ظل القوميون حول العالم يكسبون أرضًا فقد كسب الشعب الفرنسى بعد ثورته فى 1789 إعلان الحقوق العالمية للإنسان والمواطن. ولكن نابليون فى دعايته تميز عن القومية التى ولدت مع توحيد ألمانيا ورجعت إلى الدم والأرض والدم (العنصر والتراث) باعتبارهما أساس الانتماء القومي، وكانت العسكرية الألمانية شديدة التعصب ومعادية للعالم. وتعتمد كل المجتمعات على قومية من طراز أو آخر لتحديد العلاقات بين الدولة والمواطن والعالم الخارجي، ومما يسبب الضيق أن كثيرًا من البلاد تتحول من القومية التى تعترف بحقوق القوميات الأخرى وتؤكد حقوق المواطنين وواجباتهم (قومية مدنية) إلى قومية الدم والأرض (قومية عرقية)، فالوطنية الإيجابية تتشوه إلى قومية سلبية والتضامن مع الأقليات يتحول إلى عدم ثقة فى هذه الأقليات. و.بدعوة دونالد ترامب “أمريكا أولاً” يصير داعية لنزعة قومية، وحينما أقسم على إعادة العظمة إلى أمريكا كان يردد صدى حملة رونالد ريجان فى 1980. وفى تلك الأيام كان الناخبون يسعون وراء التجديد بعد إخفاقات رئاسة كارتر. والآن انتخب ترامب لأنه أيضًا وعدهم بتغيير تاريخي، ولكن هناك فرقًا، فعشية التصويت وصف ريجان أمريكا بأنها مدينة متألقة فوق تل، وبتعداده كل ما تستطيع أمريكا أن تسهم به لجعل العالم آمنًا حلم ببلد غير منعزل متحولاً إلى الخارج لا الداخل، أما ترامب فهو على النقيض قد أقسم على وضع أمريكا أولاً مطالبًا لها باحترام عالم لا يبدى لقادة واشنطن احترامًأ كبيرًأ. ويقول إنه لن يواصل إخضاع هذا البلد أو شعبه لما يسميه أغانى العولمة الكاذبة. لقد كانت أمريكا ريجان متفائلة، أما أمريكا ترامب فهى غاضبة. وللمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية تكون القوى العظمى والصاعدة أسيرة أنواع متعددة من التعصب القومي. ومثل ترامب فإن زعماء روسيا والصين وتركيا على سبيل المثال يعتنقون وجهة نظر متشائمة ترى فى الشؤون الخارجية منافسة بين مصالح عولمية وقومية. والقومية مفهوم مراوغ، مما يجعل التلاعب بها سهلاً عند السياسيين. والقومية العمياء المتعصبة تصرخ بلدنا فوق الجميع وينبغى جعلها عظيمة من جديد كما كانت فى الماضى (وطرد المهاجرين “غير الشرعيين” ومنع المسلمين من الدخول إلى أمريكا والوعد ببناء سور على الحدود مع المكسيك). وبذلك يبلغ ترامب درجة غير مسبوقة فى التعصب القومي. ولا بد أن يشجع فوزه أمثاله حول العالم حيث تصعد القومية العنصرية فى بلاد كثيرة. ففى بريطانيا نجحت حملة الخروج من الاتحاد الأوروبى بقيادة نيجل فاراج الزعيم السابق لحزب استقلال بريطانيًأ متحالفًا مع اليمين فى حزب المحافظين، وهى حركة قومية شعبوية ضد المهاجرين. ولم يكن مفاجئًا أن يزور فاراج ترامب معلنا تأييده له أثناء الحملة الانتخابية، وقد بادله ترامب التأييد باقتراح أن يعين سفيرًا لبريطانيا فى الولاياتالمتحدة، متجاهلاً تقاليد السياسة الخارجية البريطانية. وبعد أن نجح الحزب فى جذب أصوات كثيرين من المؤيدين التقليديين لحزب المحافظين أعلن بول ناتل رئيس الحزب المنتخب مؤخرًا تحديه لحزب العمال مدعيًا أن حزبه هو المعبر الحقيقى عن الطبقة العاملة. وفى فرنسا تعلن مارى لوبن زعيمة الجبهة المتحدة العداء للعولمة والتجارة العالمية وتدعو إلى استفتاء حول مغادرة فرنسا للاتحاد الأوروبى ومنطقة اليورو رافعة شعار لا لبروكسل، نعم لفرنسا، وتقسم على جعل فرنسا “عظيمة مرة أخرى”. وفى ألمانيا يصعد حزب “البديل لألمانيا” ضد المهاجرين والأقليات، وكذلك الحال فى النمسا وحتى الدنمارك. وبينما كان التأييد لتلك الأحزاب يجلب السخرية فى المجتمع تحولت إلى أحزاب ذات وزن فى الحياة السياسية فى أوروبا. وتجلى ذلك التأثير فى دفع ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا السابق إلى الوعد بإجراء الاستفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى رغم مقاومته لذلك فى السابق. وفى بدايات حملة الانتخابات الرئاسية فى فرنسا يتبنى يمين الوسط خطابًا معاديًا للمهاجرين. وبينما يقارن كثيرون صعود ترامب وتزايد النزعة اليمينية فى أوروبا بصعود الفاشية فى الثلاثينيات من القرن الماضى ويحذرون من خطر فاشى محدق، يرى بعض المؤرخين أن هذا الصعود يشبه الشعبوية السائدة فى أوروبا فى الثمانينات من القرن التاسع عشر، زمن آخر مشابه لنوع من العولمة والهجرات الجماعية، ويرون أن الركود الاقتصادى يؤدى إلى الشعبوية لا الفاشية. ولا شك أن الانكماش المزمن والأزمات الاقتصادية وإجراءات التقشف وخيبة الأمل فى العولمة لعبت دورًا كبيرًا فى خلق مناخ من عدم الرضا والغضب والخوف من المستقبل استغلته الأحزاب القومية فى نشر جو من الخوف ولوم المهاجرين بدلا من محاسبة المتسببين فى الأزمة. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى ;