لا خلاف أننا نعيش منذ ثورة 25 يناير 2011 فى فترة خواء ثقافى عام إن صح التعبير، برغم تغيير خمسة وزراء على عرش وزارة الثقافة، والسبب فى ذلك يرجع لانشغال المناخ الفكرى العام بحالة الثورات العربية، وما ترتب عليها من أصداء سياسية وخلافية كبيرة، أوصلتنا فى النهاية إلى المحطات التى مررنا بها وتوابعها، والتى بتنا شركاء فيها، بقصد أو بغير قصد، حفاظا على أمننا القومي، وأمن أمتنا العربية نفسها، وما يجرى فى اليمن وسوريا والعراق وليبيا ليس ببعيد عنا، ولكن يبقى السؤال الأبرز: إلى متى سيظل المناخ الفكرى العام فى مصر مشغولا بحركة السياسة وأصدائها وخلافاتها التى لا تنتهي، ومتى نؤسس بشكل حضارى لمستقبلنا الثقافى على درجة من درجات الوعى والتمكين. إننى أذكر الجميع بفترة مشابهة مرت بها مصر فى ستينيات القرن الماضي، وعايشتها أجيالنا بوعى كامل وأقصد بها العداء الحقيقى مع إسرائيل ومن يدعمها من القوى الكبري، والتى كانت تقودها آنذاك الأمبراطورية البريطانية العنيدة وحلفاؤها، وكانت مصر تمر بفترة تجهيز الجيش وإعداده بمساعدة القوة السوفيتية الداعمة لنا، ورغم أن المناخ العام فى البلاد كان مشحونا بالعداء لليهود، والاستعداد للحرب والقتال، تماشيا مع نداء الزعيم جمال عبد الناصر: (سنقاتل إلى آخر جندى من رجالنا)، إلا أن الجو الثقافى العام، فى مصر كان على النقيض مشحونا بحركة ثرية من حركات الوعى العام، والفكرى المتراكم، ليس فقط لوجود الرموز الثقافية الكبري، أمثال العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور وغيرهم، ولا لوجود عباقرة الفن أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد، ولكن لاستشراء الوعى الجماهيرى النادر بين طبقات الشعب المختلفة، والحس الفنى الراقي، وكلنا يتذكر كيف جمع عبد الناصر بين أم كلثوم وعبد الوهاب فى جلسة خاصة بقصر عابدين سنة 1965 ليقنعهما بأن يشتركا معا فى عمل غنائى كبير، يحتضن أكبر قامتين فنيتين فى العالم العربي، لتخرج أم كلثوم علينا فى عام 1966 برائعتها (أنت عمري) على مسرح جامعة القاهرة بحضور عبد الناصر نفسه، ومجلس قيادة الثورة كاملا، ومردود هذا كله راجع للحس الثقافى والفنى الرائع، الذى لم تفسده السياسة وخلافاتها، كما يجرى الآن. وإذا عدنا إلى فترتنا الراهنة وفكرنا فى كيفية بناء مستقبلنا الثقافى فى هذه الفترة الدقيقة من تاريخنا السياسى والأمنى والفكرى العام، فإننا بحق فى حاجة لما يمكن أن نسميه (الاستراتيجية الواعية) لدعم منظومة العمل الثقافى فى مصر ولإخراجها من الوضع (الديكوري) الحالي، وهو الوضع الذى نرى فيه وزير الثقافة يفتتح مسرحا بعد ترميمه، أو يفتتح قصر ثقافة، أو دار سينما جديدة، وفى النهاية لا المسرح يقدم عملا مسرحيا مناسبا، ولا قصر الثقافة يستضيف ندوة كبري، ولا دار السينما تقدم عملا فنيا مقبولا. فالحل إذن لو صدقت النيات يتمثل فى خطوتين رئيسيتين، الأولى هي: إننا فى حاجة ملحة لمجابهة ثقافة بدأت بإرادتنا أو بغير إرادتنا تفرض نفسها علينا وعلى الساحة الثقافية ذاتها، وتأخذ نصيبا كبيرا من وقتنا، وأقصد بها (الثقافة الالكترونية) والمتمثلة فى ثقافة الانترنت، والفيس بوك، والمحمول، والعوالم الفضائية المفتوحة، ولمجابهة هذه الثقافة الغازية لا بديل عن منطق (العودة إلى الأصول) أى إلى الكتاب المنشور، فكلكم بلا شك تشاركوننى الرأى فى أن الأجيال الجديدة والتى باتت محظوظة عن أجيالنا فى استخدام وسائل التكنولوجيا المعاصرة بأيسر السبل، هى ذاتها الأجيال التى حرمت من القراءة لجيل العمالقة الكبار أمثال العقاد وطه حسين والمازنى ويحيى حقى وعبد الرحمن شكرى وإبراهيم ناجي، والتى كانت مؤلفاتهم وأعمالهم الأدبية تقرر علينا فى مراحل التعليم المختلفة طيلة عقدى الستينيات والسبعينيات، فأجيالنا درست عبقريات العقاد عبر مراحل التعليم المختلفة وغيرها، كذلك حرمت هذه الأجيال بطبيعة الحال من القراءة لمبدعى التراث الأدبى القديم أمثال الجاحظ وعبد الحميد الكاتب وأبى حيان التوحيدى وبديع الزمان الهمزانى وأبى العلاء وابن رشد وغيرهم، ولذلك لماذا لا تتبنى وزارة الثقافة بكافة هيئاتها مشروعا لإعادة طباعة هذه الأعمال الفكرية والأدبية الكبرى فى طبعات شعبية مدعمة، وصدقونى ستجد رواجا هائلا، خاصة إذا أخذت الدعاية الإعلامية المناسبة لها. والثانية: إذا كانت وزارة الثقافة تمتلك أكبر وأروع قصور الثقافة ومراكز الوعى على مستوى الجمهورية، والتى باتت مهجورة بنسبة كبيرة، فلماذا لا تضع لها استراتيجية ثقافية على المديين القريب والبعيد للاستفادة بها، من خلال استضافة كبار أدبائنا وشعرائنا ومفكرينا، وإقامة ندوات حقيقية كالتى عايشناها من قبل ولقاءات ثقافية ومؤتمرات كمؤتمر الشعر والرواية والفلسفة وعلوم الفكر المختلفة.. فقط هى فى حاجة إلى سياسة واعية تجذب المتلقى إلى ساحة الذوق الأدبى والفنى قبل أن تجف شرايين الإبداع فى عروق المصريين.. تحركوا أثابكم الله. د. بهاء حسب الله كلية الآداب جامعة حلوان