إغلاق المجال الجوي في مطار بن جوريون بعد إطلاق صاروخ من اليمن    مصطفى عسل يحتفظ بصدارة التصنيف العالمي للاسكواش بعد التتويج ببطولة العالم للاسكواش    دراسة تكشف: المصابون ب مرض السكري عرضة لأمراض القلب    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب في السعوديه اليوم الأحد 18 مايو 2025    محتجون يغلقون الطرق في جنزور غرب طرابلس.. ما السبب؟    جريمة وحشية جديدة.. حماس تُدين المجزرة الإسرائيلية في مواصي خان يونس    لا سلام بلا فلسطين    ماذا طلب نتنياهو من الوفد الإسرائيلي المشارك في مفاوضات الدوحة بشأن غزة؟    السفارة الأمريكية في ليبيا: التقرير عن خطط نقل سكان غزة إلى ليبيا غير صحيح    الإسعاف الإسرائيلي: إصابة شخص خلال هروبه إلى الملاجئ في بات يامبعد إطلاق صاروخ من اليمن    الدولار ب50.41 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الأحد 18-5-2025    انقسام داخل مجلس الاتحاد السكندري حول مصير مجدي عبد العاطي    سيراميكا كليوباترا يقترب من التعاقد مع كريم نيدفيد    موجة حارة تضرب البلاد.. والأرصاد تُعلن تحسن حالة الطقس اليوم    محافظ الوادي الجديد: رفع درجة الاستعداد القصوى بالمراكز لمواجهة سوء الأحوال الجوية    أمن بني سويف يكشف لغز جثة رجل مكبل اليدين والقدمين داخل سيارة    ب 20 مليون.. جهود مكثفة لضبط تشكيل عصابي سرق مشغولات ذهبية في قنا    مصرع وإصابة شخصين في حادث سيارة على طريق المطرية بورسعيد    بالتردد.. تعرف على مواعيد وقنوات عرض مسلسل «المدينة البعيدة» الحلقة 26    الغرف التجارية تنفي نفوق 30% من الثروة الداجنة وتحذر: خلال الصيف سنواجه مشكلة حقيقية    ما بين الحلويات.. و«الثقة العمومية»!    مجلس أمناء التكافل الاجتماعي بالدقهلية يعتمد صرف مساعدات ل700 أسرة    «المحامين» تمتنع عن حضور الجلسات أمام محاكم الجنايات لمدة يومين    «اللوائح هتطبق».. حسام البدري: «لو بيراميدز مكان الأهلي لتم خصم 6 نقاط»    أولى جلسات محاكمة الفنانة راندا البحيري بتهمة سب وقذف طليقها| اليوم    موعد مباراة الأهلي وباتشوكا الودية قبل كأس العالم للأندية 2025    حادث وقضية وكوميديا.. محطات في حياة الزعيم    الهجرة من الموت إلى الموت    استمرار قوافل «عمار الخير» بشربين للكشف المجاني على المواطنين بالدقهلية    جداول امتحانات الشهادة الإعدادية 2025 الترم الثاني في جميع المحافظات    أمطار لمدة 24 ساعة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: «تغير مفاجئ»    هزيمة 67 وعمرو موسى    ملف يلا كورة.. تأجيل بطل الدوري.. ودية الأهلي الأولى قبل مونديال الأندية.. وصفقة محتملة للزمالك    الفرص متاحة لكن بشرط.. برج العقرب اليوم 18 مايو    حكم صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.. دار الإفتاء توضح    الأزهر: الإحسان للحيوانات والطيور وتوفير مكان ظليل في الحر له أجر وثواب    كامل الوزير يكشف سعر تذكرة الأتوبيس الترددي للمواطنين (فيديو)    نقابة المهندسين تُسلّم 225 تأشيرة لأعضائها الفائزين بقرعة الحج بالإسكندرية    للحفاظ على سلامة الطعام وتجنب الروائح الكريهة.. نصائح لتنظيف الثلاجة في خطوات بسيطة    للحفاظ عليها من التلف.. 5 خطوات لتنظيف غسالة الأطباق    نتيجة مباراة باريس سان جيرمان وأوكسير في الدوري الفرنسي    قطاع الفنون التشكيلية يُكرّم القائمين على الأنشطة المتحفية في اليوم العالمي للمتاحف    نيس يكتسح بريست بسداسية ويحسم بطاقة دوري الأبطال بجدارة    ننشر تفاصيل تسهيلات الضرائب العقارية قبل عرضها على البرلمان نهاية يونيو (خاص)    بالصور.. جينيفر لورانس وروبرت باتينسون يخطفان الأنظار في مهرجان كان السينمائي    فيلا فيضي باشا ومبنى الشوربجي.. أسبوع القاهرة للصورة يعيد الحياة إلى أماكن وسط البلد التراثية    انقطاع الكهرباء بطور سيناء اليوم الأحد 5 ساعات للصيانة    بالصور.. رامي صبري والنجوم يحتفلون بعيد زواج المهندس محمد عطا وسيدة الأعمال فاطمة المهدى    خبير لإكسترا نيوز: إسرائيل لن تسمح بحل الدولتين لتعارضه مع حلمها الإمبراطوري    تعاون بين «التأمين الشامل» و«غرفة مقدمي الرعاية الصحية»    وزير الشباب والرياضة: نتحرك بدعم وتوجيهات الرئيس السيسي    "الجبهة الوطنية" يعلن تشكيل أمانة الرياضة برئاسة طاهر أبوزيد    تفاصيل لقاء بطاركة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية بالشرق الأوسط في مركز لوجوس بوادي النطرون    رئيس جامعة الأزهر يكشف الحكمة من تغير أطوار القمر كما ورد في القرآن    أمين الفتوى يوضح أهمية قراءة سورة البقرة    افتتاح ورشة عمل بكلية دار العلوم ضمن مبادرة «أسرتي قوتي»    عالم أزهري: «ما ينفعش تزور مريض وتفضل تقوله إن كل اللي جالهم المرض ده ماتوا»    3 أمناء مساعدين بالجبهة الوطنية.. زكى والصريطي للفنون وضيف الله للتنظيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخطاب المصرى داخل الأمم المتحدة
عندما تتحرك مصر «كقوة وسطى» فى النظام العالمى
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 09 - 2016

لقد باتت كلمات القيادات السياسية فى المنتديات الدولية بشكل عام، والجمعية العامة للأمم المتحدة بشكل خاص،مناسبة مهمة للوقوف على توجهات الفاعلين الدوليين إزاء النظام العالمي، وطريقة إدراك القيادات السياسية للمشكلات والأزمات الإقليمية والدولية وطبيعة النظام الدولي، وإدراكها لطبيعة دورها داخل هذا النظام. وتزداد أهمية تحليل هذه الكلمات فى حالة القوى الكبرى، والقوى الإقليمية البارزة والصاعدة، والدول الخارجة توا من تحولات سياسية كبيرة، وفى حالة القيادات السياسية الجديدة.
وبشكل عام، فقد استحوذ الخطاب المصرى فى المحافل الدولية بشكل عام، وداخل الأمم المتحدة بشكل خاص، على اهتمام عالمى ملحوظ خلال العامين الأخيرين، وذلك على خلفية التحولات السياسية الكبيرة التى جرت فى مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، ووصول قيادة سياسية جديدة إلى السلطة عبر انتخابات تنافسية، وذات رؤية مهمة، فضلا عن تطور ملامح «نموذج» مصرى مهم فى إطار خبرات الربيع العربي.
إن قراءة سريعة لمضمون الخطاب المصرى فى المحافل الدولية، تنتهى إلى تأكيد عدد من الدلالات المهمة. أولى هذه الدلالات هى عودة مصر بشكل قوى وواضح إلى ممارسة دورها الإقليمي، بجانب دور دولى فى الدفاع عن مصالح الدول الصاعدة، والدول النامية بشكل عام. وهو استنتاج يمكن تأكيده ليس فقط من خلال الخطاب المصرى فى افتتاح فعاليات الدورة 71 للجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن لابد من الرجوع هنا إلى أداء الدبلوماسية المصرية خلال العامين الأخيرين، والتى شهدت نشاطا كثيفا، كان عنوانه الأبرز هو انفتاح مصر على مختلف القوى الدولية، خاصة القوى الجديدة والصاعدة، بهدف خلق حالة من التوازن فى العلاقات والمصالح الخارجية المصرية، وتنويع تلك المصالح دونما إغفال أو إهمال للدوائر التقليدية فى السياسة الخارجية المصرية (خاصة الدائرة الغربية)، جنبا إلى جنب مع الالتحاق المصرى المكثف بقضايا الدول النامية والصاعدة. وفى هذا السياق، كان ملحوظا أيضا الانفتاح المصرى على المجموعات الدولية الصاعدة، وكان مؤشرها الأهم هو المشاركة المصرية الفعالة فى قمة مجموعة العشرين التى عقدت فى الصين خلال شهر سبتمبر الحالى. وبهذا المعنى، يمكن القول إن تركيز الخطاب المصرى الأخير داخل الأمم المتحدة على قضايا العالم والإقليم، بجانب مصالح الدول النامية والصاعدة، هو امتداد طبيعى لحالة الانفتاح التى تديرها الدبلوماسية المصرية، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومع أهمية الاستنتاجات السابقة، فإن هذا الانفتاح المصري، سواء بمعناه الجغرافي، أى الانفتاح على مختلف الأقاليم الجغرافية، أو بمعناه الموضوعي، أى الانفتاح على قائمة واسعة من القضايا الإقليمية والعالمية، والالتحاق بالجدل/ أو الصراع الدولى الدائر بشأنها، إنما يتجاوز التفسير الضيق المتعلق بعودة مصر إلى ممارسة دورها الخارجى التقليدى بعد استقرار الأوضاع الداخلية وتجاوز التأثيرات المباشرة لثورتى يناير 2011 ويونيو 2013، ليثير تساؤلا مهما حول الدور الذى يمكن أن تلعبه مصر كقوة «وسطى» middle power فى النظام الدولى فى مرحلته الراهنة. ويقصد بالقوى «الوسطى» هنا مجموعة الدول التى تمتلك القدرة على التأثير فى السياسات الإقليمية والعالمية، فى مرحلة ما من عمر النظام الدولى القائم، على نحو قد يؤثر على اتجاه تطور هذا النظام، خاصة فى مراحله الانتقالية.
هناك بالطبع خلاف كبير بين منظرى العلاقات الدولية حول مؤشرات «القوة الوسطى»، والشروط التى يمكن على أساسها اعتبار دولة ما «قوة وسطى» داخل النظام الدولى فى مرحلة ما. فقد أعطى أنصار المدرسة الواقعية الاعتبار الأكبر لمؤشرات ومصادر القوة المادية، خاصة حجم الدولة (المساحة، والسكان)، وحجم الناتج المحلى الإجمالي، والقدرات العسكرية (التقليدية وغير التقليدية)، باعتبار أن القدرات المادية هى التى تؤسس لامتلاك «القدرة» capacity على صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية، وحماية المصالح الوطنية، والقدرة على دفع الآخرين أو إجبارهم على احترام هذه المصالح، والقدرة على ردع الفاعلين الآخرين وتوجيههم فى اتجاه محدد. هذه المؤشرات تنسجم مع رؤية المدرسة الواقعية للنظام الدولى باعتباره نظاما هرميا «دالة» فى هيكل توزيع القدرات المادية. ومن ثم، ووفقا لهذه المدرسة، فإن القوى الوسطى داخل النظام الدولي، هى تقريبا القوى التى تقع فى منطقة وسط بين الدول الصغيرة والقوى الكبرى، استنادا إلى هيكل توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية. وفى المقابل، تعطى المدرسة الليبرالية الاعتبار للمتغيرات غير العسكرية وغير المادية، خاصة الموقع الجغرافي، والقيادة السياسية والقدرات الدبلوماسية. وهكذا، فقد فتحت المدرسة الليبرالية المجال أمام إمكانية تصنيف دول ضمن فئة «القوى الوسطى» لا تمتلك بالضرورة القدرات الاقتصادية والعسكرية أو الحجم، لكنها تعتمد على توظيف قدرات أو أدوات أخرى بديلة مثل وجود قيادة سياسية قوية، لديها رؤية واضحة فى التعامل مع القضايا الإقليمية والعالمية.
