بالتأكيد هناك مبررات كثيرة للخوف، ليس فقط من انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، بل أيضًا من الظاهرة التي أدت إلى فوزه في وجه كل التوقعات. فمثلما صدمت بريطانيا العالم في 23 يونيو (حزيران) الماضي بنتيجة التصويت الصاعق على الخروج من الاتحاد الأوروبي أو ما صار يعرف ب«البريكسيت»، صدمت أميركا الناس فجر أمس بتصويتها الكاسح لترامب موجهة لطمة لكل استطلاعات الرأي التي كانت ترجح انتخاب هيلاري كلينتون وتغلب صوت العقل على الغوغائية. نحن اليوم أمام ظاهرة مثيرة للقلق، ليس في أميركا أو بريطانيا وحدهما، بل ربما في كثير من أرجاء العالم، خصوصًا في الديمقراطيات الغربية. هذه ليست أزمة عقلاء في مواجهة مجانين، وإنما مشكلة عقلاء في مواجهة الغاضبين بجنون. ناخبون يعبرون عن غضب جارف على النخب الحاكمة التي يرونها منعزلة عن همومهم، وفاسدة، وعاجزة عن إيجاد حلول لمشكلاتهم الاقتصادية. يصبون هذا الغضب الجارف في صناديق الاقتراع لتوجيه رسالة احتجاج قوية للطبقة السياسية، ولدوائر القرار المالي والاقتصادي، من دون اكتراث للمخاوف أو التحذيرات. هؤلاء الغاضبون تجذبهم الشعارات الشعبوية، والسياسات الحمائية، ودعوات غلق الحدود أمام المهاجرين، والانغلاق في مواجهة العولمة التي يعتبرونها مسؤولة عن مشكلاتهم. ترامب لم يقدم في حملته برامج حقيقية مفصلة عن كيفية مواجهة المشكلات المعقدة، بل لعب على الشعارات التي دغدغت مشاعر الناخبين الغاضبين، وقدم نفسه على أنه مرشح من خارج المؤسسة السياسية «الفاسدة»، التي صورها على أنها تحاربه وتتآمر لإسقاطه. لم يكترث بإثارته للانقسامات، أو بتحريض الناس ضد مؤسساتهم إلى الحد الذي جعل بعض أنصاره يلوحون باقتحام البيت الأبيض بالسلاح، وبحمام دم إذا لم يفز مرشحهم. لم يكن غريبًا في أجواء الإحباط، والغضب، والانقسام هذه أن يفوز ترامب بالأصوات الحاسمة في الولايات المعروفة ب«حزام الصدأ»، وهي الولايات التي عانت من إغلاق مصانعها، ومن تراجع فرص العمل، وانتشار البطالة والفقر. كذلك نجح بشعاراته ضد الهجرة، ووعوده بجعل «أميركا عظيمة»، وب«إعادة إحياء الحلم الأميركي»، في حصد أصوات البيض، خصوصًا من الفقراء وكبار السن بكثافة عالية. هؤلاء رأوا في ترامب المرشح القوي الذي يريد إحياء عظمة أميركا عسكريًا واقتصاديا، ورجل الأعمال الناجح الذي سيعرف كيف يعيد بناء المصانع الأميركية، ويحمي فرص العمل ببناء الجدران لصد المهاجرين. إذا كانت أميركا خرجت من هذه الانتخابات منقسمة ومشحونة بالتوترات، فإن كثيرا من الدول الأوروبية تشعر بالقلق من تنامي ظاهرة «الغضب الانتخابي» ومن تصاعد المد اليميني المتطرف. فمن فرنساوألمانيا، إلى إيطاليا والمجر والنمسا والنرويج وغيرها، يبدو اليمين المتطرف الرابح الأكبر من هذه الموجة الجارفة، ولا أحد يعرف بالتحديد إلى أين ستقود العالم. الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عبر عن هذا القلق بوضوح أمس عندما قال إن فوز ترامب يعني فترة من الغموض، وإن على دول الاتحاد الأوروبي أن تبقى متحدة ويقظة في هذه المرحلة. فأوروبا لا تواجه فقط تبعات صعود اليمين المتطرف، وتصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد، بل تشعر بالقلق من توجهات ترامب المعادية التي ظهرت في تأييده لتصويت بريطانيا بالخروج (بريكسيت)، وكذلك في تصريحاته المناهضة للعولمة ولاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، وتلميحاته للحد من التزامات أميركا في حلف الناتو. اليمين المتطرف الأوروبي رمى بثقله وراء ترامب، وتوجه عدد من قادته من أمثال نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني (يوكيب)، وماري لوبين زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، إلى أميركا لتقديم الدعم لحملته. والآن يتطلع هؤلاء إلى جني مكاسب من فوز «مرشحهم» المثالي في أميركا، ويأملون في أن يترجم ذلك في سياساته ونظرته السلبية للاتحاد الأوروبي، وللعولمة، مما يخدم رسالتهم ويعزز صعود اليمين المتطرف الذي يتبنى شعارات مماثلة، في وقت تستعد فيه عدة دول أوروبية، في مقدمتها ألمانياوفرنسا، لانتخابات مهمة خلال العام المقبل. صعود اليمين المتطرف يبدو مثيرًا للقلق، ويدفع بعض الناس إلى التذكير بالظروف التي قادت إلى صعود النازية والفاشية في أوروبا وما انتهت إليه في الحرب العالمية الثانية. فوقتها، وتحديدًا في أواخر عشرينات القرن الماضي، واجه العالم انهيار البورصة الأميركية وفترة الكساد العظيم وما رافقها من مشكلات وفرت أرضية خصبة للشعارات الشعبوية ولمد التطرف الذي ركب موجته النازيون والفاشيون. هذا الكلام لا يعني أن انتخاب ترامب وضع العالم على أعتاب حرب عالمية ثالثة، لكنه يعكس القلق المتنامي من ظاهرة صعود اليمين المتطرف، وسياسات الانغلاق والحمائية، التي وفرت للشعبويين والغوغائيين فرصة ركوب موجة الغضب والإحباط. فلا أحد يستطيع الجزم الآن بما ستقود إليه سياسات وشعارات ترامب، لكن الأمر المؤكد أن العالم في حاجة إلى مراجعة صحية ومتأنية لنتائج العولمة، وسطوة أسواق المال، والفجوة المتزايدة بين الجماهير الغاضبة والنخب الحاكمة. نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط