أزمة جديدة خرجت الي النور في اطار عمليات الاحتجاجات علي الأجور, ولم تكن مجرد المطالبة بصرف حوافز أو اجور متأخرة لم يتم صرفها من قبل بعض المؤسسات, ولكنها تحولت الي حكم من محكمة القضاء الإداري بضرورة الا يقل الحد الأدني للأجور عن1200 جنيه شهريا. وهذه القضية متشعبة اذ نري ضرورة تحسين أوضاع المرتبات والأجور في مصر, والبداية هي وضع حد أدني للأجور يتناسب مع مستوي المعيشة ومتطلباتها واحتياجاتها المتزايدة. غير اننا يجب أن نضع في حسباننا الآثار الأخري لهذا القرار, فضلا عن مسألة تمويل الحكومة لها وقدرتها علي الوفاء بتلك الزيادة.. اننا نطرح في البداية السؤال التالي: هل القضية هي حد أدني للأجور أم اصلاح كامل لسياسة الأجور والحوافز في مصر؟. في اعتقادنا أن المسألة أكبر وأهم من مجرد وضع حد أدني للأجور فهي تتطلب اصلاحا هيكليا للأجور لكل مستويات الأجور فلا يمكن تعديل الحد الأدني للأجور دون أن يصيب هذا أيضا باقي مستويات الأجور فلا يعقل تعديل بداية الأجور, في الحكومة دون تعديل أجور باقي الدرجات ذلك أن اصلاح الأجور يتعين أن يكون شاملا. وهنا مكمن المشكلة اذ ليست المسألة هي تعديل الأجور في حدها الأدني ولكنها تعديل شامل لجميع مستويات الأجور وهي مسألة تجعل الحكومة ان لم ترفضها فهي تفكر فيها مليا, ثم ترفضها لأعبائها المالية الشديدة. ويبرز السؤال: من أين يمكن أن يتم تمويل هذه الزيادات في الأجور ان حدثت, وفي تصورنا انها ليست معضلة, ولكن هناك الكثير من الموارد التي تستطيع الدولة الحصول عليها علي ما سوف نتناوله ونشير اليه. هناك أيضا علي جانب آخر أثر وضع هذا الحد الأدني للأجور علي تكاليف الانتاج سواء في الصناعة أو غيرها, وبالتالي سوف يؤدي الي زيادة تكاليف الانتاج وفقدان ميزة استثمارية هي ان مصر تتميز بتوافر الأيدي العاملة الرخيصة. كما أن ارتفاع الأجور علي هذا النحو سوف يكون جاذبا لاستقدام عمالة خارجية خاصة أن كثيرا من المستثمرين يفكرون في هذا مليا. وفي كل الأحوال سوف يؤدي هذا الي ارتفاع شديد في الاسعار ومتواصل يداهم الزيادة في الأجور دون أن تقابلها قوة رادعة تحكم تلك الزيادات وغياب دور الدولة في إحداث التوازن في السوق وهو الدور الذي كان يجب ان تلعبه وزارة الاستثمار بما لها من امكانيات انتاجية وتسويقية وتوزيعية. وكذلك وزارة الصناعة والتجارة. بعبارة أخري فإن هيكل الأجور في مصر يحتاج الي إعادة نظر متكاملة تستهدف تعديل هذا الهيكل وتحسين جميع مستوياته, ومن المتصور أن تكون نقطة البداية هي ضم جميع ما يحصل عليه الموظف أو العامل من مزايا مادية كالحوافز والاجر الاضافي وغيرها الي الاجر الاساسي, وبالتالي يصبح رقم الاجر محترما وليس هزيلا وبشرط ان يوضع نظام للثواب والعقاب يطبق بصرامة وحزم شديد وايضا انهاء ظاهرة أجور الحكومتين وليس الحكومة الواحدة إذ إن بعض السادة الوزراء قد لجأ الي الاستعانة بالبعض للعمل معهم بالوزارة وبأجور خيالية لا نعرف من أين يتم تدبير تمويلها هل من الميزانية أم من المعونات, وهو أمر قد أدي الي اندلاع الاحباط بين العاملين في الوزارة الواحدة, فهناك طبقة عليا وافدة تحصل علي الآلاف شهريا, وهناك