وضع فوز «دونالد ترامب» فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية على منافسته الديمقراطية «هيلارى كلينتون» العديد من المفاهيم التى رافقت ظهور العولمة موضع الشك والتساؤل والنقد، وذلك من خلال تصريحاته ومداخلاته التليفزيونية وخطابه الذى دأب على ترويجه خلال الحملة الانتخابية، حيث لم تعد مفاهيم مثل «التعددية» و«تمكين المرأة» وحقوق الأقليات وحقوق المهاجرين والتسامح وحرية انتقال الأفراد والسلع ورءوس الأموال وما دون ذلك من المفاهيم والمفردات والمصطلحات التى أسهمت العولمة فى تعميمها وانتشارها عبر العالم كما كانت عليه قبل ترشح «ترامب» وفوزه، حتى بافتراض صحة تراجعه جزئيا عنها أو عن بعض هذه المفاهيم أو إعادة صياغتها بطريقة مختلفة تخفف من وقعها وفظاظتها عقب فوزه. كان تراجع هذه المفاهيم فى خطاب «ترامب» وتصريحاته يتم لمصلحة ترويج مفاهيم أخرى تناقض هذه المفاهيم مثل «الوطن» و«عظمة أمريكا» وإعادة الاعتبار للحدود وبناء الأسوار ومعاداة المهاجرين المكسيكيين وغيرهم من المنتمين لأعراق مختلفة غير العرق الأبيض والبشرة البيضاء وكذلك من المهاجرين غير الشرعيين والمسلمين المتطرفين وفضلا عن ذلك تؤكد هذه التصريحات مفهوم «الشعب الأصيل» فى مواجهة الدخلاء والغرباء والشعب الواحد فى مواجهة المكونات المختلفة ثقافيا وعرقيا فى بلاد تعرف بأنها أكبر بوتقة صهر للأعراق والأجناس فى التاريخ الحديث والمعاصر، أى الولاياتالمتحدةالأمريكية. يذكرنا خطاب «ترامب» وتصريحاته فى أثناء الحملة الانتخابية بخطاب زعيم الجبهة الوطنية وهو حزب اليمين المتطرف الفرنسى السابق «جون مارى لوبن» الذى كان يردد دائما «أنه يقول بصوت عال ما يفكر فيه الفرنسيون بصوت منخفض» فى معرض تبريره لمعاداة المهاجرين والأجانب وتحميل هؤلاء عبء تفاقم البطالة والتأمين الصحى وتهديد الهوية الوطنية الفرنسية ومناداته بمفهوم الأولوية الوطنية أى منح المواطنين الفرنسيين الأولوية على ما عداهم من الأجانب حتى لو حملوا الجنسية الفرنسية فى العمل والتعليم. أغلب المفردات والمفاهيم التى اشتمل عليها خطاب ترامب وتصريحاته، تكاد تكون نسخة متطابقة مع مفاهيم ومفردات خطاب اليمين المتطرف الأوروبى والشعبويين الأوروبيين فى مختلف بلدان القارة الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا بيرلسكونى والمجر وحتى بعض دول الشمال الأوروبى الذين يبحثون عن الشعب الأصيل والحقيقى والعادى والواحد المتوحد فى الثقافة والمولد والنشأة والقيم، صحيح أن اليمين المتطرف والشعبوى فى أوروبا قد سبق بعقود «خطاب ترامب» والقيم التى يمثلها ولكن ذلك لا يقلل من مفاجأة تبلور ظاهرة «ترامب الأمريكية» بل يمنحها أبعادا جديدة ويضفى عليها أهمية وخطورة مضاعفة، بسبب الثقل الاقتصادى والسياسى والثقافى والدولى للولايات المتحدةالأمريكية، منذ ظهورها على مسرح السياسة الدولية وتأثيرها فى النظام الدولى والعالمى. ولا شك أن هذا التشابك والتداخل بين ظاهرة «ترامب» الأمريكية وبين مثيلاتها فى أوروبا كما أشرنا فى فرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا وغيرها يثير التساؤل حول ما إذا كانت «ظاهرة ترامب» أمريكية أى تخص أمريكا فحسب أم أنها ظاهرة عالمية وكونية ودولية والإجابة المرجحة فى تقديرى هو أن ظاهرة ترامب أمريكية بقدر ما هى كونية ودولية، فهى أمريكية لأن هذه الظاهرة خاطبت قطاعا كبيرا من الناخبين الأمريكيين المهمشين من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى من ذوى الياقات الزرقاء أولئك الذين تأثروا سلبيا من جراء العولمة وأصبحوا ضحايا التوزيع اللا متساو لثمار العولمة وعوائدها، وكذلك شرائح عديدة من المواطنين الأمريكيين الذين تأثروا بطرق مختلفة من توقف بعض الصناعات وانتقالها إلى حيث التكلفة المنخفضة للعمالة، بالإضافة إلى شرائح أخرى من المواطنين يشعرون بأن المؤسسة السياسية الحاكمة لا تعبر عنهم ولا تنصت إلى مطالبهم فهم مجهولون بالنسبة لها، وجميع هؤلاء صوتوا بشكل انتقامى من جانب وبحثا عن البديل من جانب آخر. وهكذا فإن ظاهرة «ترامب» تستمد جذورها وتقاليدها من داخل المجتمع الأمريكى الذى تتزايد فيه معدلات اللا مساواة مقارنة بالعديد من الدول الأوروبية، وفى نفس الوقت تتوافق وتستلهم روح العودة الأوروبية للأيديولوجيات المنغلقة التى تتمحور حول الحدود والعزلة والأولوية الوطنية ومناهضة الدخلاء والغرباء والوافدين والبحث المثالى عن الشعب الأصيل والواحد والحقيقى والعادى وبناء على ذلك فإن ظاهرة ترامب أمريكية وعالمية سبقها ظهور اليمين الشعبوى واليمين المتطرف فى العديد من الدول الأوروبية وتبلور الاتجاه إلى العزلة والحدود ورفض الاستمرار فى البقاء فى كيانات تتجاوز حدود الدولة والوطن كما حدث فى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. ولأن الولاياتالمتحدةالأمريكية ليست كبقية دول العالم من حيث أهميتها وثقلها الاقتصادى والعسكرى والمالى والتكنولوجى والعلمى ودورها فى السياسة العالمية والدولية، فإن ظاهرة ترامب تصبح عالمية بمعنيين: الأول لأنها أمريكية وما يعنيه ذلك من انتشار تأثيرها بسبب وزن الولاياتالمتحدةالأمريكية، أما المعنى الثانى فهو أى ظاهرة ترامب تعنى تتويجا لهذه الرؤى والتيارات فى السياسة العالمية ودفعها إلى الصدارة ورفع الحواجز والعراقيل إن وجدت وتبقى بعد ذلك كيفية التعامل العربى مع هذه الظاهرة والذى يتمثل فى تقديرى فى منهج التعامل البراجماتى أى القبول والتعامل مع الجانب الذى يهمنا وهو هنا رفض الإسلام السياسى ومحاربة الإرهاب والتطرف والموقف من سوريا وذلك لا يعنى بالضرورة القبول بكل مواقفه إزاء الأقليات والمرأة والمهاجرين والإسلام، ولا ينطوى ذلك بالضرورة على أى انتهازية من نوع ما. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد;