ما بال أقوام بيننا، ينظرون إلى الفقر والعوز، بحسبانهما نقمة، وليسا نعمة؟ ما بالهم يزعمون أن اللحم والثريد والحمام المحشو بالفريك والمكسّرات، مطالب يومية أساسية، يجب تلبيتها، إذ بدونها لا تكون الحياة حياة؟ ألم يسمع هؤلاء إلى الحكمة الخالدة: « إخشوشنوا.. فإن النعمة لا تدوم»؟ إن المرء منا هذه الأيام، ما ينفكّ يكبس بطنه بالطعام، حتى يئن الجسم منه بحمل البطن المليئة، بل وتراه يطمح للمزيد، ثم يجلس منفوخ الأوداج، محمرّ الوجه من الغضب، فيشكو من ضيق الحال. وفى غمرة هذا الجشع البطناوي، نسى الجميع، أن أجدادنا الأولين لم يكونوا أبدًا مثلنا، حيث كان الأصل فى مِلّتهم واعتقادهم، أن الجوع سيد الأخلاق جميعها، وأنه ذروة المكارم وسنامها. وفى غمرة هرولة هؤلاء «البطنيين» نحو الطعام، أوقعوا ظلمًا بيّنًا، ومذلة ما بعدها مذلة، على واحد من أهم مفردات معيشتنا، عاشرناه فلم يخذلنا قط، وكان على الدوام رفيق الرحلة، وخادم الجميع، والصديق الذى لا صديق غيره وقت الشدائد.. ألا وهو « طبق الفول» الأصيل. ولسنا هنا فى وارد الحديث عن الفوائد غير المنكورة لهذا الصديق الوفي، فالكل يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، وقد غنّى له المغنّون، فأغنونا عن تعداد حسناته، كما تناولته السينما والمسرح والمسلسلات، حتى علا ذكره وارتفع شأنه بين الأمم. التنكر لهذا الحبيب الميمون، دليل عجز فكرى نعانيه كلنا الآن، وتغييب لمنهج راسخ فى التفكير، تربينا عليه- نحن جيل الآباء- منذ الصغر، وما كان لنا أن نحيد عنه. ويتمثل هذا المنهج، فى أن الأصل فى الإنسان أنه يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل، إذ ما فائدة الأكل أصلًا؟ ومن قال إننا يجب أن نأكل من أساسه؟ «ربط الحزام».. كان فلسفتنا الأثيرة، وما خابت مسالكنا، وتدهورت أوضاعنا، وضاع من أقدامنا الطريق، إلا عندما جعلنا من الأكل أسمى غاياتنا وطموحنا الأهم، وإن لم نفق من غفلتنا، فنكف عن تناول الطعام- إلا ما يقيم منه الأود- فلن تقوم لنا قائمة، وسنظل نجرى فلا نلحق، وسوف تتحدث عن فشلنا الركبان. ثم إن هناك حقيقة منطقية، نُصرّ على تناسيها عامدين متعمّدين، ألا وهى أن الناس درجات، فمنهم من يحق له أن يزدرد الفتّة ازدرادًا، وأن يلتهم ديوك الرومى التهامًا، ومنهم من قًدر له أن يلحس الصحون، وليس ثمة صحن أكثر إمتاعًا فى لحسه من طبق فول لذيذ غارق فى الزيت ( وإن لم تجد الزيت فليست هناك أى مشكلة!). وليعلم كل من يحاول القفز على قسمته ونصيبه، أنه لن يلقى إلا جزاء سنمار. ولعل من الحقائق الكونية، التى يجب على الجميع إدراكها، بل وحفظها عن ظهر قلب، أن لكل فئة من الناس طبيعة بطنية خاصة بها، فمنهم من بطنه تهضم الزلط، ومنهم من لا يقوى إلا على البسكويت، فإن أنت أحللت أصحاب الزلط محل أهل البسكويت، فإنك تكون آنئذٍ قد أخللت بنواميس الكون، وعطلت «سيميترية» الحياة وانسجامها، وتناسقها. وليست مصادفة أبدًا، أنك وأنت تمضغ الفول الجميل، يمكن أن تقرش لك زلطة أو زلطتين، فتهشمان أسنانك، وربما كنت محظوظًا، فتعثر لك على مسمار، أو مسمارين.. وكيف لا والأقدمون قالوا «الفول مسمار البطون»؟ ثم إن المسائل – قبل كل شيء- نسبية، إذ رُبّ ماضغ لفولٍ، يجده أمتع من بطةٍ مشويّةٍ، تنضح بالسمن والرائحة. ولعل من الأخطاء، التى يقع فيها أبناؤنا، من الجيل الجديد، دائمًا، أن الواحد منهم- إن أراد أن يتصوّر صورة « سيلفي»، فى مطعم أو حفل زفاف أو رحلة- تجده يلتقطها مع أطباق اللحوم، والمشويات، وتلال « الزفر» المتراكمة بعضها فوق بعض، وفى هذا خطأ واضح فى التربية والنشأة، لكن ليس هؤلاء الصغار هم المسئولين عنه، بل هو خطأ الآباء والأمهات.. وآن أوان تدارك الأخطاء. خطأ آخر، يقع فيه المسئولون عندنا، ربما عن غير عمد، أو عن غفلة، وهو أنك تجدهم، عندما يرفعون الأسعار، لا يستثنون الفول فيرفعون سعره هو الآخر، وهم لا يعرفون أنهم بتلك الفعلة الشنيعة، يعطلون حركة الحياة، ومسيرة الإصلاح، التى أوجعوا أدمغتنا بها ليلًا ونهارًا. الفول- يا سادتنا- سيد الطعام، ولذلك ينبغى أن تكون له عندكم معاملة تفضيلية. أيضًا، كان من الأخطاء الجسيمة، التى وقع فيها عملاق المسرح، الأستاذ سمير غانم، أنه فى ثمانينيات القرن المنصرم، راح يسخر من الفول، فى مسرحيته الشهيرة، وكان أولى به، أن يكون واعيًا لمدى الضرر النفسى الذى أحدثه بنا- نحن آكلى الفول فمالئين منه البطون. لكن لعل ما يشفع لغانم، أنه نبهنا لحقيقة أساسية فى حياتنا، دون أن يدري, وهى أننا بالفول نحيا ومن دونه لا نعيش، حتى لو على المسرح. ومن أهم الحكم الشائعة، التى تعلمناها من الأجداد على مر الزمان، أن «البطران سِكته قطران»، فعلى كل من يتجرأ، فيسخر من الفول، أو يتطاول عليه، أو يزدريه، أن يراجع نفسه قبل فوات الأوان، إذ من لا يرضى بالخوخ – أو بالفول- اليوم، قد غدًا يرضى بشرابه.. وما ماء الفول بأقل حلاوةً من حبّاته، فحذار أن يأتى عليكم يوم تترحمون عليه فيه. فما المغزى أو الدرس المستفاد من هذا المقال؟ مغزاه.. أنك عندما تُعوّد نفسك على القليل الدائم، فلن تتحسر على الكثير الزائل، وما دمت قد أدمنت الفول، وشربت ماءه حتى الثمالة، فلا تخشَ إذن من غوائل الزمان.. والأيام – يا أستاذ- دوّارة.. فمن يدري.. ربما يود مدمنو الدجاج والإوز والبسبوسة الطريّة، لو كانوا من عاشقى الفول.. وإن له للذةً، تستعصي، إلا على أعتى الهاضمين. لمزيد من مقالات سمير الشحات