اكتب إليك الآن علي اعتبار صحة العبارة الشهيرة احكي عشان ترتاح ولأني لا استطيع أن أحكي لاحد لأني عندما أحكي لن أرتاح بل تزداد جراحي وآلامي لأن ما بداخلي لا يمكن أن يحكي لصديق أو قريب فهو السر الذي نخفيه أنا وأسرتي وإخوتي بالتحديد لكي تسير الحياة ولتظل الابتسامة في وجوه أفراد مجتمعنا وكأن شيئا لم يكن. انا فتاة عمري91 سنة أوسط اخوتي لدي أخ في المرحلة الابتدائية وأخت أكبر مني في الجامعة, أمي وأبي يحملان شهادات مرموقة وبقية العائلة أيضا, كانت حالتنا المادية عادية في بداية طفولتي وقتها كان لا ينقصني شيء أما الآن وبعد أن تيسرت أحوالنا احس بنقص في كل شيء واحمل أعباء المال كل يوم. منذ طفولتي وأنا أعيش في عذاب بالبيت لأن أبي يحمل شخصية عصبية جدا ومتقلبة المزاج جدا كان كثير الشدة معي انا واختي لا أعرف هل هذا بطبيعة عمله الذي حتم عليه ذلك كما يقول, ولكن عندما أري من مثله في هذا المنصب أو العمل لا أجد هذه الطباع, كانت هذه الشدة سلاحا ذا حدين فبرغم ان كل الناس يشهدون باخلاقي انا واختي وحسن تربيتنا إلا أنها خلقت فجوة كبيرة بيننا وبينه ومنعت الحوار بيننا لأننا كنا نخشي التحدث خوفا من الرد المليء بالسب والقسوة والضرب المؤلم الذي لا انساه, ولا أنكر أن امي التي يعود لها الفضل الكبير في نشأة شخصيتي أنا واختي فهي من ربت وعلمت وكبرت وداوت واعطت وكل شيء يمكن أن تتخيله وزيادة ولكن كنا نحيا في عذاب المشاجرة بين أبي وأمي الذي كان لا ينتهي ويختلف من سبب لآخر, ولكن مع كل ذلك يا سيدي الآن انا انظر لتلك الأيام الماضية واتمناها تعود بحلوها ومرها مرت أيامنا علي هذا الحال سنوات وسنوات ثم تحسنت احوالنا المادية, وتوسع أبي في عمله في احدي المحافظات الأخري فكان بين هنا وهناك الي أن أحست امي بتغير أحوال أبي فعند مجيئه من السفر يكون هادئا وتمر عدة أيام وينقلب حاله ومزاجه فيثور من أقل شيء حتي يسافر مرة أخري, حتي تأكدت امي من زواج ابي الثاني ولم تظهر له انها عرفت بذلك أملا في أن ينصلح ويعود مرة أخري, إلا أنها لم تتحمل هذا الوضع كثيرا وظهر كل شيء امام الجميع, وطلبت امي الانفصال بالود أو أن يترك تلك الزوجة الثانية ولكن رفض أبي ذلك متحججا بأنه لا يأخذ أوامر من أحد وأنه لا يريد أن يظلم زوجته الثانية, ولكنها هي التي ظلمت أولا ورضيت بالزواج, مع العلم بأن هذا الزواج يؤثر علي حياتها. رفض أبي الانفصال عن أمي واضطرت امي للجوء الي المحكمة لإنهاء اجراءات الطلاق ومرت أيام الانفصال علينا سنوات من البكاء والحزن والالم فأنا لم أصدق أن يصل بيتنا في يوم من الأيام لكل هذا.. كانت دموعي لا تجف ولا يبتعد الحزن عني أنا وأخوتي وأمي, كان كل يوم يأتي بمشاكله بين الطرفين وأكثر ما كان يؤلمني السب المتبادل بينهما, كل ليلة.. حاولت أن أصبر واتحمل إلي أن تتم إجراءات الطلاق وتهدأ الأمور, وظننت أنه بعد أن ترك كل منهما الآخر ستهدأ الحياة من المشاكل التي كانت لا تنتهي ولكن فوجئت بحياة أخري, حياة مؤلمة في كل شيء حياة غريبة لم أتوقع أنني سأعيشها في يوم من الأيام, لم يعد شيء يفرحنا أو يدخل البهجة إلينا. وبعدها بشهور يا سيدي تزوج أبي امرأة أخري, وسينجب منها, وقتها أحسست بكابوس لماذا يفعل أبي بنا كل هذا هل هو سعيد الآن؟ كيف يكون سعيدا؟ مرضت أمي ومرضت أنا بالاكتئاب, تقريبا أصبحنا نكره بيتنا الذي كنا نتمني أن ننتقل إليه, تحول البيت إلي مكان للبكاء, أمي تبكي كل ليلة وأخي الصغير عندما أنظر إلي أحواله ينفطر قلبي عليه, فما ذنبه ليعيش في كل هذه المعاناة فهو ينظر حوله ويجد من يقربونه من الأولاد في المدرسة أو من الأقارب يعيشون حياة أخري, أعلم أنك ستقول اننا أحسن من غيرنا بكثير فهناك من ولد ووجد نفسه يتيما صدقني الأصعب أن تجد حولك أباك وأمك ولا تجد الأمان ولا الدفء أنظر إلي أصدقائي وهم يتكلمون عن آبائهم وعن حواراتهم التي تدور بينهم والهزار والخروج وكأنها شيء طبيعي وهو فعلا شيء طبيعي ولكن عندنا لا, ففي حياتنا لن نستطيع الخروج مع أبي وكأنه شيء محرم رغم أنه يخرج مع أصدقائه كثيرا, حتي يا سيدي عندما يأتي للجلوس معنا فلا أحس بأي مشاعر تدور بيننا, فهو يجلس مع التليفزيون والتليفون حتي الأكل يفضل هو دائما أن يأكل بمفرده حتي لو سنأكل في نفس الميعاد أحببت كثيرا من أساتذتي الرجال حبا أبويا وكنت أعاتب نفسي علي ذلك, ولكن أنت تدري كم تحتاج البنت إلي وجود رجل قريب منها في مثل سني. أبي الآن يعاملنا علي أننا أعداؤه ويري دائما أننا نقف ضده ومع والدتي ويكون رد فعله تجاهنا علي هذا الأساس, فدائما يزعق ويشخط وتصبح عكننة علي أشياء غريبة وتافهة ولكن كل هذا انتقاما من أمي فكل منهما يعند أمام الآخر ولكن نحن الذين ندفع الثمن, بيتنا الآن إما في صمت أو بكاء أو مشاجرة ليس لنا أصدقاء ولا أقارب في محافظتنا كل ليلة استيقظ علي كابوس وتزداد حالة أمي من سييء إلي أسوأ وأعجز عن مساعدتها بأي شيء. في بعض الأحيان أقول لنفسي إن موعد رحيلي قريب, وأتمني من الله أن يعوضني بزوج حنون ينسيني ما مضي من آلام ولكن أفكر في أمي وأخي وأختي وهل سأتركهم إلي الوحدة والحزن, أنا أسأل نفسي كل ليلة هل أبي سعيد الآن؟ والله يا سيدي ظللت أنا وأختي نحصل علي أعلي الدرجات وحتي في الجامعة نأخذ تقديرات جيدة وأخلاقنا يحلف بها الجميع, ونكن لأبينا كل احترام ونسمع كلامه دون مناقشة, فلماذا فعل كل هذا بنا؟! أصبحت أخفي وجهي من المجتمع حتي لا يقرأ أحد الأحزان علي وجهي, وأخفي حالتنا الاجتماعية التي أخجل من أن يعرفها أحد... أنا الآن انتظر الحلقة الأخيرة فأنا منذ أن تغير حالنا وأنا أحس بأنني أعيش في مسلسل درامي لن يخطر ببالي أن أعيشه في الواقع, وكنا دائما نقول أن المسلسلات والأفلام تكون مبالغة أكثر من الواقع ولكني اكتشفت أن الواقع أكثر ألما وجرحا, ومع انتظار النهاية وكيف ستكون مريحة أم أليمة إلي أين سينتهي حال بيتنا ومتي تجف دموعنا, أتمني دعاءك ودعاء قرائك لي ولأمي ولإخوتي ولأبي بأن يذهب الله الحزن عنا, ويبعد الغمة من بيتنا ويهدي أبي.. فأنا كثيرا أفكر في ترك البيت, ولكن لا أعلم إلي أين سأذهب في هذه الدنيا وكثيرا أدعو الله أن يقرب أجلي إذا كان فيه رحمة لي فأنا أعلم أن