الخوف من الرأى الآخر ومن الحوار الحر الطليق من القيود، بات يشكل رهاباً لدى بعض مدارس الفكر والعمل السياسى فى الإقليم العربي، ولم يعد مشكلة تواجه النخب السياسية الحاكمة التى تضع القيود والضوابط على حرية الفكر بوصفها الحرية الأم للحريات العامة جميعها، لأنها تخشى من الأفكار النقدية والرؤى غير المألوفة، وتتحسس مسدساتها - وفق عبارة جوبلز النازى الشهيرة-، وإنما هراوات الجند والعربات المصفحة، وأجهزة إعلامها، ومؤسساتها الدينية الرسمية، خشية ورعباً من الكلمة الحرة الساعية لكشف الفساد والخلط فى الرؤى والفشل فى السياسات، والتى تعرى غياب الكفاءة، والكسل السياسى والعقلي! لم تعد المخاطر المحدقة بالعقل العربى رهينة سلطاته السياسية والقمعية والدينية التسلطية، وإنما أصبحت حالة شبه عامة، حيث تتحالف بعض الأنظمة الحاكمة والسلطات الدينية الرسمية، وبعض دعاة الطرق- بتعبير العميد د. طه حسين-، وشرائح اجتماعية عريضة وجماعات دينية سياسية ضد العقل الحر، والخطاب النقدي. نعم تحالفات واسعة من القوى المعارضة لحريات العقل والفكر ومعها المؤسسات التعليمية ومناهجها النقلية التى تبث فى عقلية الناشئة والطلاب تمجيد القديم، وموروثاته، وتعتبره النموذج الذهبى والمثالى الذى يجب احتزاؤه، وأن منظومات القيم التقليدية القديمة هى الأكثر نقاء وتعبيراً عن الدين وأن المستقبل يكمن فى هذا الماضى الذهبي. بيئة كارهة للفكر النقدي، ولا تجد الأمان والسكينة إلا فى مألوف ما عهدته من مرويات وسرديات بل وبعض الأساطير الوضعية التى نسجت من أخيلة وأعراف اجتماعية، تخشى الخلاف وتنظر بريبة إلى المختلف، وخوف من أفكاره. هذه البيئة المترعة بالكراهية للأفكار المغايرة والرؤى والخطابات النقدية، ساعد على تشكيلها بنية اجتماعية لا تزال تقودها قيم الإجماع، ورفض الاختلاف أو عدم الترحيب به وبتجلياته. ثمة دور خطير لعبته بعض الخطابات الدينية الدعوية والافتائية من بعض الغلاة الذين رفعوا رايات التكفير للمخالف، وامتد ذلك إلى الآخر الديني، وإلى المغايرين لآرائهم وخطاباتهم من المسلمين كأفراد أو جماعات، على نحو أصبح جزءاً من بناء مكانتهم فى المجال الديني. الأخطر أن خطابات التكفير العقدى والدينى لغيرهم من المسلمين، أو من الأديان الأخرى أياً كانت، لم تعد فقط محضُ آراء وأحكام على خطورتها الشديدة، وإنما تحولت إلى أيديولوجيا لبعض الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، وإلى إحدى أدواتها القمعية الرمزية الجاذبة لبعض الشباب ممن انخرطوا فى بنياتها التنظيمية، وأصبحوا أدوات لها فى اغتيال الأفكار، والذين يطرحونها عنوة واقتداراً، كما حدث فى اغتيال فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ ومكرم محمد أحمد، وقتل محمد البراهمى وشكرى بلعيد فى تونس، وأخيراً الكاتب الأردنى ناهض حتر أحد مسيحيى شرق الأردن وعشائرهم العربية العريقة منذ ما قبل الإسلام، وذلك لأنه نشر كاريكاتيرا لم يرسمه على صفحته بأحد مواقع التواصل الاجتماعى -الفيسبوك- بعنوان «رب الدواعش» وأثار ضجة واسعة واعتبر مسيئاً للذات الإلهية، ثم حذفه بعد أن قال إنه «يسخر من الإرهابيين وتصورهم للرب والجنة، ولا يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد، بل هو تنزيه لمفهوم الألوهة عما يروجه الإرهابيون». وقدم للمحاكمة بتهمة «إثارة النعرات «المذهبية» و«إهانة المعتقد الديني» وتم حبسه احتياطياً وأفرج عنه بعد أسبوعين، ثم تم اغتياله أمام قصر العدل وسط العاصمة عمان. القاتل قال فى التحقيقات الأولية إنه لم يكن على معرفة سابقة بالكاتب قبل إعادة نشر الكاريكاتير على الفيسبوك، وقام بعدها بالبحث عن صوره بالإنترنت للتعرف عليه ومعرفة موعد المحاكمة المقرر، وأطلق عليه رصاصات الموت. القاتل - رياض إسماعيل عبد الله من مواليد 1967 ويحمل شهادة فى هندسة الميكانيكا- ينتمى إلى الفكر السلفى الجهادى وحزب التحرير، وكان يعمل إماماً بأحد المساجد ثم فصل من عمله «لتطاوله على مقامات عليا» وسافر سابقاً إلى سوريا،! الخطير أن هناك تيارا على مواقع التواصل الاجتماعى يرحب بهذا الاغتيال، وهو ما يعنى تمدد بيئة الأفكار السلفية والداعشية داخل بعض الفئات. خطورة حادثة الاغتيال هى هذا الضيق والكراهية للآراء النقدية المختلفة أياً كان رأى الآخرين فيها، وعدم احترام قانون الدولة وأجهزة العدالة فيها، وسعى بعضهم لتطبيق آرائه عنوة وبالاغتيال السياسى الدينى لكاتب مسيحى الديانة ويسارى الاتجاه، ومن ذوى النزعة الأردنية العشائرية المتشددة، بل وعراب لها. كانت آراء ناهض حتر مثيرة للجدل والسجال والصخب سواء من موقفه المؤيد لحزب الله، أو من الأزمة السورية، على نحو أدى إلى خصومة، مع بعض رفاقه وأصدقائه، والكثير من القوى السياسية، إلا أن الخلاف حول قضايا الهوية والوطنية الأردنية، أو القضايا القومية هو محضُ رأى وموقف، إلا أن ما أبداه من آراء سجالية وحادة كان يُرد عليها ويتم نقدها والأسس التى تقوم عليها، لا اغتياله أمام المحكمة صبيحة يوم محاكمته! إن اغتيال ناهض حتر يشكل علامة خطيرة على حريات الفكر والتعبير فى العالم العربي، ومن ثم على الثقافات العربية. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح