المؤشرات تزداد علي اتساع التدخل العسكري الأمريكي المباشر، ومن خلفه القوات البريطانية والفرنسية صاحبة التاريخ الاستعماري الواسع والطويل، ومن خلفهما باقي دول حلف الناتو، وتراجع الرئيس الأمريكي أوباما عن وعده بسحب كل القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، بل زاد من عدد القوات دفعة تلو أخري، وتبدد قسمه بألا تطأ قدم جندي أمريكي سوريا، فإذا بها لا تكتفي بالوطء، بل تشارك في العمليات بشكل مباشر، وهكذا الوضع في ليبيا وشرق أوروبا وجنوب شرق آسيا، فهل عاد الاستعمار القديم؟. تأتي هذه الخطوات علي عكس معظم التوقعات التي رأت أن الاستعمار الجديد لم يعد بحاجة إلي الجيوش والسيطرة المباشرة علي البلدان الأخري، وأن الاحتكارات عابرة القومية ستقوم بهذا الدور، وقادرة بأدواتها المالية والاقتصادية في الهيمنة الكاملة علي العالم، وأنها سوف تتوحد، لتلغي الحدود السياسية للدول. النزعات القومية تزداد، بل إن اليمين المتطرف يصعد في معظم مراكز الدول الرأسمالية الكبيرة، وشبح الحروب القومية أصبح يجثم علي العالم، ولا يقيده سوي الخوف من أن اندلاع حرب جديدة سوف تكون عالية التكلفة بشكل قد لا تتحمله الإنسانية، في ظل التطور الرهيب للأسلحة النووية والتقليدية، ولهذا تدير حروبها ببطء وهدوء، بضربة هنا وأخري هناك، ولجأت غالبا إلي استخدام الوكلاء، لتجنب الاحتكاك المباشر شديد الخطورة. لم تتغير خريطة الصراعات عما كانت عليه قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، فمازالت روسياوالصين تشكلان العدو الرئيسي للولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، وأضيفت إيران، التي فرضت نفسها كقوة إقليمية متمردة علي السياسة الأمريكية، وظهرت مجموعة «بريكس» كبديل عن حلف وارسو، وتشن الولاياتالمتحدة حربا باردة لاستعادة أمريكا اللاتينية إلي حظيرة الطاعة، وفي مقدمتها البرازيل وفنزويلا. الخطاب الرأسمالي المتطرف ذو الصبغة الوطنية لابد أن يكون عنصريا، ولهذا لم يكن غريبا أن نري شبح العنصرية ضد السود يطل من جديد في الولاياتالمتحدة، بعد عقود ظن فيها الجميع أن العنصرية حقبة مرت في التاريخ بلا رجعة، لكن حوادث العنف بين الشرطة الأمريكية والسود تصاعدت بشكل خطير، ولا يمكن اعتبارها حوادث فردية أو عابرة، فقد سقط نحو ألف قتيل من السود علي أيدي الشرطة عام 2014، وأن 85% من الموقوفين في مراكز للاشتباه هم من السود، الذين لا يشكلون سوي 16% من السكان، وهم الأغلبية في الفئات الأشد فقرا والعاطلين والسجناء، وكلها مؤشرات تؤكد أن العنصرية متجذرة في المجتمع الأمريكي. الجديد هو ظهور مؤشرات قوية علي تنامي المقاومة المنظمة للسود والملونين والأقليات العرقية التي تشعر بالاضطهاد العنصري، ورأينا تنظيم مظاهرات متزامنة في العديد من الولايات، ترفع شعارات موحدة تندد بالعنصرية، وتهدد بالثأر، وهو ما ظهر فعلا في عمليات اغتيال عدد من ضباط الشرطة البيض. وتفاقمت أحداث العنف يوم الأربعاء الماضي في مدينة شارلوت عاصمة ولاية كارولينا، واندلعت مظاهرات ضخمة، اصطدمت مع الشرطة، عقب مقتل مواطن أسود علي يد شرطي، لتؤكد أن الأوضاع تكاد تصل حد الانفجار الواسع، فالمتظاهرون أحرقوا عددا من المنشآت، واستدعي حاكم الولاية قوات الحرس الوطني ليتمكن من السيطرة علي المظاهرات الضخمة والعنيفة للسود. ويمكن رصد نشاط سلفي وأفكار أشد رجعية بشكل متزايد في الكنائس الأمريكية، تزامن مع اتساع الحوادث العنصرية، ورأينا كيف أن بوش الابن استخدم كلمات تغازل المسيحية «السلفية» عند غزوه العراق. ولم تكن أوروبا بعيدة عن هذا البعث الجديد للشعارات العنصرية، موجهة ضد المهاجرين، أو المواطنين من أصول غير أوروبية، ورأينا أن موجة الهجرة الجديدة التي أعقبت الحرب علي سوريا قد أسهمت في صعود اليمين العنصري في أوروبا. لقد كانت الحرية والمساواة هي شعار الرأسمالية «المقدس» في فترة صعودها، وتحول إلي مبادئ تجذرت بالممارسة وأصبحت أسلوب حياة، غير أن التحولات التي مرت بها الرأسمالية، وأصبحت فيها قوة محافظة، تريد الحفاظ علي امتيازاتها، علي حساب الطبقات الشعبية داخلها، والشعوب المستعمرة خارجها، جعلت من الحرية والمساواة شعارات خالية من أي مضمون حقيقي، وتبقي منها القليل الذي لا يمكن لمواطنيها أن تسمح بالتخلي عنه بسهولة، لكن شعور الرأسمالية بخطر إزاحتها عن عرش السيطرة علي العالم، وظهور منافسين جدد لها مثل الصينوروسيا، بينما تعاني أزمات جعلها تستدعي كل التراث الرجعي، حتي أنها استعانت بأشد الجماعات همجية، مثل تنظيمات القاعدة وداعش وغيرها، والتي اعتمدت في توجهاتها علي نفايات الفكر السلفي الإسلامي، ووجدت أمريكا وحلفاؤها في هؤلاء أدوات رخيصة وسهلة في تنفيذ مشروعها الاستعماري الجديد. إن التطور العلمي المذهل في العقود الأخيرة، والذي شمل الفضاء والاتصالات والطب والفيزياء، ووصول الإنسان إلي المريخ لم يمنع أن تتفشي هذه الأفكار العنصرية، والاستعانة بأشد الجماعات همجية، وهو ما يكشف عن ضيق أفق الرأسمالية، وأنانيتها الشديدة وخطورة سلوكها علي البشرية، خاصة في فترات أزماتها وشعورها بخطر اضمحلالها، واتضح أنها لن تترك وسيلة، مهما بلغ انحطاطها، إلا واستخدمتها لتحقيق مصالحها، مهما تكن المخاطر والفظائع الناجمة عنها. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد