سلطت الانتخابات الأمريكية الضوء على خطاب سياسى يشهده الغرب منذ عدة سنوات قوامه انبعاث النظرة العنصرية والتمييز العرقى والدينى داخل المجموعات التى يتكون منها كل بلد على حدة. ولعل أحد العوامل التى ساعدت الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب فى الفوز بالانتخابات هو دأبه على خطاب عنصرى فج بدأ بالهجوم على المسلمين، والوعد بمنع دخول جدد منهم إلى أمريكا والتهديد بطرد القاطنين على الأرض الأمريكية، وتضاف إلى ذلك حملته على المهاجرين من البلاد العربية وإفريقيا والمكسيك وذوى الأصول الاسبانية والتشديد على أهمية العنصر الأبيض وتفوقه مقابل السود، وأجج هذا الخطاب شعورا قوميا أمريكيا ضد غير الأصليين من السكان الذين يعتبرونهم «العنصر الأبيض» برغم أن الهنود هم السكان الأصليون الذين أبادهم البيض منذ ما يقرب من ثلاثة قرون !! ولم يكن خطاب ترامب لينجح فى استقطاب هذا العدد من المقترعين لولا أنه ضرب على وتر التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التى تصيب المجتمع الأمريكى فتزيد عدد الفقراء وترفع نسب المهمشين إلى مستويات عليا، وقد زور هذا الخطاب أصل المشكلات الاجتماعية وأبعدها عن أسبابها الداخلية الحقيقية المتصلة بطبيعة النظام الرأسمالى الأمريكى ونظام العولمة الذى تصدره أمريكا خارج حدودها وتلقيه على عاتق المهاجرين وغير الأمريكيين وتصنفهم بأنهم السبب فى تفاقم أزمات هؤلاء الأمريكيين. ومن المعروف أن سلوك الناخب الأمريكى الذى يذهب إلى صندوق الاقتراع يختار مرشحه وفق المبلغ الموجود فى جيبه وهاجسه الاقتصادى لذلك سنجد دونالد ترامب قد تمحور فى اجتماعاته الشعبية فى الولايات المأزومة اقتصاديا على هذا الجانب من حياة الأمريكيين، وكان من السهل عليه أن يجتذب المحتجين على سياسات العولمة التى كانت هيلارى كلينتون مرشحتها بامتياز وداعية لها بوضوح، بينما لعب ترامب على وتر الوطنية الأمريكية والحماية وصعد فوق خراب مدن أمريكية أفرغتها الأزمات الاقتصادية من مشاريعها وسكانها وركب ظهر ريف قلق غير واثق من مستقبله ليستقطب ضحايا العولمة بصيغتها الأمريكية وهم أولئك الضعفاء والمهمشين وكذلك مجمع الصناعات الوطنية الخائف من غزو الصناعات العالمية واتساع حصتها فى الاقتصاد الأمريكي، وينضم فوز ترامب إلى انتصارات أخرى حققها دعاة الوطنية والمتحفظون من الليبرالية والانفتاح بصيغته الأكثر اندفاعا فى كثير من بقاع العالم ببريطانيا من خلال تأييد غالبية البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبى أو فى انتصار أحزاب وحركات وطنية ألمانية محافظة ويمينية فى الانتخابات المحلية على حزب المستشارة انجيلا ميركل وفى ارتفاع نجم اليمين الفرنسى فى كل الاستطلاعات الأخيرة إلى نزعات يمينية متنامية بدول شمال أوروبا حتى تلك المعروفة بتسامحها وانفتاحها على اللاجئين والمهاجرين، ولاشك أن التغير فى تلك السياسات رد فعل طبيعى على ما أفضت إليه العولمة حتى هذه المرحلة التى نحن بصددها فهى لم تؤسس لجريان فى السلع وخطوط الإنتاج ورأس المال فحسب بل أفضت إلى تعميق الفقر والفوارق الاجتماعية والاجحاف والتمييز وتسريع الهجرة وتغيير الديموجرافيا فى كثير من المواقع بالإضافة إلى دكها حصون السيادة الوطنية وأنظمة الحماية أى أن العولمة لم تحسن الأوضاع فى دول الجنوب بقدر ما سرعت فى هجرة سكانها نحو الشمال والدول الغنية. إن الولاياتالمتحدة غير محصنة البتة أمام هذه العواصف والتأثيرات فى العولمة، وها هو ترامب يحصد آثارها على المجتمع الأمريكى كما حصدها من قبله مؤيدو انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى، والحقيقة أن الخوف من الوضع الراهن غير الواضح والمستقبل المهزوز قد حرك فئات أمريكية إلى المحور الذى ترأسه ترامب وما زرعه ترامب من فكر وثقافة ليس من السهل محوه من ذاكرة الأمريكيين فخطابه بالإضافة إلى الجانب السياسى المباشر فيه كان خطابا ملتزما بمقولة «صراع الحضارات» الذى بشر به برنارد لويس وأكمل منظومته صموئيل هانتنجتن ويذكرنا فوز ترامب بالربع الأول من القرن العشرين الذى شهد موجة تطرف قومى فى أوروبا خصوصا فى ألمانيا وكان سببا فى صعود النازية والفاشية وتفجير الحرب العالمية الثانية ويمكن القول إن الديمقراطية فى شقها الانتخابى ليست ضمانا لمنع سقوط قوى معادية لمنطق الديمقراطية نفسها وللتذكير فقد أتى هتلر وموسيلينى عبر انتخابات كاسحة شعبيا لمصلحتهما ولعب كلاهما على إحياء النعرة القومية واستغلال الأزمة الاقتصادية فى ذلك الوقت، على الرغم من أنهما كانا من أشد المعادين للديمقراطية ولذلك لن يكون غريبا أن تكتسح لاحقا الأحزاب المتطرفة والعنصرية الانتخابات فى أوروبا وتنتج أنظمة تحمل فى جوفها عنفا قائما على التمييز العرقى والدينى وتمهد السبيل لاندلاع حروب أهلية داخل البلد نفسه أو بين بلدان مختلفة.. لقد انهى المخرج الأمريكى مايكل مور مقالا غاضبا له عن الانتخابات الأمريكية قبل إعلان نتيجتها بعبارة وجهها إلى ناخبى ترامب قائلا: أردتم أن توجهوا رسالة غاضبة للنظام السائد.. الرسالة محقة، ومبررة.. لقد وصلت مع اقتراعكم لكنكم قد انتخبتم آخر رئيس للولايات المتحدةالأمريكية!! د. عماد إسماعيل