ذهبت إلى مؤتمر عن النهضة والتنوير فى مدينة عمان فى المملكة الأردنية، فى الفترة من 27 إلى 28 سبتمبر الحالى، وذلك بتمويل مشترك ما بين مؤسستى سلطان بن على العويس الثقافية ومؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية. وكلتا المؤسستين لهما نشاط محمود فى خدمة الثقافة العربية، وعلاقتى بكل منهما قديمة ووثيقة، خصوصا لأنى أؤمن بالأهداف الأساسية لكلتا المؤسستين وتربطنى صداقة فكرية عميقة وراسخة مع القائمين عليهما، ولذلك لم أتردد فى قبول الدعوة وقمت بإعداد بحث عن طه حسين وصدمته للمجتمع التقليدى فى مصر والوطن العربى بأفكاره التأسيسية الجديدة التى لم تكن منفصلة عن حلمه أن يرى فى بلاده من التقدم والازدهار العلمى ما رآه فى فرنسا التى كان قد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون فيها، وعاد إلى جامعته المصرية بعد ذلك، ويبدأ العمل مدرسا للتاريخ فى أولى الكليات التى أنشأتها الجامعة المصرية الأهلية، وهى كلية الآداب التى لا أزال أشرف بالانتماء إليها. وكان وصولى إلى عمان فى اليوم التالى لاغتيال المثقف الأردنى البارز «ناهض حتر». ولم يكن من الغريب، وأنا أطالع فى الطائرة مقالات المثقفين الأردنيين فى إدانة هذا الاغتيال فى اليوم التالى له، أن أرى بعينى الأوساط الثقافية كلها تتضافر فى إدانة اغتيال هذا المثقف وترفض بشدة ما قد ينبئ عنه من تمييز طائفى، خصوصا أن «ناهض حتر» مسيحى الديانة، وأنه كان يسخر فى رسم نقله (أو شيره) عن داعشى يدعو إلهه فيما يندى له الجبين. والحق أن سخرية «ناهض حتر» من هذا الرسم لم تكن هى التى لفتت انتباهى، بل هذه الحساسية الدينية التى نشأت لدى الكثير من المسلمين الذين أصيبوا بعدوى التعصب ونالت منهم جراثيم التمييز الدينى فى الوقت نفسه، فالداعشيون ليسوا أعداء لنا نحن المسلمين فحسب، وإنما هم أعداء للحضارة الإنسانية بكل أديانها وقومياتها وطوائفها. ولا شك أن صعود التيارات الدينية المتعصبة، خصوصا التيارات الإسلامية السلفية منذ السبعينيات، هو الذى أدى إلى هذه الطامة الكبرى التى لا نزال نعانى منها إلى الآن. وللأسف فإن الحكومات العربية لا تقف مع المستنيرين فى مواجهة تيارات التعصب التى يتبناها الفكر السلفى، وإنما لاتزال تحرص على الوصل بين مطامحها السياسية ووجود التيارات السلفية المتشددة التى أصبحت خطرا يهدد هذه الدول نفسها، ولذلك لم أدهش عندما عرفت أن عددا من المتعصبين قد رفعوا على «ناهض حتر» قضية تتهمه بتهمة «ازدراء الأديان» التى لا نزال ننادى بإلغائها من القانون المصرى. وقد نجحوا فى ذلك بالفعل، وتحددت جلسة للقضاء كى يفصل فى هذه التهمة الموجهة له. وفى أثناء ذهاب «ناهض حتر» إلى المحكمة، تصدى له مهندس سلفى أردنى وأرداه قتيلا بخمس رصاصات قضت على الناشط الثقافى والسياسى على الفور، وأصيبت الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية فى الأردن بهزة شديدة، واستنكر الجميع المأساة، ولكن فات الجميع أن السبب الأول لهذه المأساة هو هذه المادة القانونية الغريبة غير الواضحة ولا المحددة، والتى تسمى «ازدراء الأديان»، والتى كان من نتيجتها بلا شك اغتيال الشهيد «ناهض حتر» الذى سقط قتيلا مضرجا بدمائه أمام مقر المحكمة التى كان ذاهبا إليها ليتلقى الحكم عليه فى هذه التهمة التى يحتج المثقفون جميعا على وجودها فى القانون المصرى، قبل أن يحتج المثقفون الأردنيون على وجودها فى القانون الأردنى. ولا شك أننى رأيت فى استشهاد «ناهض حتر» امتدادا لشهداء الفكر والاستنارة على امتداد الوطن العربى، ابتداء من عبد القادر علولة وعشرات غيره فى الجزائر مرورا بفرج فودة وعشرات مثله فى مصر. وها نحن فى مصر-اليوم- لا نزال نطالب بأعلى صوت بإلغاء هذا القانون المشبوه عن ازدراء الأديان الذى بسببه لا يزال السجن يحول بيننا وبين كتابات وأفكار وإبداعات كل من أحمد ناجى وإسلام بحيرى الذى مرّ موعد الإفراج الشرطى عنه، ولا أظن أن هذا الإفراج سوف يتم لتغلغل النفوذ السلفى بين تروس الدولة المصرية البارعة فى تعطيل أحكام القانون لحساب من يفيد من عرقلتها، وهم جماعات السلفيين التى تجد فى البيروقراطية المصرية والترهل الحكومى خير معين لها. ولذلك عندما سألنى بعض الصحفيين فى عمان عن ما إذا كان «ناهض حتر» هو آخر الشهداء لحرية الرأى والتفكير، أجبته قائلا: «إنه لن يكون الشهيد الأخير، فالقائمة الجهنمية سوف تطول غيره من المفكرين والمثقفين المستنيرين لا لشىء إلا لكى تطبق كوابيس الإظلام على العقول، وتقضى على احتمال تجديد الفكر الدينى، وهى المهمة الكبرى التى يواجهها المجتمع المصرى وغيره من المجتمعات العربية مواجهة مصيرية، فإما أن نمضى فى طريق المستقبل الواعد، وإما أن نتقهقر إلى الوراء كى نعود إلى عصور الجهالة والتخلف والإظلام». والحق أننى متشائم ولا أخجل من إعلان تشاؤمى بخصوص مستقبل الحريات فى مجتمعاتنا التى تقمع هذه الحريات، والتى لا تزال إلى اليوم رافضة لإعمال مادة الدستور التى تنص صراحة على أنه لا عقوبة ماسة بالحريات فيما يتصل بقضايا الفكر والإبداع والنشر، ولذلك يقضى واحد من شباب الاستنارة مثل إسلام بحيرى أيامه فى السجن متهما بهذه التهمة البغيضة التى اسمها «ازدراء الأديان». وهى تهمة لا أعرف لها معنى ولا تحديدا جامعا مانعا كما يقول المناطقة، وإنما هى تهمة مهلهلة سيالة مائعة الدلالة يمكن أن يتهم بها أىُّ أحد أىَّ أحد. والكارثة الحقيقية أنها تهمة تناقض الدستور المصرى الذى ذهبنا إلى صناديق الانتخابات وصدقنا عليه، ولكن مجلس النواب لم يصادق عليه ويجعل منه قوانين نافذة إلى الآن. وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن مستقبل الدولة المدنية، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى مجلس النواب أو حتى على مستوى القوى المدنية التى لا تزال موجودة فى مصر، ولكنها ضعيفة إلى أبعد حد. ومضت أيامى القليلة فى الأردن بين أبحاث المؤتمر التى سوف أعود إليها والمناقشات التى لم تنقطع عن مستقبل الدولة المدنية فى الوطن العربى. والحق أنه لم يكن هناك فاصل كبير بين الأمرين، فأغلب أبحاث المؤتمر كان عن