نبدأ هذا المقال بقصة من زمن بعيد ثم نعود إلى الوقت الحاضر. فى الأعوام الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين، كان الوضع فى ألمانيا صعبا وقاسيا جدا. وضرب الركود الاقتصادى – الذى ساد جميع أنحاء العالم – ألمانيا ضربة قاصمة، وانتشرت البطالة بين الكثير من فئات الشعب. وكانت هزيمة ألمانيا المخزية أثناء الحرب العالمية الأولى ما تزال حاضرة فى أذهان العديد من الألمان، الذين فقدوا الثقة فى حكومتهم الضعيفة المعروفة باسم جمهورية فايمار. وأتاحت هذه الظروف الفرصة لظهور قائد جديد هو أدولف هتلر، وحزب جديد هو حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، والمعروف اختصارا بالحزب النازى. وكان هتلر من الخطباء الأقوياء والمفوهين، ولذا جذب انتباه شرائح عريضة من الألمان اليائسين الذين يرغبون فى التغيير، وقد وعد بحياة أفضل وألمانيا جديدة قوية. وبالفعل أيد الشباب والعاطلون وأفراد الطبقة المتوسطة الفقيرة من الموظفين والمزارعين وأصحاب الحرف والمتاجر الصغيرة، أيد كل هؤلاء هتلر رغم خطابه العنصري وفكره المتطرف، وحصل حزبه النازي على ثلاثة وثلاثون بالمائة من الأصوات فى انتخابات عام 1932، متقدما على جميع الأحزاب الأخرى. وفى مطلع العام التالى، عين هتلر مستشارا للرايخ، أى رئيسا للحكومة الألمانية، واعتقد العديد من الألمان أنهم قد عثروا أخيرا على الزعيم المنقذ لأمتهم. وبعد أقل من شهر واحد من تسلم هتلر السلطة، أضرمت النيران فى مبنى البرلمان "الرايخستاج"، واستغل هتلر هذا الحادث (رغم أن الفاعل كان النازيون أنفسهم) وأقنع الرئيس الألمانى بول فون هندنبرج بتوقيع مرسوما بالحد من الحريات المدنية، ليمهد الطريق أمام قمع الآلاف من الشيوعيين وغيرهم من الجماعات المناهضة للنازية، فبدأت بذلك صفحة جديدة مؤلمة من تاريخ ألمانيا الحديث امتد تأثيرها إلى العالم أجمع. وخلال العام الأول من حكمه اعتقل هتلر حوالى 12 ألف شخص، ومن أجل توسيع سيطرته على البلاد أسس جهاز الشرطة السرية "الجيستابو"، الذى تخطى أفراده حدود كل القيم والأعراف الإنسانية، وتزامن ذلك مع إطلاق النازيين لحملة قمع ضد النقابات العمالية، ونظموا عملية إحراق جماعى للكتب التى ألفها يهود أو شيوعيون بهدف تطهير البلاد من الأفكار غير الوطنية، وعلاوة على ذلك تم حظر الأحزاب السياسية الأخرى مع تشديد هتلر قبضته على السلطة. وبعد ستة أعوام من الحكم، نفذ هتلر العديد من المذابح لبعض الأجناس غير النقية على حسب اعتقاده، وتمكن من غزو عدة بلدان فى أوروبا بغرض السيطرة على العالم، وهكذا هيأت سياسة هتلر العنصرية الطريق إلى الحرب العالمية الثانية، والتى أدخلت العالم فى كارثة غير مسبوقة استمرت لستة أعوام . انتهت القصة ونعود الآن إلى الوقت الحاضر. فقد أثار فوز الملياردير الأمريكى دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، التى جرت يوم الثلاثاء 8 نوفمبر الماضى، خوفا واسعا من عودة نهج الزعيم الألمانى النازى هتلر للسياسة العالمية من جديد، فترامب وهتلر من نفس الخامة والمرجعية. كلاهما يؤمن بنقاء العرق (الآرى بالنسبة للأول والأبيض بالنسبة للثانى)، وكلاهما خاض الحملة الانتخابية باسم الأزمة الاقتصادية والخطر الخارجى، وباسم محاربة الأغيار والتهديد بحرقهم ورميهم فى البحر أو خارج الحدود، والاثنان يعتقدان أن بلديهما هما أول العالم وآخره، وأن سبل تجاوزهما للأزمة الراهنة ينبغى أن يتم بممارسة التطهير العرقى. وأثناء حملته الانتخابية، هاجم ترامب المسلمين بضراوة مستغلا ظاهرة الإسلاموفوبيا، وحالة الحرب العالمية ضد داعش، والأعمال الإرهابية الأخيرة فى عدد من المدن الغربية، والهجرة الواسعة للمسلمين من الدول العربية فى اتجاه الغرب، وطالب بمنع دخول المسلمين إلى الولاياتالمتحدة قائلا: "ليس لدينا أى خيار آخر". كما شن ترامب هجوما شديدا على السود فى أمريكا مستغلا الصراع التاريخى الذى لم يخمد بعد بين البيض والسود فى البلاد، ولم يكتف بذلك بل صب جام غضبه على الأمريكيين المنحدرين من أصول لاتينية، ودعا إلى عزل قاض من منصبه لأنه لاتينى. ونشر ترامب تغريدة، مقتبسة من كلمات الزعيم الإيطالى الفاشى موسولينى، تقول: "أن تعيش يوما واحدا كأسد، أفضل من أن تعيش 100 سنة كحمل". وكان موسولينى رفيق درب هتلر فى الديكتاتورية. أثارت هذه التصريحات والمواقف العنصرية لترامب قلق ومخاوف جميع القوى الليبرالية داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، حتى أن صحيفة "واشنطن بوست"، إحدى أهم الصحف الأمريكية، تخلت عن حيادها المعروف ودعت الناخبين