جاءت الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير فى كل ما يخدم مصلحة البلاد والعباد، دون إفراط أو تفريط. ومن هنا كان التنوع والاختلاف بين العلماء رحمة بالناس، ولكن ما نراه ونشاهده ونسمع عنه فى أداء مناسك الحج، من تدافع وتزاحم ووقوع وفيات وإصابات، يؤكد غير ذلك، فهل من المعقول أن يصل الاختلاف فى فتاوى الحج إلى حد التضارب والفوضى التى تؤثر على الحجاج وسلامتهم خلال أداء المناسك؟ طالب علماء الدين بالأخذ بالأيسر فى الفتوى خلال تأدية المناسك، حتى يتجنب الحجيج مخاطر التزاحم والتدافع وما ينتج عنه من وفيات وإصابات، مطالبين بضرورة التنسيق بين بعثات الحج الرسمية لإعداد «كوادر فقهية» مدربة فى المؤسسات الإسلامية، لمصاحبة تلك البعثات فى الأراضى المقدسة، بما يمكنهم من توعية وتوجيه الحجاج الى الأخذ بالأيسر فى الفتوى بما يوافق ويلائم الواقع، مع إبعاد الأدعياء وغير المتخصصين فى ذلك الشأن. مصاعب جمة يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن الحجيج الذين لا علم لهم بأحكام النسك يواجهون مصاعب جمة, لعل من أهمها: عدم الوقوف على أحكام كثير مما يؤدونه من مناسك الحج أو العمرة, وكيفية أدائها, وحكم تقديم شىء على شىء فيها, وما يجزئ فيه وما لا يجزئ, ولما كان الحج يجمع كثيرا من المسلمين من أنحاء الأرض, وكان منهم العارف بأحكام الشرع وفق مذهب واحد معين, ومنهم العارف بهذه الأحكام وفق مذهب آخر, وكانت آراء الفقهاء مختلفة فى كثير من فروع الفقه, وخاصة ما يتعلق منها بالنسك, كان من المتصور أن تتعارض الفتاوى أمام من يسأل عن الحكم فى مسألة معينة, هذا يفتيه بمذهب إمام, وذاك يفتيه بمذهب آخر, وثالث يفتيه بمذهب غيره, فإن من يؤدى النسك يكون فى حيرة من أمره, خاصة أنه يؤدى نسكا لا يقبل الإعادة, فإما أن يكون صحيحا أو فاسدا, أو توجب بعض المخالفات فيه تقديم هَدْى أو أكثر. وأضاف: إن الذين لهم تواصل مع علماء بلادهم الذين يثقون فيما يفتونهم به, يتواصل الحاج معهم عند أداء نسكه, ليسأل عن مدى صحة ما يؤديه, وما يجب عليه أن يفعله ليصح, والذى لا يستطيع التواصل مع هؤلاء العلماء, فإنه لن يجد إلا سيلا من الفتاوى قد يبعد به عن جادة الصواب, خاصة أن الغالب فيمن يرافق بعثات الحج من العلماء يختارون من أهل الثقة, الذين أزجت بضاعتهم, وضحل فقههم, ونضب علمهم أو كاد, ومعية هؤلاء للحجيج لا يتصور منها خير, ولذا كان على من يريد الحج أن يسأل عما يؤديه فى حجه من أول خروجه إلى أن يفرغ من نسكه, وليستفصل عن كل شيء, وليسأل من أدى الحج قبل ذلك, وما يقابل الحجيج من أمور جديرة بمعرفة الحكم فيها, فإن ذلك يضمن أن يؤدى حجه وفق أحكام الشرع, فإن الله سبحانه أمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم, فقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون), وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا, فإنما شفاء العيِّ السؤال». حلول عملية وحول التشدد فى فتاوى الحج ورمى الجمرات التى تحصد أرواح بعض الحجاج، يرى الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، أنه يمكن التخفيف من حوادث موت الحجاج عند التزاحم فى مكان الرمى باتباع عدة أمور، منها أن تقسم الأعداد الكبيرة جدا من الحجاج إلى مجموعات متعددة، كل مجموعة تعطى رقما معينا، ولا يسمح لأى مجموعة أن تتوجه من أماكنها إلى المرمى إلا بعد الإذن لها من هيئة مشرفة على توجيه الحجاج، من رجال شرطة وعلماء دين وغيرهم، فإذا انتهت المجموعة من الرمى ورجعت إلى مكان إقامتها، يسمح للمجموعة التالية على أن يكون التوجه للرمى والرجوع منه ليس سيرا على الأقدام، وإنما عن طريق ممر آلى متحرك سلالم متحركة تسير بحركة بطيئة، ليتمكن الحجاج من الرمى بسهولة ويسر، على ان يكون هناك مراقبون لذلك منعا للزحام والتدافع، ويكون التوجه للرمى من طريق، والرجوع من طريق آخر. وأشار إلى أنه لابد أن يؤخذ بالآراء المتعددة فى وقت الرمى، فالفقهاء القدامى لم يجمعوا على وقت