أعرف أنك سوف تندهش من رسالتي، فربما لم تصادفك رسالة مثلها من قبل، لكنى رأيت أن أعرضها عليك عسى أن تساعدنى على الخلاص من الكابوس الجاثم فوق صدرى، وما أكتبه إليك جزء بسيط من مأساة أعانيها منذ أن وعيت على الدنيا وحتى الآن، فأنا رجل تجاوزت سن الستين بقليل، وعملت مدرسا بالتربية والتعليم عقب تخرجى من الجامعة، وترتيبى قبل الأخير بين سبعة أشقاء «أربع بنات وثلاثة ذكور»، وعشنا فى كنف أب كان ملاكا بين البشر، يتميز بالحنان والخلق الرفيع والتواضع الجم، والكرم وبر الوالدين، وكل الصفات النبيلة، أما أمنا فعكس ذلك تماما، فلقد تملكها حب السيطرة والتسلط، ودأبت على محو شخصية كل من تتعامل معه، حتى نحن أولادها أهانتنا وأذلتنا، وحقرت من شأننا، ولم نسلم من ضربها المبرح لأتفه الأسباب، ولا أنسى أبدا أختى التى لسعتها بالنار لأنها تأخرت فى الكلية نصف ساعة، إذ تجمعنا حولها، وأبعدناها عنها بصعوبة بالغة، وسط صرخات أختى التى لم ترتكب إثما ولا جريرة، وعندما تجرأت إحدى شقيقاتى وردت عليها نالتها علقة ساخنة، وكوتها بالنار فى ذراعها، ولم تمح السنوات أثر هذه الحروق التى تشهد على جبروت أمى، وظللنا مجرد أدوات لتنفيذ رغباتها. «اذهب إلى فلان، وقل له كذا، لاتتعامل مع هذا الشخص، فلان يجب أن نحبه ونتعامل معه»، سلسلة طويلة من الاملاءات اليومية التى نتلقاها وننفذها فى صمت، ولا تسألنى عن شخصياتنا، فلقد محت تماما شخصية كل من تعامل معها، وذاق أبى الأمرين منها. فهى صاحبة القرار فى كل أمورنا، فإذا اقترح شيئا أو أبدى رأيه فى موقف، فهو رأى فاسد وباطل، ولا يناله من اقتراحه سوى السخرية والاستهزاء، وعندما تتكلم يسكت الجميع، وإلا فإنها تقيم الدنيا ولا تقعدها. ولكى تحكم سيطرتها التامة علينا، استعانت بأشقائها فهى من إحدى محافظات الوجه البحري، وتعيش أسرتها هناك، وأبى من القاهرة، ونسكن فى أحد الأحياء بها، وكلما أنهى أحدهم دراسته يأتى الينا ويقيم معنا، إلى أن يجد عملا ومسكنا مستقلا، وتراوحت إقامة كل منهم فى بيتنا مابين خمس وسبع سنوات وخلال هذه المدة الطويلة تخدمهم أخواتى وتلبين مطالبهم، وتتولين كل أمورهم من ترتيب الغرفة إلى إعداد الطعام، وكى الملابس، وصارت لهم الكلمة العليا فى المنزل، يأمروننا بما يريدون، ويفعلون ما يشاءون، وساروا على دربها بالتقليل من شأننا، وإضعاف عزيمتنا، وضربنا بلا مبرر، فإذا تجرأنا وشكونا إليها ما يفعلونه بنا، فإنها تزيد عنفها ضدنا، وليس لنا مصير لديها سوى الضرب والإهانة، وهم لهم العزة والكرامة، ولم ينج أحد من هذه المهانة سواء منها أو من أخوتها سوى شقيقنا الأكبر، فهو فى نظرها المتفوق لأنه دخل كلية الهندسة، برغم أن إحدى شقيقاتى دخلت الكلية نفسها، لكنها رأت أنه كل شيء بالنسبة لها فمصير البنت كما تراه الى بيت زوجها، وعندما تذهب الى بلدتها فى أى مناسبة فإنها تتباهى به، وتقول عنه شعرا، ولم تعد ترى فى الدنيا غيره، فحلّ محل الجميع بمن فيهم أبي، وقد لا تصدق كلامى أننا شاهدناه أكثر من مرة فى وضع مشين معها، فأصابتنا حالة ذهول وهلع، وطار النوم من أعيننا، وتحولت حياتنا الى نكد دائم، لكننا كتمنا هذه الفضيحة داخلنا، ولم نبح بها لأبينا خوفا عليه من الصدمة القاتلة، وحاولنا أن نلفت نظرها من بعيد الى الجريمة التى ترتكبها فى حقنا وحقها وحق أبي، وأن ما تفعله حرام وسوف تلقى عذابا أليما يوم القيامة، فصاحت فينا، وكذبتنا، وهددتنا بالطرد من البيت إذا نطقنا بأى كلمة، وعلى هذا النحو استمرت حياتنا معها. وقد تسألنى: أين أبوك من تصرفاتها التى تنبئ بأنها غير «سوية»، ولماذا تحمل كل هذا العذاب، ولم يطلقها، فيسترح من عذابها، وتستريحوا من غطرستها؟ فأجيبك بأن أبى كان يعمل فى أحد مصانع القطاع الخاص، ويظل فى عمله أكثر من ثمانى عشرة ساعة يوميا، ويعود منهك القوي، فينام على الفور، ولم يكن لديه وقت لمناقشتها أو الحديث معها، وكان كل همه المحافظة على صورتنا العامة وعدم الخروج على تقاليد عائلتنا التى تمنع الطلاق بل وتجرمه، ولعل ذلك هو ما جعل والدتنا تتمادى فى ظلمها لنا، ولم تكن تعنيها صورة كل أخت من أخواتى أمام أهل زوجها، فكانت تخرج من البيت ذليلة منكسرة، إذ أنها لم تساعد أيا منهن، ولذلك فإن من يخرج من البيت لا يريد العودة إليه، لا بنت، ولا ولد، وترقبنا جميعا سرعة الخلاص منها، وكفانا ما لاقيناه منها من كسر نفوسنا وإذلالنا، وخلا البيت عليها هى وأبي، فمارست سلطانها عليه إلى أن مات من الهم والكمد والقهر والغيظ. ومرت سنوات طويلة استقل خلالها كل منا بحياته وأسرته، وحاولنا جميعا أن نكون على وفاق معها لكن هيهات لمثلها أن ترضي، وقاطعها الجميع بمن فيهم شقيقى الذى ربطته بها علاقة آثمة فى سن الشباب، ولم تسترح لأحد لا نحن أولادها، ولا أحفادها، ومات شقيقاي، وإحدى شقيقاتى، وتصورت أن رحيل عدد من أبنائها سوف يغير طباعها وتكون أكثر سكينة وقربا من الله، وحاولت أن أقترب منها، ودعوت الله أن يهديها، ويلين قلبها، ولكن هيهات أن تتزحزح قيد أنملة عن موقفها المتعنت، بل انها ازدادت شراسة، وعنفا، وإهانة لكل من يجرؤ على الاقتراب منها! وأصبحنا نخاف من زيارتها، ولقد استجمعت قواي، وذهبت إليها، وسألتها عما إذا كانت تريد أى شيء فألبيه لها، لكنها قابلتنى بنفس السخرية والاستهزاء والتقليل من شأنى، كما كانت تفعل وأنا شاب صغير. إنها الآن فى التسعين من عمرها، وأنا خرجت إلى المعاش، وأريد أن نلقى الله، وقد عفا عنا لكنها لا تعطى فرصة لأحد لمجرد الحديث معها، وحتى اذا اتصلت بها عبر الهاتف المحمول لا أجد منها سوى السباب والشتائم، وقد لجأت إلى أولادي، وأفهمتهم أن يتحملوها وهى فى هذه السن المتقدمة، ولكن كلما زارها أحدهم يعود إليّ ويقسم بالله أنه لن يذهب إليها مرة أخري.. إن قصتنا مع أمى كلها غرائب وعجائب وما ذكرته لك قليل من كثير، وأرجوك أن تساعدنى على أن أكون إلى جوارها، ونحن على أبواب النهاية، فماذا أفعل؟، ولمن أذهب؟.. إن الدموع تنساب من عينىّ وأجدنى وحدى والناس نيام أنخرط فى بكاء مرير، وأتطلع إلى السماء وأرفع يدى داعيا الله سبحانه وتعالى أن يلين قلبها، وأن تدرك أخطاءها، حتى تعود إلى ربها راضية مرضية، ولك منى التحية والسلام. ولكاتب هذه الرسالة أقول : عندما يغيب دور الأب والزوج فى حياة أسرته تنهار القيم والأخلاق وتتصدع «الرموز الوالدية» وتختل منظومة الأسرة، ومن ثم تتداخل الأدوار، فتقوم الأم بدور الأب، ويصبح الخال رجل البيت، أو يملك العم أو الأخ الأكبر زمام الأمور، ويستحوذ على الأم إلى الدرجة التى وصلت إليها أمكم مع أكبر أشقائك، فاضطربت الأدوار والعلاقات، وغابت معانى الحب والايثار والتراحم والمودة، وحلت محلها الغيرة والكراهية والتصارع والاستحواذ والحقد والرفض والاشمئزاز والحيرة والغضب والتشوش والتناقض، ومن ثم سقط النظام فى أسرتكم، وكل ذلك كان يقتضى منذ البداية أن يضع أبوك الأمور فى نصابها الصحيح، صحيح أنه لم يعلم بما فعلته والدتكم مع شقيقكم الأكبر، لكنه على الأقل كان يدرك أن المنهج الذى تسير عليه بفرض آرائها بالقوة والصوت العالي، ليس أمرا طبيعيا، ومن ثم يحدد معها حدود ما يمكن أن تتدخل فيه، فالقوامة للرجل، وليست للمرأة، فإذا سيطرت على كل شيء يصبح وجوده والعدم سواء، ولا يبرر غياب دوره أنه يعمل معظم ساعات اليوم، أو أنه يخشى الطلاق الذى تمنعه التقاليد، فالمرأة التى تتخطى حدودها، يصعب إصلاحها بمرور الأيام، ولو وضع الأمور فى مواضعها الصحيحة، لاعتدلت واستقامت، وإلا فليكن الطلاق هو الحل