صراحة إلى عدم مكافأة ترامب على عنصريته وهجومه على الديمقراطية والليبرالية. وقالت إن ترامب لن يتقيد بالقيود التى يفرضها الدستور على السلطة التنفيذية، وإنه سيوسع أعمال التعذيب، وسيستخدم سلطاته للانتقام من معارضيه، وسيطرد ملايين المهاجرين، وسيحط من قدر النساء والسود والمسلمين، وسيتحالف مع المنظمات الإرهابية البيضاء مثل: الكو كلوكس كلان. بينما أعلنت مجلة "فورين بوليسى" السياسية المرموقة تأييدها للمرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون، وقالت إن تصويت الشعب الأمريكى فى هذه الانتخابات سوف يحدد مصير حقوق المرأة والأقليات فى البلاد، إن فارق صوت واحد يحدد ما إذا كانت الولاياتالمتحدة سوف تستمر فى حياتها الديمقراطية أم الديكتاتورية. ولو نظرنا إلى الأمر بشكل أوسع، أظن أن رئاسة ترامب للولايات المتحدةالأمريكية ستشكل نقطة تحول مفصلية، ليس فقط بالنسبة للشأن الداخلى الأمريكى بل وللنظام العالمي بأسره، وستؤذن بانتهاء العصر الذى كانت فيه الولاياتالمتحدة تشكل رمزا للديمقراطية فى أعين الشعوب التى ترزح تحت حكم الأنظمة الاستبدادية فى مختلف أرجاء العالم. ولذلك لم يكن مستغربا أن يكون أول من اتصل بترامب مهنئا له بفوزه فى الانتخابات الرئاسية هو الرئيس عبد الفتاح السيسى. وكان ترامب قد أشاد بسياسة السيسى، بعد أن التقاه على هامش اجتماعات الأممالمتحدة فى نيويورك فى سبتمبر الماضى، ووصفه بأنه رجل رائع وأن بينهما انسجام وكيمياء متبادلة، وأكد أن الولاياتالمتحدة ستكون تحت إدارته صديقا وحليفا قويا يمكن لمصر الاعتماد عليه خلال السنوات القادمة. إن رئاسة ترامب للولايات المتحدة تدشن عصرا جديدا من القومية الشعبوية، يتعرض فيه النظام العالمى الليبرالى الذى تشكل فى منتصف القرن العشرين للهجوم من قبل الأغلبيات الديمقراطية الغاضبة المتصاعدة. فالاختيار الذى فضله الأمريكيون فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة يشير إلى حدوث انتقال من خندق إلى آخر، من معسكر العالمية الليبرالية إلى معسكر القومية الشعبوية. ولذلك لم يكن مصادفة أن حاز ترامب على دعم قوى من قبل زعماء اليمين المتطرف فى أوروبا: مارين لوبان زعيمة الجبهة القومية فى فرنسا، وخيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية فى هولندا، ونايجيل فاراج زعيم حزب الاستقلال فى بريطانيا. فهذه القومية الشعبوية، التى بدأت تعلن عن نفسها فى أواخر القرن العشرين، بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة المنظومة الليبرالية كخيار وحيد فى العالم، وتصاعدت قوتها بعد الأزمة المالية العالمية فى عام 2008 والتى عصفت بالعديد من البنوك والشركات الكبرى وتسببت فى تراجع الاقتصاد العالمى وخاصة اقتصاديات البلدان الرأسمالية الغربية، هذه القومية الشعبوية تدعو إلى الانغلاق فى إطار الحدود والمصالح القومية، وترفض أن تكون التكتلات والاتفاقيات الدولية قاعدة لتنظيم الاقتصاديات الوطنية، كما أن مفهومها للقومية مفهوما ضيقا يعتمد على رفض التنوع وإقصاء الآخر سواء كان ذلك الآخر من الأقليات أو من المهاجرين. ولقد صرح ترامب بوضوح أنه سيسعى لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية الحالية، وربما أيضا منظمة التجارة العالمية، وإذا لم يحصل على ما يريد، فهو على استعداد للنظر فى الخروج منها والتحلل من التزاماتها. ومن الصعب التقليل من مخاطر هذا الموقف على الاقتصاد العالمى وعلى منظومة الأمن الدولى، وخاصة فى عالم يطفح بالقومية. فنظام التجارة العالمى يعتمد فى بقائه واستمراره على قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية وعلى نفوذها المهيمن، ولكن إذا ما بدأت الولاياتالمتحدة بالتصرف بشكل أحادى لتغيير شروط الاتفاقيات التجارية المبرمة بينها وبين الدول الأخرى، فلن يتورع الكثير من اللاعبين الأقوياء فى العالم عن الانتقام، مما قد يشعل شرارة انهيار اقتصادى شبيه بذلك الذى وقع فى ثلاثينيات القرن العشرين. أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض، بالإضافة إلى التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، الذى جرى فى شهر يونيو الماضى وكان بمثابة ضربة مؤلمة أخرى سددتها القومية الشعبوية فى قلب النظام العالمى الليبرالى، قد يجعلنا بصدد لحظة تاريخية حاسمة، مثل لحظة سقوط الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، تدشن نظاما عالميا جديدا. بالتأكيد لن يتضح الأمر تماما إلا بعد مرور فترة كافية من الزمن، ولكن أظن أن هذا التصور المحتمل يستحق بعض التفكير.