طبقة اخري مطحونة. ومن الامور المهمة التي يمكن ان خفف معاناة انخفاض الاجور هو ضرورة توصيل الدعم الي مستحقيه ورغم سخافة هذه العبارة والملل من كثرة ترديدها إلا أنه لايعقل ان اكثر من ثلثي الدعم يذهب الي الاغنياء ويبقي للفقراء الثلث, ولاشك ان اعادة الامور الي نصابها وحصول الفقراء علي الدعم سوف يساعد علي تحسين احوالهم المعيشية دون ان تكون المطالبة بزيادة الحد الادني للاجور هو المنقذ الوحيد لذلك. ونعود الي السؤال: من أين يمكن للحكومة تدبير التمويل اللازم, لاسيما وأن الموازنة بها عجز متزايد ودين عام متزايد؟ إننا هنا نغفل ما يسمي العدالة الاجتماعية وقد تحدثنا عنها مرارا مسبقا, ويقتضي الامر اتخاذ عدة قرارات لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقريب فوارق الدخول والفجوة الضخمة في دخول الناس, خاصة أنه لايقابل المطالبة بوضع حد ادني للاجور ان تكون هناك حدود قصوي او حد اعلي للدخول وهو امر يستحيل عمليا. ومن ثم فإن امامنا بعض الطرق والوسائل التي يمكن من خلالها تدبير التمويل المطلوب وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذه الوسائل تدخل ضمن دور الدولة في اطار اقتصاد السوق او الاقتصاد الحر فهي لاتترك الاقتصاد غابة يأكل فيها الكبير الصغير, أو غابة من الاحتكارات, أو غابة تتزايد فيها الفوارق الطبقية بشكل مريع فهي هنا تتدخل تحت عنوان العدالة الاجتماعية حيث تمارس الدولة هذا الدور في إطار ما يسمي المسئولية الاجتماعية. ماذا يمكن ان تفعل الحكومة؟ هناك العديد من الخطوات والوسائل: أولا: تحويل الضريبة الموحدة علي الدخل(20%) الي ضريبة تصاعدية فتكون هناك شريحة تالية مثلا بمعدل25% نظرا للزيادات الكبيرة في الدخول والارباح التي تحققت خلال السنوات الاخيرة. وهي ضريبة يجب ان تدفع عن رضي لأن ما أنجزته الدولة من إصلاح أدي إلي تحقيق أرباح ضخمة لدي البعض. ثانيا: مراجعة التحصيل في مركز كبار الممولين ومتابعته لتحصيل حقوق الدولة من ضرائب لدي كبار الممولين الذين دفعوا جزءا وتقاعسوا عن سداد نسبة كبيرة مما هو مفروض عليهم من ضرائب. ثالثا: فرض ضريبة جديدة علي التصرفات العقارية وهي غير الضريبة العقارية حيث تختص الضريبة المقترحة بعمليات نقل الملكية في الاراضي والفيلات والقصور والشقق إذ لايمكن ان تتم عمليات الاتجار في العقارات والاراضي والفيلات بما يصل الي مليارات دون ان تمتد إليها يد الدولة الضريبية. كيف يمكن تصور حصول من يبيع وحدات سكنية بعدة ملايين علي اعفاء ضريبي. رابعا: فرض ضريبة علي الدخان خاصة الدخان الخاص بالشيشة إذ لا يعقل ان تحقق( الكافيهات والمقاهي) ملايين الارباح من الدخان في الهواء دون ان تمتد الضرائب الي علب دخان الشيشة. خامسا: فرض ضريبة علي الارباح التي تحققها الاسهم في البورصة وتصل في استراليا الي35% كذلك فرض ضريبة علي الاموال الاجنبية الداخلة الي الاستثمار في البورصة, وقد فرضتها البرازيل بنسبة2% وذلك لحماية الاقتصاد من المضاربات الوهمية والارباح الناتجة عن أنشطة غير انتاجية. تلك بعض الوسائل التي تحقق للدولة مليارات يمكنها استخدامها لإصلاح نظام الأجور. [email protected]