أما «المدرسة السلوكية» behavioral school فقد أعطت الاعتبار الأهم للسلوك الخارجى للدولة كمؤشر رئيسى فى تحديد «القوى الوسطى». وفى هذا الإطار، حددت المدرسة السلوكية ملامح «القوى الوسطى» بأنها قوى تسعى إلى التركيز على الحلول متعددة الأطراف (غير أحادية الجانب) للمشكلات الدولية، والميل إلى تبنى الحلول والسياسات التوافقية فى إدارة الصراعات. ومن ثم، فإن «القوى الوسطى» هى قوى ليست فى تحد مع النظام الدولي، ولا تميل إلى التغيير العنيف للسياسات الدولية أو هيكل هذا النظام، ولا تقبل ببديل الحروب والأدوات العسكرية كأدوات لتنفيذ السياسة الخارجية، وتعلى من احترام القانون الدولي، والعمل من خلال المؤسسات الدولية ومتعددة الأطراف.
وهكذا، ووفقا للعديد من الأدبيات، فإن تحديد «القوى الوسطى» لا يستند بالضرورة إلى المؤشرات أو القدرات المادية، ولكنها دالة فى عدد كبير من المتغيرات المادية وغير المادية، الأمر الذى يفتح المجال لضم دول لا تمتلك القدرات المادية (الاقتصادية والعسكرية)، لكنها القدرة على التأثير فى السياسات الإقليمية والعالمية.
وتعتمد فعالية «القوى الوسطى» داخل النظام الدولى على عوامل عدة، منها طبيعة النظام الدولى ذاته؛ فلاشك أن قدرة هذه القوى على التأثير فى السياسات العالمية والإقليمية تكون أكبر فى حالة النظام الدولى متعدد الأطراف، وفى مراحل «السيولة» الدولية التى ترتبط بمراحل الانتقال، خاصة مراحل الانتقال من النظام أحادى القطبية إلى النظام متعدد الأقطاب، مثل المرحلة الراهنة فى النظام الدولى الحالي. كما تعتمد على طبيعة توجهات الدولة المهيمنة فى حالة النظام أحادى القطبية؛ بمعنى هل تتبنى توجهات تعاونية أو توجهات صراعية فى علاقاتها بوحدات النظام الدولى ومؤسساته؟ فلاشك أن تبنى القوة الأحادية توجهات تعاونية مع وحدات النظام الدولى يخلق هامشا أكبر للقوى الوسطى بالمقارنة بحالة تبنى القوة المهيمنة توجهات صراعية تجاه وحدات النظام. كذلك تزداد قدرة «القوى الوسطى» على التأثير فى السياسات العالمية كلما زادت قدرتها على التمسك بعدم الانضمام إلى الأحلاف الدولية، سواء على مستوى النظام الدولى أو على المستوى الإقليمي، وكلما زادت قدرتها على العمل الجماعى والتنسيق فيما بينها.
مقومات الدور المصرى كقوة وسطى فى النظام العالمي
استنادا إلى التحليل السابق، تمتلك مصر فرصة كبيرة للتأثير فى السياسات الدولية على أرضية «القوى الوسطى» فى النظام الدولي، سواء على خلفية طبيعة هذا النظام، أو على خلفية ما تمتلكه مصر من مقومات مهمة للقوى الوسطى.
