لاشك أن مصر الآن تمر بمرحلة بناء حياة سياسية جديدة تؤسس لمناخ ديمقراطي منتظر ومتوقع, وتخدمه بلا جدال مناخات اجتماعية وواقعية مستجدة, خاصة بعد الانتهاء من مشروع الدستور والاستفتاء عليه ولا خلاف علي أن هذا الحراك السياسي وما سيترتب عليه من حراك مجتمعي لن تكتمل بوادره ولا نتائجه إلا بإرساء منظومة ثقافية تتفاعل مع طبيعة المعني السياسي وبديهياته المجتمعية, ومنها فكرة رسم مشروع ثقافي مصري للفترة الراهنة, وما بعدها تعتمد علي استراتيجية الوعي, والنظرة بفكر مدروس ومنظم إلي المستقبل القريب والبعيد لهذه الأمة العريقة; الأمة المصرية, التي خلقت مفهوم الثقافة وأوجدت معناه, وحققت وظيفته وأهدافه منذ مطلع القرن العشرين علي وجه التحديد, إلي أن جرفتها تجارب الحكم السابقة وتحديدا منذ أكثر من ثلاثين عاما في ظروف متناقضة وملتبسة, كانت الحركة الثقافية فيها صدي لمرآة الحكم والحاكم, ولم تكن أبدا انعكاسا لتوجه الشارع أو لطبيعة المثقف الحقيقي, ويحسب لها فقط أنها سمحت لهوامش الحرية لأن تتحرك لتفرز لنا في النهاية تجارب أدبية وثقافية ذات طراز فريد, ونتاجات علي قدر عال من الوعي الأدبي والفني. والتكوين للمرحلة الجديدة يدفعنا إلي طرح هذا السؤال: ماذا نريد من الثقافة لنخدم وطننا الكبير, ونبنيه من جديد, خاصة بعدما تبين لنا أن الأزمة الحقيقية في تجارب الحكم السابقة.. هي أزمة ثقافة أو أزمة ثقافية من الطراز الأول, وهي التي جعلتنا أمام مؤسسات ثقافية مترهلة, غابت عنها بوصلة الواقع والمستقبل, ومحاور الأهداف, ولذلك وجدنا تراجعا في كل شيء, ولا نريد أن نقف كثيرا أمام أزمات المؤسسات الثقافية في السنوات الأخيرة, ومنابر الشر, وتراجع أدوار المؤسسات الثقافية والدينية والجامعية العملاقة, حتي إن جامعاتنا التي كانت في حقبة الستينيات في مصاف الجامعات الكبري والعملاقة قد تراجع ترتيبها بشكل ملحوظ علي المستويين الاقليمي والعالمي, لتتقدم علينا جامعات من غانا ونيجيريا وكينيا والفلبين وبعض الجامعات العربية في الخليج.. إلخ, إننا إذا أردنا أن نتقدم إلي الأمام في مسألة المشروع الثقافي علينا أن نخطو الخطوات التي خطاها من حوالي نصف قرن مؤسس مدرسة الثقافة المصرية المعاصرة الأستاذ ثروت عكاشة, الذي حاول من خلال منظومة البناء الثقافي أن يبني وطنا متميزا له شخصيته الفكرية والثقافية في محيطه الاقليمي والدولي, خاصة أننا في نطاق بلد خلاق, تمثل الحركة الثقافية فيه والابداعية سياساته الناعمة علي جميع المستويات, وهناك مئات الأسماء يعيشون بيننا, ويقدمون فنا لا يقل عن فنون العمالقة الكبار في مطلع القرن العشرين, ولكنهم في حاجة لمن يكتشفهم وينقب عن إبداعاتهم مثلما فعل ثروت عكاشة وفريقه, فقدم إلينا نتاجات الوجوه الجديدة في زمانه أمثال صلاح عبد الصبور ويحيي حقي وعبد الرحمن الشرقاوي وأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي ونازك الملائكة ومحمود حسن اسماعيل وعلي محمود طه ومحمد ابراهيم ابو سنة وبنت الشاطيء ونعمات احمد فؤاد وانيس منصور وزكي نجيب محمود وغيرهم العشرات والعشرات هذا إلي جانب المفكرين والمبدعين البارزين في زمنه, فنشر اعمال العقاد وطه حسين والحكيم والمازني وعبد الرحمن شكري وابراهيم ناجي ونجيب محفوظ ونزار قباني وغيرهم. إذن فالخطوة الأولي هي خطوة للنشر المعاصر تتبناها وزارة الثقافة وفروعها كالهيئة العامة لقصور الثقافة ومكتبة الأسرة وهيئة الكتاب للمبدعين والمفكرين الجدد من الشباب وغيرهم من الأجيال الأخري, ولأصحاب الرؤي النقدية والفكرية والفلسفية المعاصرة, من جميع المدارس الموجودة علي الساحة, وظني أن المواهب في مصر بالمئات, ولكنها في حاجة لمن يعيد اكتشافها من جديد, ويبحث عنها في القري والنجوع قبل المدن الكبيرة, والمحافظات الحضارية, كذلك للوجوه النقدية الشابة الواعدة التي لا تجد من ينشر إبداعاتها في نطاق النقد الأدبي والفكري, فإذا حققنا هذه الخطوة بفكر مدروس يؤمن أولا وأخيرا بأن الكتاب هو الأصل في منظومة الوعي الثقافي بعيدا عن المستحدثات الثقافية المعاصرة, كالانترنت والفضائيات المفتوحة فإننا نكون بذلك قد خطونا خطوات راسخة في المسألة الثقافية, سيكون لها أثرها في المستقبلين القريب والبعيد. أما الخطوة الثانية, فهي خطوة تنظر بالأساس إلي تراثنا الثقافي القديم, وتنتقي منه جواهره الابداعية التي هي في أمس الحاجة لقراءة جديدة من منظور الفكر والنقد المعاصر, فإبداعات العشرات من القدامي تحتاج إلي طباعتها من جديد لأجيال الشباب المعاصرة, بعد أن توقفت سلاسل( الذخائر) وسلاسل النشر التراثي بوزارة الثقافة وهيئة الكتاب, ثم إنها في حاجة إلي تقديمها في طبيعة تجذب الاجيال الجديدة التي تفتقد المعرفة الي جهود الجاحظ وابي العلاء وابن رشد وابن خلدون وابن حزم وغيرهم, والذين يعود الفضل إليهم جميعا في بناء منظومة الثقافة والفلسفة والوعي والأدب في تراثنا المجيد.. إننا بحق في حاجة إلي ثورة ثقافية جديدة تربط الحاضر بماضيه العريق. د. بهاء حسب الله كلية الآداب جامعة حلوان