخارج. ولدينا قسم وحيد لتعليم اللغة العربية للأجانب فى كلية الألسن. نعود مرة أخرى لشيخينا الجليلين، فالحديث عن لغتنا يطول، ولكن اسمحوا لى أن أذكر رأيا خاصا باللغة العربية والكلمة لعالمنا الجليل حسين نصار إذ يضيف: أنا واحد ممن تبنوا الفكر القومى العربي، ولكنى الآن لا أقول بالوحدة العربية، ولكنى أقول بالتنسيق العربى بين الدول والسياسات. فإذا لم يحدث، لن تموت اللغة بل سنموت نحن. فهذه اللغة واجهت من قبل ثلاثة مآزق كان من الممكن أن تطيح بها. فى آخر العصر الجاهلى كان الشعر والخطابة قد وصلا القمة، ولكن لم تكن هناك معرفة علمية الا بعض ما حصل من تجارب الحياة. وفى هذا الوقت واجهت العربية دنيا من الأفكار الدينية وتنظيم دولة وحياة جديدة، ولكن العربية استطاعت أن تعبر بكل ما جاء به الاسلام من أفكار. المأزق الثانى هو ما واجهته فى القرنين الثانى والثالث الهجرى فى دنيا علمية جديدة عند ترجمة الثقافة اليونانية التى استطاعت أيضا اللغة العربية أن تعبر عنها. أما المأزق الثالث فكان فى العصر العثمانى الذى فضل اللغة التركية على العربية، ثم جاءت الحملة الفرنسية وتعرفنا على حضارة جديدة، وارسل أحد المصريين إماما للطلبة وهو الطهطاوي، فكان اماما لمصر كلها و ترجم حتى النشيد الوطنى الفرنسي. هذا الرجل استطاع بما له من جماعة أن ينقل الحضارة الأوروبية إلى اللغة العربية. ولهذا فمن يقول إن العربية لا تعبر عن العلوم الجديدة نقول إنه جاهل بالعربية والعلوم الحديثة. فالعربية لا تعجز أن تواجه أى عمل فكرى على الاطلاق، إنما الذى يعجز هم أصحاب اللغة وهؤلاء متهمون بالخمول والكسل. وعن د. حسين نصار، قال عالمنا المستنير الشافعي: هو تلميذ أمين الخولى شيخ الأمناء وواحد ممن أعطوا للتراث طعما جديدا . وهناك ثلاث عمائم اثروا الجامعة: أولهم الشيخ أحمد إبراهيم بك الذى أعطى للدرس الفقهى والتراث القانونى للشريعة دورا جديدا، وثانيهم د.مصطفى عبد الرازق الذى أعطى للدراسات الكلامية رؤية مميزة. وكان أول أستاذ، وعبد الرحمن بدوى والنشار امتداد له, والثالث هو الشيخ أمين الخولى وقد أعطى لفنون العربية طعما جديدا. وفى النهاية لا يستطيع أحد أن يبنى حاضرا أو مستقبلا الا بالعودة إلى التراث وهذا ما حدث فى النهضة الأوروبية التى عادت للفلسفة الاغريقية والتراث القانونى الرومانى، والتراث الاخلاقى المسيحى ثم الروح التجريبية للحضارة الاسلامية. ولدينا المعاجم التى انتجها المجمع طبع بعضها أكثر من 250 طبعة، وهذه ليست مبالغة. فلابد من إحياء التراث حتى نفهم ونتعرف على الغد. استميحكم عذرا ... فقد انتهى حديث الشيخين، وإن بقى أن نقول إن ما قدمنا مجرد لمحة مبسطة من فكر هذين الشيخين اللذين ولدا فى صعيد مصر ومثلهما كثيرون من أهل بحرى وقبلى قدموا، ولكن المشكلة اننا لا نقرأ واننا ننتظر أن نعرف ممن لاحظ لهم من معرفة أو تعلم. فلنبحث فى الكتب وبين البشر الأجلاء... وسنجد مصر المحروسة .