ففيما يتعلق بطبيعة النظام الدولى الراهن، وعلى الرغم من استمرار السمات الهيكلية للنظام أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة، لكن المرحلة الحالية تتسم بوجود فرصة كبيرة للقوى الوسطى، ومن بينها مصر، للتأثير فى السياسات الإقليمية والعالمية. أولى تلك السمات هى حالة السيولة النسبية فى هيكل النظام الدولي، استنادا إلى التحولات الجارية فى هيكل توزيع القدرات النسبية (الاقتصادية والعسكرية) للفاعلين الدوليين فى اتجاه تراجع القدرات الأمريكية وصعود «أقطاب» جديدة ممثلة فى الصين، وروسيا، واليابان، بجانب مجموعة من الاقتصادات الصناعية الجديدة. ثانيتها تتعلق بتصاعد التوجهات التعاونية للقوى الدولية الأكثر تأثيرا فى السياسات الإقليمية، أبرز مؤشراتها الاتفاق الغربي- الإيرانى فيما يتعلق بالبرنامج النووى الإيراني، وما تبعه من تحسن نسبى ملحوظ فى العلاقات الأمريكية- الإيرانية، و«التوافق» الأمريكي- الروسى فيما يتعلق بالأزمة السورية، والتحسن الملحوظ فى العلاقات الروسية- التركية. وتأتى هذه التحولات بعد فترة من التوجهات العدائية والصراعية، سواء فيما يتعلق بالعلاقات الغربية- الإيرانية، أو فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية- الروسية بشأن الأزمة السورية، أو فيما يتعلق بالعلاقات الروسية- التركية على خلفية الأزمة السورية، الأمر الذى يشير إلى أن موجة من التحولات تشهدها علاقات القوى الدولية بالنظام الإقليمى فى اتجاه التحول من نمط العلاقات الصراعية إلى نمط من العلاقات القائمة على درجة أكبر من التوافق، دون أن يعنى بالضرورة تسوية المشكلات أو الأزمات الإقليمية، سواء مشكلة الإرهاب، أو الأزمة السورية، أو حتى أزمة البرنامج النووى الإيرانى نفسها، إذ مازال البعض يرى أن التسوية التى تمت هى تسوية مؤقتة وهشة ستتعرض لتحديات كبيرة فى المستقبل، لعوامل تتعلق بالتغيرات المستقبلية فى طبيعة النخبة الحاكمة فى إيران أو الولايات المتحدة.
أما فيما يتعلق بمقومات القوى «الوسطى»، فيمكن القول هنا إن مصر الراهنة تمتلك بالفعل عددا من المقومات الحقيقية التى تؤهلها للتحرك كقوى وسطى. ونشير هنا إلى ثلاثة مقومات أساسية.
الأول، يتعلق بتمتع مصر بما يمكن تسميته بقوة «النموذج»؛ فعلى العكس مما انتهت إليه حالات عديدة من دول الربيع العربى من انهيار الدولة أو دخولها على أقصى تقدير فى حالة «الدولة المأزومة» (حالات ليبيا، وسوريا، واليمن)، فقد أثبتت الدولة المصرية قدرة على البقاء فى مواجهة كل التحديات التى ارتبطت بهذا «الربيع». كما استطاعت مؤسسات الدولة، جنبا إلى جنب مع قوى المجتمع، إثبات قدرة نادرة على الانتصار لهدف الحفاظ على الدولة فى مواجهة «المشروع « الموازى للقوى الدينية، والذى كان ينطوى على تهديد للدولة ولهوية المجتمع معا. وتأتى قوة هذا «النموذج المصري» أنه قطع الطريق على انهيار مؤسسة «الدولة الوطنية»- باعتبارها الوحدة الأساسية للنظام الإقليمى العربى بل وللنظام الدولى فى مواجهة مشروعات الدولة الدينية أو الفاعلين دون الدولة. ولا تقتصر قوة النموذج المصرى على هذا البعد فقط، إذ يستند أيضا على نجاح ملحوظ فى التعامل مع تحدى الإرهاب -رغم التكلفة التى دفعها المجتمع ومؤسسات الدولة- مقابل فشل واضح للقوى الدولية النافذة فى التعامل مع تحدى الإرهاب والتنظيمات الإرهابية والتكفيرية فى المنطقة. أضف إلى هذين البعدين بعدا ثالثا لا يقل أهمية وهو نموذج السلام القائم مع إسرائيل وتمسك مصر بهذا السلام، بل ودعوتها إلى استلهام هذا النموذج فى علاقات دول المنطقة.
