يعتصرنى الألم وأنا أكتب إليك هذه الرسالة عن تجربة عايشت أحداثها، وشاء القدر أن يكون لى دور فيها، فأنا رجل من أسرة متوسطة، وأعمل فى وظيفة مستقرة، وتربطنى علاقات طيبة مع الكثيرين، ولى شقيقة تتمتع بالأخلاق الحميدة والجمال الهادئ منذ صغرها، وقد لفتت نظر تاجر معروف يعمل فى مجال الملابس المشغولة يدويا التى تجد اقبالا من السياح، ولديه وفرة وسعة فى المال، فتقدم إليها طالبا يدها.. ولم نجد فيه ما يعيبه فوافق عليه أبواى بعد أن أظهرت أختى ميلا للارتباط به، وخلال أشهر تزوجا فى حفل بالمنطقة الشعبية الشهيرة التى يعيش فيها، واقبلا على الحياة معا بحب وسكينة، ولاحظت عليها الاستقرار والسعادة، وبعد عام انجبت ولدا، وتبعته ببنت جميلة طارا بها فرحا، ودوت الزغاريد بقدومها، لكن هذا العش الهادئ لم يدم طويلا، إذ سرعان ما تدخل أهل زوجها، وافتعلوا الخلافات معها، وأوغروا صدره تجاهها، فأصبح يفتعل المشكلات معها لأتفه الأسباب، وذات مرة ألقى عليها يمين الطلاق، وفشلت كل محاولات الصلح بينهما، واستقرت بها الحال فى بيت أسرتها، ومعها طفلاها، ولم يدفع لهما أى نفقة برغم حالته الميسورة، ولم ترفع عليه أى دعوى قضائية لكى يصرف عليهما على الأقل وفقا للقانون، وتولى مسئوليتهما جدهما لأمها إلى أن رحل عن الحياة، فانتقلت المهمة إلى جدتهما التى ساندت أمهما فى الإنفاق عليهما، أما أنا فقد باشرت كل ما يتعلق، بهما بنفسى، وكنت لهما الخال والوالد إلى أن التحقا بالمرحلة الاعدادية. وطرق بابنا طبيب ابدى رغبته فى الزواج من أختى، وشرح لنا ظروفه بأنه تزوج من فتاة عن طريق الأهل والمعارف، ولما مرت عدة سنوات دون انجاب خضعا للتحاليل الطبية، فأظهرت أنه غير قادر على الإنجاب بوضعه الصحى الحالى، وأنه يحتاج إلى العلاج فى الخارج، فسافر إلى لندن، حيث فحصه الأطباء، لكن زوجته لم تتحمل الانتظار، وطلبت الطلاق، فانفصلا، وأنه يعيش وحيدا، وكل ما يريده زوجة صالحة تؤنس وحدته، ورأى فى أختى هذه الزوجة التى يتطلع إليها مؤكدا أنه سيرعى ابنيها حق الرعاية، وأنه يراهما تعويضا من الله له فى الدنيا.. سمعت أختى هذه الكلمات الحانية، فوافقت عليه، وانتقلت إلى بيته مع ابنيها، وكان عند وعده، فأصبح أبا للطفلين ووفر لهما كل شىء حتى إن المنزل امتلأ بلعب الأطفال ، ويخيل إلى الزائر أنه فى حديقة ملاه. وعلى الجانب الآخر، فلقد تزوج مطلق أختى من موظفة تعمل فى مجال الضرائب، ولما علم بأن ابنيه يعيشان فى كنف رجل آخر يعاملها أحسن معاملة، أكلت الغيرة قلبه، ليس من منطلق أنه ابوهما، ولكن من باب الشكل الاجتماعى، فعرض عليه بعض الاقارب ان يضمهما إليه فوافق، وحزن زوج اختى حزنا شديدا عندما جاء الوسطاء، وأخذوا الطفلين... ومرت أشهر ثقيلة عليه، ثم كانت المفاجأة أن أختى حملت وأنجبت ولدين، فكان الدرس الأول لمن يبتغى بأعماله وجه الله، إذ عوضه سبحانه وتعالى خيرا، ورزقه بهما جزاء عمله ورعايته لطفلى زوجته... أما ابنا أختى فقد عاملتهما زوجة أبيهما فى البداية معاملة حسنة ثم أظهرت وجهها الآخر خصوصا بعد أن أنجبت ولدا وبنتا مثل كثيرات من زوجات الآباء، فتمادت فى التفرقة بين ابنيه من أختى، وابنيه منها، لدرجة أنها