(1) كان الواحد يعتقد أن الامر سينتهى مع انتهاء سنوات الطفولة والمراهقة، أن يصحو يوم إجازة السادس من أكتوبر مبكرا ويتنقل بين محطات الراديو و التليفزيون يريد أن يتسلل ليسير داخل أغنيات الانتصار التى يحبها، شعور ما بالإثارة يتجدد مع (حلوة بلادى) أو ( سمينا وعدينا) أو (رايحين فى ايدنا سلاح)، يدعمه عادة بدايات الشتاء بنسمة باردة فى الصبح الباكر و بيت كل من فيه نيام إلا هو يحتفل بالنصر منفردا فى رفقة الأغانى. كانت البداية فى الصف السادس الابتدائى عندما دخلت إحدى المدرسات إلى الفصل معلنة أن مكتبة المدرسة جاهزة للعمل، وكما يليق بطفل يرتدى نظارة طبية تسللت إلى المكتبة وكان أول ما لفت نظرى كتاب كان غلافه يصور جنديا مصريا يرفع سلاحه و فى خلفيته العلم فوق تبة صحراوية، استعرت الكتاب وبدأت قراءته فى يوم إجازة السادس من أكتوبر فحدث أن أصبح هذا اليوم أسطوريا فى مخيلتى، مازلت أحافظ على طقوسه حتى يومنا هذا، الاستيقاظ مبكرا والتفتيش عن الأغنيات. كبيرا عرفت أن غلاف أول كتاب استعرته كان موفقا للغاية، الجندى المصرى هو حرب أكتوبر، فى مايو 1975 كان مذيع محطة البى بى سى يجرى حوارا مع إيريل شارون أحد كبار قادة جيش العدو فى الحرب، و سأله: ماذا كانت مفاجأة حرب أكتوبر التى أصابتكم بالشلل، فقال : مفاجأة الحرب كانت فى شيء جديد تماما علينا وهو الجندى المصرى الجديد. كنت أتمنى أن أمتلك المقدرة على الكتابة عن كل جندى شارك فى الحرب على حدة، لكننى اخترت واحدا ربما يلخص كل هؤلاء الأبطال و يمثلهم بجدارة، و ساعدنى فى هذا الاختيار وزير الدفاع فى حرب أكتوبر المشير أحمد إسماعيل، ربما لم يفعلها بشكل مباشر لكنه فعلها بطريقته. (2) المجند ( محمد عبد العاطى عطية شرف) الشهير فيما بعد ب (عبد العاطى صائد الدبابات)، يمكن اعتباره نموذجا يلخص الجندى المصرى فى حرب أكتوبر، الشاب ابن الريف الذى يقوم مقام رب العائلة بعد رحيل الأب، مهووس بكرة القدم، يقضى نصف يومه فى ( الغيط) يتابع الزراعة والدواب التى يمتلكها، ويترقب فى أى وقت أن يصل له استدعاء جهة التجنيد، يدخل المعسكرات لا يعرف شيئا عن الحرب أو الأسلحة، و بعد فترة يتعلم كل شيء ويصبح فى حالة حماسة تشعلها نار الترقب فى انتظار المعركة، وعلى ارض المعركة يتحول إلى معجزة شعارها الله أكبر. يفكر الواحد أحيانا فى سر اختيار ( الله أكبر) شعارا للمعركة، لماذا لم يختاروا (الله) فقط، أو هتاف (يارب) مثلا، أقول إنهم كانوا على بعد خطوات من استعدادات مخيفة أقامها العدو على الجانب الآخر من القناة، استعدادات تبدو ضخمة و كبيرة، لكن ثبت فى يقين الجنود أنه مهما كانت هذه التحصينات والاستعدادات كبيرة ف ( الله أكبر). يقول أحمد على مؤلف كتاب (صائد الدبابات) :التحق ابن قرية (شيبة قش) بسلاح المدفعية فى مجموعة سيتشكل منها سلاح جديد يسمى ( صواريخ فهد) المضادة للدبابات، كان السلاح جديدا على الجيش المصرى وحساسا للغاية يحتاج إلى دقة بالغة وحساسية فى التوجيه، وتكمن خطورته فى كونه قائما على الخفة والتخفى، فإذا طاش الصاروخ عن هدفه انكشف مكان طاقم السلاح للعدو. أبرز عبد العاطى مهارة كبيرة فى التدريبات جعلته يتحول من مجند بمرور الوقت إلى حكمدار طاقم صواريخ، ويوم صدر قرار العبور كان عبد العاطى يتابع مع زملائه طائرات الجيش المصرى وهى تعبر على ارتفاع منخفض لدرجة أن الطيارين لمحوا الجنود المصريين و هم يلوحون لهم فرحا فردوا التحية بالتلويح بأجنحة طائراتهم بالتمايل يمينا ويسارا الأمر الذى رفع ثقة الجنود المنتظرين على ضفة القناة. عبر عبدالعاطى مع زملائه على ظهر مجنزرة، وعلى الضفة الأخرى كان عليه تسلق الحاجز الترابى بحمولة متوسط وزنها 20 كيلو جراما، السلاح المضاد للدبابات وذخيرة ومؤنة، وظل عبد العاطى فى موقعه يومين دون أن يطلق طلقة واحدة، لكن مع يوم الثامن من أكتوبر حان دوره، و استطاع فى نهاية الأمر بسلاحه الجديد أن يدمر 23 دبابة إسرائيلية و ثلاث عربات مجنزرة. (3) لخص الشاعر أحمد فؤاد نجم أمورا كثيرة فى أغنيته التى غنتها السندريلا (دولا مين)، قائلا (دول عساكر مصريين.. دول أولاد الفلاحين .. دول خلاصة مصر.. دول عيون المصريين)، وضع (نجم) خطا تحت فكرة (أولاد الفلاحين .. خلاصة مصر)، و قد كان محقا. فى ديسمبر 1973 قررت مصر أن تقيم معرضا لغنائم الحرب و يفتتحه وزير الدفاع. توجه المشير الفريق أحمد إسماعيل لافتتاح المعرض الذى أقيم فى أرض المعارض بالجزيرة، وتم توجيه الدعوة فى الوقت نفسه لعدد من الجنود الذين شاركوا فى الحرب للوقوف فى طابور شرف، وصل وزير الدفاع و صافحهم جميعا و كان يسأل كل واحد عن اسمه و سلاحه، وكان بينهم ( عبد العاطى)، فسحبه وزير الدفاع من يده و أعطاه المقص لينوب عنه فى افتتاح معرض الغنائم، كان وزير الدفاع يؤمن أن الجندى المصرى هو الذى يستحق هذا الشرف، تردد عبد العاطى فى قبول العرض، لكن الوزير شجعه، ثم صورت كاميرات وكالات الأنباء العالمية الحاضرة مجندا مصريا يقص شريط المعرض بينما يقف خلفه بخطوة وزير الدفاع. ........................................................................مصادر: ( كتاب « صائد الدبابات» أحمد على عطية الله، أغنية حلوة بلادى: كلمات عبد الرحيم منصور ألحان بليغ حمدى، أغنية سمينا و عدينا: كلمات علية الجعار ألحان عبد العظيم محمد، رايحين فى ايدنا سلاح: كلمات نبيلة قنديل ألحان على إسماعيل، دولا مين : ألحان كمال الطويل)