هذا «النموذج» المصرى يمثل، من ناحية، مصدرا للقوة الناعمة لمصر كقوة وسطى، كما يضفي، من ناحية أخرى، درجة كبيرة من المصداقية على الرؤى المصرية بشأن القضايا الإقليمية والعالمية، خاصة تلك التى يمثل النموذج المصرى دلالات مهمة بشأنها (السلام الإقليمى العادل، تحدى الإرهاب، أزمات دول الربيع العربى فى المنطقة: سوريا، اليمن، ليبيا). وقد كان الرئيس السيسى واعيا بأهمية الترويج ل«النموذج المصري» فى هذا السياق، بل والربط بينه وبين الأمن الإقليمي، ووجود مصلحة دولية فى حماية هذا النموذج، وذلك عندما أشار فى كلمته أمام الجمعية العامة إلى أنه «فى وسط تلك التحديات التى يموج بها النظام الدولي، استطاع شعب مصر أن يفرض إرادته لتحقيق الاستقرار وحماية الدولة ومؤسساتها، بل وتحصين المجتمع من التشرذم والانزلاق نحو الفوضى»… و«مازالت منطقة الشرق الأوسط تموج بصراعات دامية، إلا أن مصر استطاعت أن تحافظ على استقرارها وسط محيط إقليمى شديد الاضطراب، وذلك بفضل ثبات مؤسساتها ووعى الشعب المصرى بموروثه الحضارى العميق، وهو أمر يتعين على المجتمع الدولى إدراكه ودعمه لما فيه مصلحة المنطقة والعالم بأسره، لتستمر مصر دوما ركيزة أساسية لاستقرار الشرق الأوسط».
الثانى، هو وجود قيادة سياسية لديها القدرة على الالتحاق بالجدل الدولى الدائر بشأن القضايا الرئيسية المثارة على أجندة النظام الدولى والأنظمة الإقليمية. وهو مقوم شديد الأهمية لاضطلاع دولة ما بدور القوة الوسطى فى النظام الدولي. هذا الاستنتاج يمكن الوصول إليه ليس فقط من خلال قراءة كلمات الرئيس السيسى داخل أروقة الأمم المتحدة خلال الأسبوع الماضي، سواء أمام الجمعية العامة، أو داخل مجلس الأمن، أو مجلس السلم والأمن الأفريقى الذى عقد على هامش الجمعية العامة، ولكنه يتأكد بشكل واضح من خلال الرجوع إلى كلمات السيسى أمام القمة الحادية عشرة لمجموعة العشرين التى عقدت فى مدينة هانجتشو الصينية خلال الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الحالى، وتصريحاته المهمة بشأن عملية السلام فى الشرق الأوسط. فقد تضمنت هذه الكلمات التحاق القيادة السياسية المصرية بالجدل الدائر حول قائمة واسعة من القضايا الإقليمية والعالمية، شملت على المستوى الإقليمي: الأزمة السورية، والأزمة اليمنية، والأزمة الليبية، والقضية الفلسطينية، والصراع العربي- الإسرائيلي، والأمن القومى العربي، والأمن القومى الخليجي. وشملت على مستوى قضايا النظام الدولي: مكافحة الفساد، والحوكمة الاقتصادية والمالية الدولية، وأمن الطاقة، وأهداف المستدامة 2030، وتوسيع دور الدول النامية والصاعدة فى إدارة قضايا الاقتصاد العالمى وتأكيد حقها فى نصيب أكبر من التجارة الدولية، ووضع آليات أكثر عدالة للتمويل ونقل التكنولويجا، بالإضافة إلى قضايا تغير المناخ.
