لاخلاف أن مصر تموج فى يم من الأزمات الاقتصادية من انهيار قيمة العملة، ومرورا بعشوائية الأسعار، ووصولا إلى الغلاء الصادم، ويصبر الملايين لما يستشعرونه من أن مايعانونه الآن قد يكون نفقا لحياة أفضل أو ممرا لمستقبل وثير، أو طريقا للحياة المثلى المأمولة، والسؤال: أين الظهير الفنى والفكرى والثقافى الذى يخفف وطأة أزمتنا الطاحنة فى ظل هذه الظروف المعيشية المعقدة بالفعل؟ وأين دور الحركة الثقافية الآنية التى من الواجب عليها أن تمتص وطأة الصدمات المعيشية المعاصرة، خاصة وأن كثيرين من رموز النخبة الثقافية والفكرية فى مصر يشبهون حالتنا الآن بحالة مصر إبان نكسة 1967 وما بعدها من زوايا عديدة، أهمها أننا فى حالة بناء حقيقى لدولة ترهلت، وانكمش اقتصادها عبر قرون طويلة،، فلقد تألقت مصر فى الستينيات بكامل وعيها الفني، وفى عام 1967 وما بعده من أعوام لم ينقطع شدو أم كلثوم عن التحليق فى سماء النغم، ولم تغب عن حفل واحد، وقدمت فى تلك الفترة أحلى أغانيها، وأخلد أعمالها مثل «أنت عمري» و«الأطلال» و«سيرة الحب» وغيرها، بل وطافت العالم العربى بأسره لتغرد بفنها تدعم بلادها، وكذلك عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش كانا حديث الساعة، كما كانت أعمال طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم تشغل الحركة الفكرية فى مصر والعالم العربى سواء عن طريق مقالاتهم وروائعهم الأدبية بالصحف المصرية والعربية، أو بمؤلفاتهم المطبوعة، وكان المسرح المصرى زاخرا، والسينما المصرية فى أوج عزها، ويدفعنا ذلك إلى أن نتساءل عن دور الدولة فى دعم المنظومة الفنية المعاصرة، خاصة اننا نمتلك ثلاثة منافذ تخاطب الوجدان قبل الفكر هى اولا جهاز السينما العملاق التابع لوزارة الثقافة، والذى قدم لنا درره الخالدة منذ الستينيات، وحتى التسعينيات ومطلع القرن الجديد حينما تم انتاج آخر عملين للفنان الراحل أحمد زكى «ناصر 56» و «أيام السادات»، وبعدها اختفى تماما دور الدولة فى دعم المنظومة السينمائية، والأعمال الجادة تماما، وأصبحت الساحة السينمائية خالية للقطاع الخاص ليعربد فيها بأعماله الاستخفافية التى تعتمد على البلطجة والعنف والجنس والرقص، والتى خلفت لنا أجيالا ترى أحلامها فى رموز «الأسطورة» الوهمية، وشجاعة الفهلوة والدم وسيادة السلاح، فسقطت المدرسة السينمائية المصرية فى براثن الواقعية المزيفة، البعيدة تماما عن الواقع. ثانيا: أين دور وزارة الثقافة فى دعم المسرح القومى الذى لم يعد له وجود على الإطلاق إلا فيما ندر وبمحاولات قليلة يقوم بها أصحاب الضمائر المسرحية الحية مثل الفنان الكبير يحيى الفخراني، رغم أن الوزارة تمتلك أكبر مسارح الدولة، ومنها المسارح الخالدة بالعتبة بالقاهرة، ومسرح سيد درويس بالإسكندرية، وغيرهما، وأين الأعمال المسرحية العالمية المترجمة، فلقد تصلبت شرايين الحركة المسرحية فى مصر، ولذا لم يعد عجيبا أن نقرأ كل يوم ونسمع عن المسارح الخالدة التى يتم هدمها، بعدما فقدت دورها الحقيقى والمؤثر مثل مسارح الإسكندرية الثلاثة، مسرح السلام الخالد على الكورنيش، ومسرح الريفيرا، ومسرح الهمبرا بوسط المدينة . ثالثا: أين دور قصور الثقافة ومصر تمتلك مايقرب من ألف قصر للثقافة على مستوى الجمهورية، منها القصور النادرة والتاريخية فى القاهرةوالإسكندرية والمنصورة والمنيا وأسيوط وهى معطلة، مهجورة ومتجمدة إلا من أنشطة صيفية ضعيفة للنشء، أو أنشطة قائمة على فكرة العلاقات الشخصية، الأمر الذى دفع رموزنا الفكرية إلى إعادة الحياة والولع بالصالونات الأدبية من جديد مثل صالون الدكتور محمد عبدالمطلب الحائز على جائزة (الملك فيصل) هذا العام بمصر الجديدة، وصالون الدكتور عبدالناصر هلال الحاصل على جائزة الدولة فى الآداب بالجيزة، وهى صالونات تستميل جمهورها الثقافى من وحى جديتها، ومن مظاهر التنويع فى المناقشات والعروض والخيال الثقافى والفني، كذلك صالونات المفكرين العرب مثل صالون المفكر محمد عبده يماني، وصالون الشاعر السعودى الكبير محمد حسن فقي، وغيرهما. إن مصر الآن فى أشد الحاجة إلى عودة قوتها الناعمة ممثلة فى رموزها الفكرية والفنية للخروج من قيود أزماتها الاقتصادية، والاستغراق الفكرى فيها، ولنا فيما قامت به الدولة فى الستينيات المثل والقدوة، حينما تولى وزارة الثقافة الدكتور ثروت عكاشة الذى أعاد للثقافة المصرية بكامل فروعها حيويتها ونضارتها ونضجها، فأصبحت مصر فى عهده قبلة العرب جميعا فى عروضها الفكرية والمسرحية والسينمائية، وفى منظومة النشر للأدباء والمفكرين الكبار، وفى إعادة اكتشاف المواهب، التى أخرجت لنا العشرات من الأسماء الكبرى فيما بعد، المهم أن نتحرك ونتخلص من حالة الجمود الفكرى والفني، لتعود مصر من جديد قبلة العرب الفكرية والفنية والثقافية كما كانت طيلة القرن الفائت. د. بهاء حسب الله كلية الآداب جامعة حلوان