الله أرحم بعباده حتي من أبي وأمي. ابنتي العزيزة.. رسالتك تكشف وجها آخر قبيحا للطلاق وللعلاقة السيئة بين الأبوين, ينشغل كل طرف بانتصاراته أو هزائمه فينشغل بحاله ولا يلتفت الي تأثير ذلك علي الأبناء الأبرياء الذين تتشوه مشاعرهم وترتبك تركيبتهم النفسية, فينتظرون النهاية في بداية سني الحلم, ويرون في الهروب أو الموت حلا بدلا من أن يكون كل ما يشغلهم التفوق الدراسي أو انتظار شريك العمر القادم. لا أعرف سر الشجار الدائم بين والديك منذ بداية زواجهما, ربما لاختلاف الطباع أو لعدم وجود الحب أو لأخطاء في شخصية أحدهما أو لكليهما, وقد اتفهم ان يكون هذا الخلاف والتنافر مبررا لأن يبحث الأب عن زيجة ثانية يجد راحته معها, خاصة بعد تحسن أحواله المالية, وإن كان هذا لا يعني ان يكون الحل الجاهز للزوجين المختلفين هو الهروب لزوجة ثانية بدلا من مواجهة المشكلات والبحث عن حل لها, ولكن مالا أفهمه هو سر إصرار الزوج علي القسوة والتعنت مع الزوجة التي غضت الطرف في البداية, والقسوة الدائمة والمستمرة مع الأبناء, فعلت ما أردت ووجدت سعادتك هذا إن وجدتها فلماذا تبخل ياسيدي ببعض هذه السعادة علي أسرتك؟ ولماذا ضننت علي زوجتك بحقها في الطلاق إذا كان هذا أريح لها ولك بدلا من دفعها الي ساحات المحاكم, وتشويه ما تبقي من مودة ورحمة بينكما حتي من أجل الأبناء؟! وما يزيد من حيرتي ويجعلني اتشكك في مدي اتزان الأب النفسي هو زواجه الثالث وحرصه علي الانجاب ليضيف الي المعذبين طفلا جديدا. فكيف لأب فشل في تربية أبنائه الثلاثة وهرب منهم أن يأتي للحياة بمولود رابع يلقي به الي المجهول, بدلا من الالتفات الي طفل وابنتين في سن حرجة وفي أشد الحاجة الي حنانه واحتوائه وفهمه, بدلا من أن تبحث صغيرته عن كل هذا عند اساتذتها أو كل من يغريها بمشاعر الابوة الخادعة. ابنتي العزيزة.. لا أحد منا يختار والديه, ولكننا علي الاقل نختار مستقبلنا, فإذا كان ماضيك ليس بيديك, فإن مستقبلك ملك يمينك, والد مهما فعل له حق الطاعة والاحترام, لذا تجنبي الاصطدام به وقت وجوده في البيت, وامنحي طاقة الحب بداخلك لأمك الغالية ولا تنشغلي بالحزن عليها لأنها اختارت شريكها ودفعت الثمن, فليس من الحكمة البكاء علي ما كان, وواصلي احترامك لنفسك, يدك بيد شقيقتك, امنحا الحب والاهتمام والرعاية لشقيقكما, وحاولا ان تجنباه ما تعرضتما له, لا توغرا صدره تجاه والده, ففي تفوقكم ما يسعد والدتكم ويؤمن مستقبلكم وثقي في عدل الله ورحمته, ولا تتمني الموت, بل ادع الله ان يبارك في عمرك حتي تحسني الي والديك, وتحسني اختيار شريك حياتك, وعاهدي الله علي ألا تفعلي ما فعله والداك ويكون لك من الذرية الحسنة ما يقر عينيك ويعوضك عما فات. البهجة ياصغيرة قادمة, فلا تضيعي أيامك الحلوة المقبلة بالنظر إلي ما فات, فالغرس ليس غرسك, والذنب والعقاب من فاطر السماوات والأرض, لمن كان راعيا ولم يكن مسئولا عن رعيته, فمن زرع العذاب والحنظل في فم الصغار الأبرياء لن يجني في نهاية الرحلة سوي العذاب والحنظل, حفظك الله ورعاك وهدي والدك, وإلي لقاء قريب بإذن الله.