التنوير والنهضة، ومن ثم غياب التنوير وفشل النهضة، وكلها أمور لا تنفصل إطلاقا عن مستقبل الدولة المدنية فى العالم العربى. ولا أزال أعجب من مصير دعوات تجديد الخطاب الدينى الذى نادى به السيد الرئيس فى مصر ومن المحاولات المتتابعة التى قام بها مفكرون متعددون. ولكن المأساة أن هذه الدعوات لم تقم الدولة، سواء فى مصر أو فى غيرها من الأقطار العربية بتبنيها تبنيا حاسما، ومن ثم صياغة استراتيچياتها القومية والوطنية على أساس منها، بحيث يتحول تجديد الخطاب الدينى إلى تجديد الخطاب الثقافى بعامة فى كل مجال من مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والصناعية والعلمية. وأعتقد أن هذه هى أزمة العرب الذين ليس لديهم إلى اليوم حكم ديموقراطى بكل معنى الكلمة، ولا تعددية سياسية بالمعنى الصحيح، ولا وعيا مدنيا بالمعنى الكامل، ولا تعليما حديثا يضعنا فى مصاف الدول المتقدمة، فقد تحدث عبد الرحمن الكواكبى عن طبائع الاستبداد فى مطلع القرن، وعدّد منها الاستبداد السياسى الذى يصاحبه خطاب دينى منافق للاستبداد وحليف له ومعين عليه، عملا بالمأثور القديم الذى يرى أن الدين بالملك يبقى وأن الملك بالدين يقوى، ولذلك نرى رجال الدين أو الذين يدّعون الحديث باسم الدين يتحولون بدعم من الدولة إلى سلطة دينية أشبه بمحاكم تفتيش، تحكم بالكفر على هذا وبعدم الكفر على ذاك، والنتيجة هى خوف المثقفين والمفكرين من الاقتراب من منطقة الدين حتى لا يلقوا مصير فرج فودة أو ناهض حتر فيصمتون عن ما لا ينبغى عليهم السكوت عنه. وتتزايد مساحة المسكوت عنه تدريجيا مع الوقت وهو أمر يلازمه- خصوصا مع الفقر والأزمات الاقتصادية- إهمال التعليم وانحدار مستواه إلى الحد الذى ينشر الجهالة بين الأجيال الجديدة، والطاعة والقبول بالأمر الواقع على مستوى العقول، فتتقبل الأمم طبائع الاستبداد التى تهبط من الأعلى، حيث السلطة السياسية والسلطة الدينية إلى الأدنى، حيث جماهير الشعب التى تصيبها أيضا طبائع الاستبداد، فتلقى المصير المظلم والهوان بمعانيه الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية، كالجهالة بمعانيها التى تفرخ الأفكار الدينية لأمثال داعش وغيرها من جماعات الإرهاب التى لا تزال تعيث فسادا فى الأرض، وستظل تعيث فسادا، ما ظل يعينها فى ذلك قوانين بالية مهترئة، مثل قانون ازدراء الأديان وإبطال الدساتير التى تنص على أنه لا عقوبات سالبة للحريات، فتتعقد المأساة ويسقط شهداء حرية الفكر والإبداع واحدا بعد الآخر، ابتداء من عبد القادر علولة الجزائرى وليس انتهاء بناهض حتر الأردنى وما بينهما، ولا يمكن أن ننسى –فى هذا السياق- ما جرى لنصر حامد أبو زيد أو لنجيب محفوظ أو لغيرهما فى السلسلة الدموية الإرهابية التى يبدو أنها لن تنتهى، إلا إذا أدركنا أهمية الثورة الثقافية الموازية للثورة فى الفكر الدينى وغير المنفصلة عن الثورة الديموقراطية التى ينبغى أن تعم العالم العربى من أقصى مشرقه إلى أقصى مغربه. اللهم ما إنى قد بلغت، اللهم فاشهد. لمزيد من مقالات جابر عصفور