لم أزر اليابان مطلقا. لكن لدى كنز من الأصدقاء اليابانيين متخصصين فى شئون المنطقة تعرفت عليهم فى القاهرة . و كانت الشخصية المفتاح التى قادتنى الى المستعربين اليابانيين هو عالم الاجتماع السياسى "إيجى ناجاساوا" . تعرفت عليه فى منزل صديقنا المشترك الراحل الأستاذ مصطفى طيبة فى عقد الثمانينيات. وكان وقتها مهموما بمشروعين كبيرين : الأول تاريخ اليسار المصرى وعلاقته بالقضية الفلسطينية، ومن ثم كان تردده على منزل صديقنا المشترك . والثانى ترجمة مذكرات عالم الاجتماع الكبير سيد عويس " التاريخ الذى أحمله على ظهري". لكن جهود ناجاساوا واهتماماته أوسع نطاقا من هذين الموضوعين على أهميتهما . فقد كتب عن عمال التراحيل بعدما ترجم مواطنه "نوتاهارا " رواية " الحرام " ليوسف ادريس . كما أنجز دراسات أخرى عن المجتمع المصرى بعضها يتعلق بمثقفينا الكبار كجمال حمدان وأحمد صادق سعد .وأيضا عن الأبعاد الاجتماعية لنظام الرى، والمقارنة بين الجماعات الاسلامية المعاصرة عندنا وحركات اليمين المتطرف فى يابان ما قبل الحرب العالمية الثانية . وكلما التقينا يمدنى ناجاساوا مشكورا بملخصات لأبحاثه وكتبه مترجمة بالانجليزية أو العربية . وفى آخر مرة زار فيها القاهرة دار بينى وبين عالم الاجتماع اليابانى التقدمى هذا حوار شيق.و تبينت منه قلق قطاع واسع من اليابانيين إزاء التحولات الجارية فى السنوات الخمس الأخيرة وبعد ثورات ما أطلق عليه " الربيع العربي". وقد بدا لى ان هذا القلق يتجاوز أولئك اليابانيين المحافظين فى تفكيرهم وتوجهاتهم . ويبدو أن نسبة لايستهان بها من اليابانيين بمحافظيهم وتقدمييهم قد فزعوا من أن مواطنيهم أصبحوا ضحايا لأعمال إرهاب وعنف من سوريا الى عين أميناس بالجزائر ومتحف باردو بتونس. وسواء أكانوا عاملين فى مشروعات تنمية أو صحفيين أو سائحين. ويبدو أن هذا القلق قد ترجم نفسه الى انحسار رحلات الطيران من اليابان الى العديد من العواصم العربية ومنها القاهرة. وكذا بالنسبة لحجم الاستثمارات والمشروعات اليابانية عندنا. وقبل ان يغادر مصر ترك لى ناجاسوا ملخصا بالعربية لبحث مهم أنجزه لمعهد اليابان للشئون الدولية بطوكيو بعنوان : "الشرق الأوسط الأوسط كتحد استراتيجى عالمى: توقعات 2030 والاستجابة لها". وهو يناقش السيناريوهات المستقبلية فى منطقتنا على ضوء ثورات الربيع العربى. وفى هذا البحث يتخطى عالم الاجتماع السياسى حدود الانشغال بمصر ومجتمعها الى الاهتمام بمستقبل النظام الاقليمى فى منطقتها والتساؤل عن فرص مولد نظام اقليمى عربى جديد على ضوء ثورات مطلع القرن الحادى والعشرين. ولقد طرح البحث مقاربتين: الأولى تتساءل هل النظام الاقليمى العربى الحالى قابل للبقاء والاستمرار على ما هو عليه بعد هذه الثورات أم انه سيواجه تغييرات جذرية؟.. والثانية الى أى مدى ستستمر المرحلة الانتقالية الراهنة والتى يحلو للبعض ان يشخصها بالفوضى ؟.وثمة أيضا قضايا كبرى كمستقبل القضية الفلسطينية و الطاقة والحرب الأهلية فى سوريا والاسلام السياسى فى المنطقة. وبين هذا وذاك يبرز التساؤل حول مستقبل إيران والسعودية على نحو خاص. واللافت هنا هو ان البحث يضع تحت الضوء مفارقة صخب الأحداث التى شهدتها مجتمعات عربية فى السنوات الخمس الماضية من جانب ومحدودية النتائج والحصاد والاخفاق فى احداث تحولات جذرية سواء داخل هذه المجتمعات أو على مجمل النظام الاقليمى من جانب آخر. وثمة فى هذا البحث اشارة ذات مغزى الى استمرار الشعور المعادى للسياسة الأمريكية فى المنطقة حتى بعد مايطلق عليه الربيع العربى .ناهيك بالأصل عن آثار انتهاء ممارسة واشنطن لقوتها فى المنطقة بالوكالة عبر نظامى الشاه حتى 1979 وصدام حسين حتى 1990، وقبل الربيع العربى بعقود. ولعل بحث ناجاساوا كان صريحا بدرجه كافيه حين قرر ان التوجهات المستقبلية المعادية لواشنطن فى المنطقة ستظل تستأثر باهتمام الدبلوماسية اليابانية. لكن السؤال الذى ظل قلقا يتعلق بامكانية تطوير او مولد نظام إقليمى مستقر هنا يسمح بعلاقات مستقرة أيضا مع اليابان والغرب. وثمة نقاش عن اخفاق النظام الاقليمى الذى تجسده جامعة الدول العربية والاتجاه منذ الثمانينيات الى استحداث نظم ما (دون اقليمية) مثل مجلس التعاون الخليجى أو طرح مشروعات لنظام اقليميى بديل كالنظام الاسلامى. ولا يمكن فهم القلق والحذر الذى يطبع أوراق هذا البحث من دون العودة الى مقال علمى سابق لناجاساوا بعنوان " مستقبل أنظمة مابعد الاستعمار فى الوطن العربى". وقد انتهى منه الى القول بثلاث موجات للثورات فى تاريخ العرب الحديث .أولاها مع الحرب العالمية الأولى وفى اعقابها وثانيتها بعد الحرب العالمية الثانية .وثالثها تلك المعاصرة مع العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين . والأهم انها جميعا لم تنجز بعد مهمة بناء الدولة الوطنية وأن مستقبل هذه الدولة فى منطقتنا معلق أيضا بمولد نظام اقليمى جديد.وبين القلق من استمرار الأوضاع التى استدعت اندلاع الثورات والقلق أيضا من عواقب ثورات لا تنجز تغييرا سريعا وحاسما تدور هذه الأفكار اليابانية. بالطبع نعيش مرحلة مخاض عسير. [email protected] لمزيد من مقالات كارم يحيى