يوما بعد يوم، سيشعر الأمريكيون بفداحة الخطأ الذى وقع فيه ممثلوهم فى الكونجرس بإقرارهم قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، الذى يستهدف السعودية بشكل أساسي، ويسمح بإقامة دعاوى قضائية للحصول على تعويضات لصالح ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001. لم يكن الابتزاز وحده، ولا المصالح الانتخابية، وراء صدور قرار الكونجرس بمجلسيه بإلغاء الفيتو الرئاسى ضد القانون، الذى يعرف اختصارا باسم "قانون جاستا"، فمن الواضح أنه كانت هناك أصابع خفية، متهورة، وراء هذا القرار "العنتري" من جانب الكونجرس، والذى سيعرض علاقات واشنطن مع الرياض للتوتر الشديد، بما سينعكس بالسلب على علاقات أمريكا بصفة عامة مع دول الخليج العربي، ودول عربية أخرى، ستتضامن مع السعودية فى مواجهة هذا "الابتزاز". لذلك، لم يكن غريبا أن يسارع نواب أمريكيون بعد ساعات من إلغاء الفيتو الرئاسى إلى الإعراب عن قلقهم إزاء القانون الاستفزازي، مبررين ذلك بأن القانون "يمكن تقليصه"، بهدف تهدئة المخاوف بشأن تأثيراته على الأمريكيين فى الخارج، وبخاصة فى ضوء ما تردد من تقارير حول الخسائر الفادحة التى يمكن أن تلحق بالمصالح الأمريكية وبالاقتصاد الأمريكى تحديدا من جراء إجراءات رد الفعل السعودى المتوقعة على هذا القانون. وفى تقرير لوكالة "رويترز" بعد يوم من ضربة الكونجرس القوية للرئيس باراك أوباما، ذكرت أن الزعماء الجمهوريين بمجلسى الشيوخ والنواب بدأوا بالفعل، وبسرعة غير متوقعة، يفتحون الباب أمام تعديل القانون، كما أنحوا باللائمة على أوباما فى عدم التشاور معهم بشكل كاف بشأن مخاطر إصدار هذا القانون. ونقلت الوكالة عن زعيم الأغلبية فى مجلس الشيوخ ميتش مكونيل قوله للصحفيين : "أعتقد بالفعل أن القانون بحاجة إلى مزيد من النقاش"، معترفا بأنه قد تكون هناك "عواقب محتملة لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب"، وهو الاسم الرسمى للقانون، فى حين توقع بول ريان رئيس مجلس النواب أن يحاول الكونجرس "إصلاح" التشريع لحماية الجنود الأمريكيين على وجه الخصوص. ولم يعط ريان إطارا زمنيا لمعالجة هذه "الورطة" التى تسبب فيها أعضاء الكونجرس برعونتهم وتحت وطأة الضغوط الشعبية من أسر ضحايا الهجمات، ومن اللوبى المعادى للسعودية والعرب فى الولاياتالمتحدة، ولكن السيناتور الجمهورى بوب كروكر رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ رجح أن تتم معالجة القضية فى جلسة بالكونجرس "بعد انتخاب الكونجرس الجديد، وقبل أن يبدأ عمله"، أى بعد الانتهاء مباشرة من انتخابات 8 نوفمبر المقبل. أما السيناتور الديمقراطى تشاك شومر الذى دافع عن القانون فى مجلس الشيوخ، فتراجع عن موقفه سريعا بعد قرار الكونجرس، وقال إنه "منفتح" على إعادة النظر فى القانون! ولعل جوش إيرنست المتحدث باسم البيت الأبيض كان دقيقا وبارعا عندما عبر عن حالة التراجع السريعة التى أبداها أعضاء فى الكونجرس بعد ساعات من إصدار القانون، عندما قال فى بيان صحفى إن القانون سبب "ارتباكا شديدا" بالفعل، وأنه يعتقد أن "ما شاهدناه فى الكونجرس الأمريكى هو حالة كلاسيكية للغاية من الندم السريع" على هذا الفعل، مشيرا إلى أن 28 من أعضاء مجلس الشيوخ وجهوا خطابا يعبر عن القلق بشأن القانون بعد "دقائق" وجيزة من التصويت لصالح إبطال فيتو أوباما على القانون. ويأتى هذا الشعور السريع بالندم