الذى لا بديل له. وأغلب الظن أن أمك تعانى مرضا نفسيا مزمنا، فمن ترتبط بعلاقة آثمة مع ابنها لا يمكن أن تكون انسانة طبيعية أبدا، وكان يجب لفت نظر شقيقك الذى تورط فى هذه العلاقة إلى جرم ما يفعله، والذى كان من نتيجته تفكك الأسرة، وانفصال كل واحد إلى حياته الجديدة، رافضا العودة إلى بيت العائلة تحت أى ظرف من الظروف، بالاضافة إلى التلوث النفسى والأخلاقى والاجتماعي، والانهيار الروحي، وما قد نشأ من تلوث بيولوجى يتمثل فى اضطراب الجينات وتداخل الأنساب، فهى مريضة نفسيا، ومضطربة الوعى والشخصية، ولا أدرى كيف انجرفت إلى هذه الهاوية، فعلاقة الأم بالابن هى أكثر العلاقات احتراما وتحريما فى كل الثقافات، وليست فى الأديان وحدها، ولذلك فإن هذه العلاقة الآثمة هى الأكثر ندرة فى العالم كله، والغريب أنها لم تفطن إلى فداحة ما ارتكبته واعتقد أن شقيقك هو الذى انصرف عنها بعد استقلاله بحياته الخاصة، ولعله قد تاب عن ذنبه قبل رحيله عن الدنيا، وانتظاره لقاء الله عز وجل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أيضا فإن سياسة الصمت التى اتبعها أبوك، وأملتها عليكم أمكم للتغطية على ممارساتها غير المقبولة، كان الهدف منها المحافظة على استقرار البيت ولكن أين هو الاستقرار إذن؟ إنك تتناول أحداثا يزيد عمرها على أربعين عاما أو أكثر، ومع ذلك مازالت محفورة فى داخلك، ولا تغادر عقلك، وهذا العذاب النفسى عاناه بالتأكيد اخوتك، من رحل منهم، ومن مازال على قيد الحياة، وكان التفكير السليم يقتضى من أبيك مواجهة أمك برفضه املاءاتها، لا أن يسايرها فيها. وإننى لا ألومك على انك واخوتك لم تتدخلوا وقتها لاصلاح اعوجاج أمكم، فالمسألة كانت وقتها أكبر من قدراتكم النفسية والعقلية، وأقدر معاناتك الآن، وهى فى هذه السن المتقدمة، ولكن ينبغى أن تصبر عليها وعلى طباعها، فهذا من البر الواجب والمعروف فى المصاحبة، وحسن العشرة، وعليك أن تدع كل حديث وأسلوب يستثيرها ويغضبها، وأن تقتصر فى الكلام على بيان ما قدمته لكم من خير، وما تريده وترغب فيه، وأن تبذل ما فى استطاعتك لتوفيره لها، فإذا ثارت فى وجهك كما هى عادتها، فاصمت تماما حتى تهدأ، ومهما حدث فهى أمك، وسيكون حسابها عند الله عز وجل، وربما تكون قد تابت إليه عز وجل، فهو أعلم بالسرائر، وما يأمرنا به هو أن نحسن معاملة آبائنا وأمهاتنا, حيث يقول تعالى «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين احسانا، إما يبلغن عندك الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما» سورة الأسراء آية 23. إننا مأمورون بصلة الرحم، وفى ذلك آيات وأحاديث كثيرة منها قول الله سبحانه وتعالى فى حديثه القدسى «أنا الله، وأنا الرحمن ، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته وبتته»، هذا فى الرحم، فكيف بالأم التى كانت سببا فى وجودك بعد الله جل وعلا؟، وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، قال: الصلاة فى وقتها، ثم بر الوالدين»، وإننى أقدر موقفك وسعيك إلى مد جسور الصلة مع والدتك فى هذه السن المتقدمة، ولتعلم أن لكل انسان مفتاحا ففتش عن مفتاح قلبها واستخدمه بذكاء وفطنة، وعليك أن تستعين بأخواتك اللاتى مازلن على قيد الحياة، وأولادهن وأولاد من مات من اخوتك، فيلتئم شمل العائلة من جديد، ومن المهم أن تتولى هذه المهمة بنفسك، فلديك الآن متسع من الوقت، وليتك تفاجئ أمك بزيارة جماعية، فتملأون عليها البيت وتنشلونها من وحدتها، أرجوك جرب وسوف تكون النتيجة هى ما تصبو إليه من إعادة والدتك التى تاهت فى زحام الحياة، ولا تجد الآن من يسليها وينقذها من وحدتها.. أسأل الله أن يعيدها إلى جادة الصواب، وأن يتوب عليها، وأن يحسن ختامها.. إنه على كل شيء قدير.