كانت تغلق الثلاجة بالمفتاح، وتحتفظ بالطعام فى غرفة نومها... وهو ما لا يفعله أحد، ولم تحس ابدا بخطئها، ولا بتأنيب الضمير على هذا التصرف الذى لا يفعله عاقل حتى مع عابر السبيل، فيمنع عنه ما يقتات به إذا أحس بالجوع!. ومرت سنوات طويلة على هذه الحال، وأبوهما لا يحرك ساكنا، فزوجته هى صاحبة الكلمة فى البيت، ولم ينقذ ابنا أختى من براثن هذه السيدة إلا أنا وزوج امهما، حيث ظللنا على اتصال بهما، وتابعناهما فى كل كبيرة وصغيرة حتى التحقا بجامعتين حكوميتين، وتخرجا فيهما.. أما أخواهما فقد الحقتهما والدتهما بجامعة خاصة وبمصروفات باهظة... وحاولت جاهدا الا تترك افعال ابيهما أو زوجته اثرا لديهما... وقلت لهما إن الله منّ عليهما بالصحة والتفوق، وأنهما سيكونان ذا شأن عظيم ذات يوم، ووفقنى الله فى توفير وظيفتين لهما.. لتستقر احوالهما بعد معاناة طويلة، وتعب نفسى أعجز عن وصفه.. واستكثرت زوجة أبيهما عليهما السعادة التى بدت عليهما بعد التحاقهما بالعمل، فأصدرت فرمانا بطردهما من البيت، حيث تسكن الاسرة فى شقة مساحتها ثلاثمائة متر مربع بمنطقة فيصل، وقال لهما أبوهما بكل بجاحة (لقد كبرتما وتستطيعان الآن الاعتماد على نفسيكما، فانتما تعملان، وليست لديكما مشكلة فى أن تنتقلا للإقامة فى مكان آخر، حيث إننى سأبيع هذه الشقة، واشترى شقة أخرى مساحتها سبعين مترا مربعا، ولن يكون لكما مكان فيها، وليس بإمكانى أن أصرف عليكما أو اساعدكما من الآن، لأن حالتى المادية صعبة للغاية، بعد أن أفلست تجارتى)!! تصور يا سيدى أن أباهما قال لهما ذلك بمنتهى البجاحة، فهذا الرجل الذى يدعى الفقر يملك شاليهات فى الساحل الشمالى ومارينا والعين السخنة، وعددا من المحال فى المركز التجارى الشهير بالقاهرة، ومصانع عديدة لملابس النساء والأطفال!. لقد تسمر الشاب والفتاة فى مكانهما وهما يسمعان هذه الكلمات من أبيهما، ثم إذا به يجمع ملابسهما، ويطردهما خارج المنزل فى مشهد لا يصدقه عقل، ولو شاهدته فى فيلم سينمائى لاستغربت أن يصل خيال المؤلف إلى هذه الدرجة من القسوة، لكنها الحقيقة المرة التى عاشها ابنا اختى مع ابيهما وزوجته طوال هذه السنوات.. وفى النهاية لم يجدا ملاذا سوى والدتهما وزوجها الذى استقبلهما بترحاب شديد، وانضما إلى أخيهما من امهما من جديد، وشطب اسم والدهما من تليفوناتهما المحمولة! أرأيت جحود أب بهذه الدرجة، برغم ثرائه الفاحش؟... ثم ألا يدرك هو وأمثاله أن ما فعله بابنيه ليس نهاية المطاف، وأن الله يمهل ولا يهمل، وسوف يعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون؟.. ثم متى يفيق هؤلاء من الحالة التى أوصلتهم إليها زوجاتهم، فأغضبوا الله وشردوا ابناءهم؟. ولكاتب هذه الرسالة أقول : يغفل الكثيرون أن العقوق متبادل بمعنى أن من يعق ابناءه، سوف يعقونه، ومن يهمل رعايتهم والاهتمام بهم، لابد أنه سيجنى نفس صنيعه بعقوق مماثل، وربما عدم احترام أيضا.. ألا يعلم كل والد أن الله سوف يسأله يوم القيامة عن ولده، قبل أن يسأل ولده عنه، فكلاهما له حقوق على الآخر، وفى ذلك يقول ابن القيم (من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الاساءة، وأكثر الاولاد جاء فسادهم من