بعد أن نما إلى علم الجانب الأمريكى بعض تفاصيل حول ردود الأفعال السعودية والخليجية والعربية الغاضبة إزاء هذا القانون أولا، وحول الإجراءات الارتدادية التى يمكن أن تتخذها الرياض بسبب هذا القانون ثانيا، وحول العواقب الوخيمة التى يمكن أن يشكلها القانون كسابقة دولية يمكن أن ترتد إلى صدر أمريكا نفسها، التى كثرت جرائمها على مر التاريخ المعاصر. فأولا، بات من الواضح من خلال ردود أفعال الرياض والعواصم الخليجية والعربية وجود حالة من الغضب الشديد إزاء القانون الأمريكي، بما يعرض علاقات واشنطن مع حلفائها وأصدقائها فى المنطقة للتوتر، بل للخطر، ففى الوقت الذى تعاملت فيه الرياض "الرسمية" بهدوء شديد مع إجراء الكونجرس، وهو ما عبر عنه بيان الخارجية السعودية الذى أدان القانون بعبارات قوية، كان وزير الخارجية البحرينى محقا عندما كتب تغريدة على "تويتر" بعد ساعات من صدور قرار الكونجرس قال فيها "أليس منكم رجل رشيد"؟ وأكد أيضا أن القرار سيرتد إلى الأمريكيين أنفسهم، كما كان البيان الصادر عن الخارجية المصرية واضحا عندما أكد أن القاهرة "تتابع باهتمام" تأثيرات القانون الأمريكى على العلاقات الدولية والقانون الدولي، وأشاد أيضا بمبررات فيتو أوباما على القرار. أما ثانيا، وعلى الرغم من أن البيان السعودى لم يتحدث بشكل صريح عن أى إجراءات محددة ردا على هذا القانون، فإن كبار الكتاب والإعلاميين فى المملكة يدركون تماما أن الهدف من هذا القانون هو الابتزاز والسعى إلى استنزاف موارد المملكة من الثروة البترولية، وتعمد استفزازها والإضرار بها، وبخاصة بعد الاتفاق النووى مع إيران، وظهر حديث عن تجميد التعاون بين الرياضوواشنطن فى مجال محاربة الإرهاب بما فى ذلك عمل القواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة، وسحب الاستثمارات السعودية التى تقدر بمليارات الدولارات من الولاياتالمتحدة، علما بأن السعودية لديها سندات خزانة أمريكية قيمتها 96٫5 مليار دولار. غير أن رأيا آخر يرجح أن الرياض ربما تفسر قرار الكونجرس بصورة أخرى تقتصر على كونه يأتى فى إطار المواءمات السياسية فى موسم الانتخابات، وأنه لا داعى للقلق من القانون، ولا مبرر للحديث عن إجراءات وقائية، لأن فرص نجاح الدعاوى القضائية ضد السعودية فى الولاياتالمتحدة بسبب هجمات سبتمبر شبه مستحيلة، فى ضوء أن القانون يشترط إيجاد دليل مادى قوى يثبت تورط السعودية "رسميا" فى هجمات سبتمبر، وليس مجرد تورط مواطنين يحملون جنسيتها! أما ثالثا، فقد يفتح القانون الأمريكى المجال واسعا أمام دول أخرى تعرضت لهجمات وجرائم أمريكية لاستصدار قوانين محلية مماثلة استنادا إلى سابقة قانون "السعودية" الأمريكي، ومن بينها فيتنام مثلا، أو اليابان التى تعرضت لقصف نووى خلال الحرب العالمية الثانية، أو العراق الذى تعرض لاحتلال ونهب ثروات، أو حتى من جانب الحليفة تركيا التى أعلنت قبل أيام على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان أن انقلاب يوليو الفاشل كان عملا إرهابيا يستهدف احتلال تركيا، فى حين أن المتهم الرئيسي، فتح الله جولن، من وجهة نظر أنقرة طبعا، يقيم فى الولاياتالمتحدة حتى يومنا هذا، والأمثلة كثيرة للغاية! فهل سيصبح قانون "جاستا" بالنسبة لأمريكا أشبه بمن حاول إبعاد ذبابة عن وجهه بإطلاق النار على نفسه؟ أم أن "الندم" السريع الذى أبداه أعضاء الكونجرس سيعالج الموقف سريعا؟