لقد مر أكثر من قرنين من الزمان علي بداية مشروع النهضة المصري, منذ أن شرع محمد علي ( في عام 1805م) في بناء النظم الحديثة والجيش الحديث والتعليم الحديث. ولكن خبرة القرنين تكشف عن أن مشروع النهضة ظل يراوح مكانه. فما إن يشرع المجتمع في التفتح والانطلاق والالتفاف حول أهداف عامة حتي يحبط عمله ويضل مسعاه, ويعاود القعود من جديد. وتتوالي الحقب, والنخب, والنظم, يقدم بعضها خربشات نهضوية, ويقدم بعضها الآخر مشاريع نهضة واستقلال, ويقدم بعضها الثالث مشاريع تبعية واستكانة, ولكن النهضة لم تكتمل أبدا, بل إن تراكم التجارب وتعددها قد ضاعف من مشكلات النهضة, فقد أدي إلي تراكم مشكلات وتناقضات أكثر مما قدم حلولا, وضاعف التفتت والتباعد والانقسام لا بين النخب السياسية فحسب, بل بين طبقات المجتمع وقواه الاجتماعية. وفي ضوء ذلك يمكن النظر إلي ثورة الخامس والعشرين من يناير علي أنها صرخة نهضة لها وجهان: صرخة في وجه الفشل والتعثر وإعادة إنتاج الظلم والاستغلال والفساد والفقر, وصرخة للقيام والنهوض علي أسس جديدة. وأحسب أن مؤسسي الجمهورية الثانية برلمانيين ورؤساء ووزراء وقضاة ورجال دولة ومواطنين عليهم مسئولية تاريخية في تأسيس مستقبل ناهض لا يتوقف ولا يهن ولا يعرف إلي السقوط سبيلا. وقد يكون مفيدا ونحن علي مشارف جمهورية جديدة أن نسأل أنفسنا: لماذا كان هذا التعثر في مشروع النهضة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي المقدمة الطبيعية لصناعة نهضة المستقبل. إن لهذا التعثر أسبابا متعددة ومتشابكة, ولن نسرف في شرحها. وحسبنا أن نشير إلي ما أعتبره رأس هذه الأسباب وأولها, وهو غياب مفهوم واضح عن النهضة,وانبعاثها دائما من أعلي عبر تصورات فوقية تلبس المجتمع أثوابا فصلت علي أهواء النخب. إننا نستخدم مفهوم النهضة هكذا, ونظن أن مجرد الطنطنة بعبارات حول العودة إلي الدين, أو إقامة النظام الديمقراطي, أو إطلاق آليات السوق, أو بناء مشروع عملاق, أو تعبيد طريق أو بناء مؤسسة لرعاية البحث العلمي أو غير ذلك من الأفكار يمكن ببساطة أن يؤسس لمشروع النهضة. ورغم أن كل هذه الأفكار قد تكون مفيدة في تأسيس النهضة, إلا أنها لا تقوم علي مفهوم واضح لما نقصده بالنهضة. فلا نهضة حقيقية مستدامة بغير فكر واضح وجلي, يؤمن به الرجال والنساء الذين يصنعونها. وتبدأ النهضة من مفهوم ثقافي لبناء الهوية الاجتماعية والثقافية, من خلال تعبئة السلوك والقيم واللغة والنظم والمعتقدات, لربط الماضي بالحاضر والتوجه نحو المستقبل, عبر الالتفاف حول مبادئ وأهداف عامة توحد الناس وتوجههم جميعا نحو العمل كمواطنين متساويين, ليس لأي منهم فضل علي الآخر إلا بما يقدمه للوطن من إنجاز مخلص وفضائل أخلاقية.إن هذا المسعي هو مسعي لتأسيس العيش المشترك الذي يضع أساسه الدستور ويدعمه الفكر السياسي الاجتماعي الذي يركز علي بعث العقل الذي غاب عن حياتنا, وبعث الفضائل الكبري كالعدل والمساواة التي تدرأ عن الناس الفساد والبغضاء, والنظر إلي المستقبل بروح متوثبة طليقة, وإعلاء شأن القانون والنظام, وبناء سياسات ترتقي بوجود الأفراد وتوسع من حرياتهم واختياراتهم في مجتمع متماسك. وغالبا ما يستخلص فكر النهضة من روح الأمة ومسيرة نضالها, وأن يلهج بلسان الشعب وضميره, ووعيه التاريخي, بحيث لا يتحول إلي فكر وصاية يفرضه طرف علي طرف آخر, فنخرج بنهضة دكتاتورية مستبدة تكسر الرءوس (عبر أدوات القهر السياسي) وتلوي الأعناق (عبر أدوات النفاق السياسي والانتهازية). وإذا كنا نعيش الآن حالة ثورة فإن الفكر النهضوي يجب أن ينسج من روح الثورة وصرختها التي هي صرخة نهضة بحق,و التي تجسدت في شعار واحد عيش- حرية- كرامة. المزيد من مقالات د.احمد زايد