جانب الآباء باهمالهم لهم، فاضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارا) كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال : يا ابت : إنك عققتنى صغيرا، فعققتك كبيرا، واضعتنى وليدا، فاضعتك شيخا). من هنا فإن ما فعله مطلق أختك مع ابنيه منها سوف ينعكس عليه فى حياته، وقبل رحيله عن الدنيا، فبرغم ثرائه ووجوده على قيد الحياة، فإنه كان دائما ومازال بالنسبة لهما كالميت، فلقد تربيا فى غياب رعايته، وصارا يتيمين، بل لو أنه مات وهما صغيران ما أحسا بالمرارة التى يشعران بها اليوم، وأتذكر قول الشاعر : ليس اليتيم من انتهى ابواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم الذى تلقى له أما تخلت وأبا مشغولا والحقيقة أن هذا الرجل افتقد أمرين اساسيين سيكون لهما انعكاس سلبى على ابنيه وعليه ايضا، وهما العلاقة السليمة والقوية معهما والعدل بين اولاده من زوجتيه.. أما الآمر الأول، فيمكن ان نضرب له مثلا بالعلاقة القوية التى ربطت الأب يعقوب عليه السلام بابنه يوسف عليه السلام، التى وصلت قوتها إلى حد أن يوسف كان يخبره بكل شىء يحدث له حتى على مستوى الرؤى والاحلام التى يراها فى منامه، كما قال تعالى (إذ قال يوسف لأبيه يا ابت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، رأيتهم لى ساجدين) وهكذا فتحت هذه العلاقة المتينة بمصارحة الابن اباه بكل ما يدور له آفاقا للحوار النافع والمفيد بينهما، بما يساعد الأب على معرفة كل المستجدات التى تطرأ على حياة ابنه بحيث يسهل التعامل معها حسب طبيعتها، وفى الوقت المناسب. وأما الأمر الثانى، فيتعلق بالعدل بين الأولاد حتى تسلم الأسرة من العقوق والغيرة، بل والحسد أيضا، ومازلنا مع قصة سيدنا يوسف حيث يقول الله عز وجل (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى ابينا منا، ونحن عصبة إن آبانا لفى ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا، يخل لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوما صالحين) وقد قال إخوة يوسف ذلك ليس لأن أباهم لم يعدل بين جميع أبنائه، ولكن لمجرد احساسهم بأنه يحبه أكثر منهم، مع أن الحب فطرة قد لا يستطيع المرء أن يتغلب عليها، ولكن ينبغى على الأب أن يكتم الحب الزائد لأحد أبنائه أو بعضهم، ولتكن المعاملة الحقيقية والظاهرية سواء بين الجميع، وحينئذ يستطيع أن ينزع الحقد والغيرة منهم، وأن يزرع فيهم الألفة والمحبة تجاه بعضهم، وبذلك يسلم من النتائج السيئة التى سوف تترتب على عدم مساواته بينهم. فإذا أراد مطلق أختك أن ينال رضا الله، فعليه أن يراجع موقفه، وأن يصلح ما أفسده من علاقته بابنيه منها، وأن يعمل على رأب الصدع الذى اصاب علاقتهما بأخيهما، وعلى زوجته أن تتأكد من أن معاملتها القاسية لابنى زوجها، وتفريقها بينهما، وبين ابنيها سوف تنعكس عليها فى حياتها، وستندم على ما فعلته بهما أشد الندم، وليكن زوج أختك الحالى عبرة له، بما أثابه الله به من ذرية صالحة جزاء صنيعه الحسن، ونقاء سريرته... أما أنت يا سيدى فيكفيك دورك الكبير فى تربية ابنى أختك ومتابعتهما حتى وصلا إلى بر الأمان، وعسى أن يستفيد بدروس قصتكم كل الأباء والأبناء.