الرمى، فيمكن توزيع أوقات الرمى على مجموعات الحجاج حتى لا يرمى الجميع فى وقت واحد، وحتى نجنب ملايين الحجاج الأخطار التى تهدد حياتهم، لأن الحج يشهد خليطا عجيبا من البشر، فهناك ثقافات متباينة ولغات متعددة، ولذلك لابد من الأخذ بالأيسر فى مناسك الحج، وأن يتم تطبيق ذلك خلال أداء المناسك، وأن تكون هناك لجان مشرفة على هذا التنظيم، وأن يتم فرض هذه الإجراءات، من خلال اللجان التى تشرف على التنظيم، وألا يسمح لأحد بمخالفتها، وأن يتم الأخذ بالأيسر حفاظا على حياة الحجاج، مطالبا بضرورة مواجهة المتشددين وغير المتخصصين فى مجال فقه العبادات الشرعية، وهؤلاء يوجدون فى أثناء أداء المناسك، ولذلك لابد أن يقوم المسئولون عن الحج، بمنع هؤلاء من الفتوى فى أثناء أداء المناسك، وأن يلتزم الجميع بالفتاوى التى صدرت عن الجهات المتخصصة والمجامع الفقهية المعترف بها. كوادر فقهية فى سياق متصل، يؤكد الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن توعية وإرشاد وتوجيه وتثقيف حجاج بيت الله الحرام بكيفية أداء المناسك مسبقا قبل الذهاب إلى الأراضى المقدسة ضرورة شرعية، تجنبا للدخول فى الجدل والنقاش من جانب من يجهلون الأحكام، مشيرا الى ضرورة إعداد «كوادر فقهية» مدربة على قواعد الإفتاء الصحيح، وكيفية القول بالتيسير فى الفتاوى بما لا يحدث تفريطا أو تشددا فى الرأي، بحيث تكون هذه الكوادر مصاحبة لأفراد البعثة فى كل أماكن المناسك، موضحا أن على كل دولة فى العالم الإسلامى أن يكون لديها كوادر فقهية، يفتون بما يتناسب مع واقع الناس، مع إبعاد الدخلاء على الفتوى والدعوة وغير المتخصصين، ومناشدة البعثات الرسمية للدول بالتنسيق مع الجهة المسئولة فى السعودية لتحقيق ذلك الأمر. وأشار إلى أن اختلاف الفتاوى فى الحج إنما جاء رحمة بالعباد، خاصة أن أحكام الشريعة، مبنية على التيسير وليس التعسير، والقاعدة معلومة للجميع بأينما وجدت مصلحة العباد فثم شرع الله«، وأفعال النبى صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء على الإلزام ومنها ما جاء على الاستحباب، لذا من الضرورى على الدعاة الذين يذهبون مع بعثات الحج، أن يكونوا على دراية بفقه الواقع والأولويات، حتى يفتوا للناس بما يصلح ويعينهم على أداء الفريضة فى سهولة ويسر. افعل ولا حرج وحول تضييق بعض من يتصدرون للفتوى على الحجيج مما يتسبب فى كوارث التزاحم ، أكد الدكتور إبراهيم نجم مستشار مفتى الجمهورية، أن دأب النبى صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابة الكرام فى الحج أن ييسر عليهم رحمة بهم، فكان كلما سأله أحد الحجيج عن أمر فيه تيسير عليه قال له: «افعل ولا حرج»، مشيرا إلى أن فى ذلك تنبيها لمن يتصدرون للفتوى الآن فى موسم الحج وقد يضيقون على الناس فى مناسكهم بما يشق عليهم تعنتًا منهم وجهلًا وقد يوقعهم فى الكثير من الكوارث بسبب التدافع والزحام خاصة فى رمى الجمار وغيرها، رغم أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان أرأف بالناس من أنفسهم، وكان يرفع الحرج عنهم. ودعا حجاج بيت الله الحرام إلى مراعاة الالتفات إلى ما أقرته المجامع الفقهية وأفتت به دار الإفتاء المصرية منذ سنوات من جواز رمى الجمرات طوال اليوم، تخفيفا على الحجاج، خاصة فى حالات الزحام الشديد فى هذا الزمان، مؤكدا أن المشقة تجلب التيسير، كما يجب على الحاج استحضار النية والإخلاص ومجاهدة النفس مع الإكثار من الدعاء، وأن أعظم ما فى تلك الأيام المباركة يوم عرفة الذى ينتظره الصالحون، وقد أعدوا السؤال واستحضروا الحاجات فيسألون ربهم تعالى خيرى الدنيا والآخرة، مع تكرار الاستغفار والتلفظ بالتوبة. كما طالب حجاج بيت الله الحرام بالالتزام بالقوانين والقواعد والإجراءات التى وضعتها المملكة العربية السعودية للحجاج، مؤكدًا أنه من دخل إلى بلد من البلاد فعليه الالتزام بقوانينه وتحرم عليه المخالفة، لأن حكومات تلك البلاد لم تضع مثل هذه الضوابط والتشريعات وتمنع ما عدا ذلك إلا لمصالح تُقَدِّرها.