بل أكثر من ذلك، فقد كان ملحوظا وضوح الاهتمام المصرى بالقضايا الأمنية المهمة خارج إٍقليم الشرق الأوسط، وكان المثال الأبرز هو تأكيد الرئيس السيسى خلال لقائه رئيسة كوريا الجنوبية، بارك جيون هاي، على هامش قمة مجموعة العشرين الأخيرة، حرص مصر على أمن واستقرار منطقة شرق آسيا بشكل عام، وشبه الجزيرة الكورية بشكل خاص، ودعم مصر وتأييدها جميع الجهود التى تستهدف تسوية النزاعات فى شبه الجزيرة الكورية من خلال الوسائل السلمية، وهو تصريح شديد الدلالة والأهمية ليس فقط فيما يتعلق بالعلاقات المصرية- الكورية (الجنوبية)، ولكن فيما يتعلق بوضوح الموقف المصرى من الأزمة الرئيسية فى منطقة شرقى آسيا متمثلة فى الصراع الكوري- الكوري.
ولم يقتصر الأمر على وجود توجه واضح لدى القيادة السياسية المصرية لإلحاق مصر بالجدل الدولى بشأن القضايا الإقليمية والدولية، ولكنه شمل أيضا- وذلك هو الأهم- طرح القيادة السياسية تصورات ورؤى محددة بشأن هذه القضايا، استنادا إلى الخبرة المصرية. كان ملحوظا تقديم مصر رؤية نقدية لعدد من القضايا والظواهر، كان مثالها الأهم الرؤية النقدية لظاهرة العولمة بالنظر لما «أفرزته من بعض التحديات الاجتماعية والاقتصادية»، وما ارتبط بها من «زيادة الفقر واتساع فجوة عدم المساواة واهتزاز العقد الاجتماعى بالعديد من الدول النامية»، وذلك على نحو ما جاء فى كلمة رئيس الجمهورية أمام الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة. وفى سياق الرؤى النقدية المصرية أيضا للسياسات الدولية الراهنة، يأتى النقد المهم الذى قدمه الرئيس السيسى فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لسياسة التدخل العسكرى فى منطقة الشرق الأوسط، وهى رؤية تستند إلى تشخيص دقيق للأزمة الراهنة فى الإقليم. فقد توسعت القوى الكبرى فى استخدام آلية التدخل العسكري، والتى تحولت إلى أحد الملامح الرئيسة للنظام الدولى الراهن، كآلية للتغيير السياسى ولنشر الديمقراطية، أو لإعادة بناء الدولة، أو للقضاء على الإرهاب (على نحو ما حدث فى أفغانستان والعراق وليبيا). لكن الواقع الفعلى انتهى إما إلى بناء ديمقراطيات هشة وسياسات طائفية، أو إلى مزيد من انتشار التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، أو إلى انهيار الدولة ذاتها، أو إلى كل ذلك، الأمر الذى يعطى الرؤية النقدية المصرية لسياسة التدخل العسكرى درجة كبيرة من المصداقية. فقد أضحت سياسة التدخل العسكرى جزءا من أزمات المنطقة وليس جزءا من الحل والبناء.
واتساقا مع طبيعة القوى الوسيطة، فقد قامت الرؤية المصرية على إعلاء مفاهيم الحوار، والتعايش داخل الأسرة الدولية، وقبول الآخر، والسلام العالمي، والتسوية السلمية للصراعات، وإعلاء مبدأ تعدد الأطراف، والحوكمة الدولية، والالتزام بمبادئ القانون الدولي. ويكفى هنا الرجوع إلى كلمات وحوارات الرئيس السيسى فى مختلف المحافل والمنتديات الدولية، والصحافة العالمية، خلال العامين الأخيرين للوقوف على حجم تكرار مثل هذه المفردات، ومرادفاتها، والأهمية التى أولتها القيادة السياسية لهذه المفردات داخل الخطاب السياسى الدولى المصري.
الثالث، يتعلق باندماج مصر فيما يمكن أن نطلق عليه شبكة البنية التحتية للنظام الدولى التى تدار من خلالها التفاعلات الدولية، والتى تضطلع بإدارة عملية الانتقال الجارية فى هيكل النظام الدولي، أبرز ملامح هذا الاندماج هو توقيع مصر على معاهدة الصداقة والتعاون مع دول الآسيان فى 6 سبتمبر 2016، ومشاركتها كعضو مؤسس فى «البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية الأساسية» AIIB فى أبريل 2015. وكان آخر ذلك التوجه هو دعوة مصر للمشاركة فى القمة الأخيرة لمجموعة العشرين كعضو مراقب. وتأتى أهمية هذه المنتديات والمجموعات، كما سبق القول، إنها مسئولة إما عن إدارة النسبة الأكبر من العلاقات الاقتصادية والتجارية فى العالم، أو أنها باتت مسئولة عن إدارة التحول فى هيكل وأجندة النظام الاقتصادى والمالى العالمي، مقابل تراجع المؤسسية الدولية التقليدية.
وتأتى أهمية هذا المقوم، أنه يفسح، المجال، من ناحية، لمصر لمزيد من الاندماج فى المؤسسات الدولية الجديدة ومن ثم تصبح مصر جزءا من المشهد الدولى العام وجزءا من عملية إدارة الانتقال فى النظام العالمي، كما أنه يضفي، من ناحية أخرى، درجة أعلى من المصداقية على الخطاب المصرى سواء فيما يتعلق بقضايا النظام العالمي، أو القضايا الإقليمية.
وعلى الرغم من وجود قوى وسطى عديدة داخل النظام العالمى الراهن، فإن دور مصر يكتسب أهميته بالنظر إلى كونها قوة وسطى شرق أوسطية؛ فبالعودة إلى خبرات الانتقال فى النظام العالمي، يلاحظ أن إقليم الشرق الأوسط حظى بالدور الأكبر فى تدشين عمليات الانتقال تلك خلال القرن الأخير. فقد كانت أزمة السويس سنة 1956 كاشفة عن أفول القوى الأوروبية وتطور نظام القطبية الثنائية الذى سيطرت عليه الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفيتي. كما كانت الأزمة العراقية- الكويتية، وما تبعها فى سنة 1991، كاشفة عن عمق التغير الذى حدث فى هيكل النظام العالمى وتوزيع القدرات النسبية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومقررة لتحول النظام العالمى من نظام الثنائية القطبية إلى نظام أحادى القطبية. وقد ذهبت تحليلات عديدة إلى اعتبار الأزمة السورية الراهنة هى حلقة مهمة فى سلسلة الأزمات الإقليمية التى ستكشف فى النهاية عن الانتقال المتوقع فى هيكل النظام العالمى الراهن (بجانب أزمات إقليمية أخرى مثل أزمة البرنامج النووى لكوريا الشمالية، وأزمة الحرب الروسية- الجورجية فى أغسطس 2008، ثم الأزمة الأوكرانية سنة 2014) فى اتجاه تطور نظام متعدد الأقطاب.
لاشك أنه فى حالة عزوف القيادة السياسية عن الالتحاق بهذا الجدل، أو العزوف عن طرح رؤى مصرية محددة أمام المجتمع الدولى بشأن هذه القضايا، وانحيازها إلى سياسة «الانكفاء الداخلي»، استنادا إلى الانشغال بالقضايا والتحديات الداخلية، كان من شأنه إبعاد مصر عن إدارة عملية الانتقال الجارية فى النظام الدولي، لمصلحة قوى أخرى فى الإقليم أو خارجه. ذلك أن وجود تحديات داخلية لا ينفى بحال من الأحوال إمكانية الاضطلاع بدور القوة الوسطى فى المرحلة الحالية فى حياة النظام الدولي، استنادا إلى مقومات مهمة لا ترتبط بالضرورة بالقدرات الاقتصادية والعسكرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.