وصل الى القاهرة الأسبوع الماضى المستعرب اليابانى "إيجى ناجاساوا" فى زيارة صيف قصيرة ، أهدى خلالها نسخا من كتابه " بورتريه مصرى : شخصية مصر لجمال حمدان ونظام الرى فى مصر الحديثة " والصادر عن دار " هيبون شا" بطوكيو الى أسرة مفكرنا الراحل . "وناجاساوا" عالم اجتماع مغرم بمصر ، وقد تعرفت عليه فى عقد الثمانينيات بمنزل الصديق الراحل "مصطفى طيبة" حيث كان يعد لدراسة عن اليسار المصرى والقضية الفلسطينية . ومنذ ذلك الحين أصبح بالنسبة لى بمثابة نافذة على جهود واتجاهات الاستعراب اليابانى ، أو ما يطلق عليه فى جامعات اليابان بحكم الموقع الجغرافى "دراسات جنوب غرب آسيا" . ومع ان "ناجاساوا" أنجز أول أبحاثه فى مطلع الثمانينيات عن عمال التراحيل، مقتفيا اثر مواطنه "نوتاهارا " الذى ترجم رواية "الحرام " لأديبنا يوسف ادريس الى اللغة اليابانية ، إلا انه اتجه الى الإهتمام بأحوال المثقفين المصريين وقضايا الفكر العربى المعاصر . وقد صدر له من القاهرة فى عام 2009 كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان :" مصر المعاصرة بعيون يابانية ". ويعطى الكتاب فكرة جيدة عن اسهامات هذا المستعرب المخضرم .ويتضمن ترجمة من اليابانية لعدد من أبحاثه عن الثقافة والتاريخ فى بلادنا ، وأيضا لدراسات عن جهود أجيال سابقة من المستعربين اليابانيين . فضلا عن دراسة مقارنة شيقة بين الجماعات الإسلامية فى مصر و حركات اليمين المتطرف فى اليابان قبل الحرب العالمية الثانية وموقفهما من مسألة الحداثة . وقبيل وصوله الى القاهرة هذه المرة بعث "ناجاساوا" الى بريدى الالكترونى بترجمة عربية لمقال علمى كتبه أخيرا بعنوان:" مستقبل أنظمة ما بعد الاستعمار فى العالم العربى ". وقد قام فيه بتقسيم الثورات التى عرفها العرب منذ الحرب العالمية الأولى الى ثلاثة أجيال. وكأنه بذلك يستكمل حوارا أجريته معه خلال زيارته السابقة فى الربيع الماضى عن رؤيته للثورات العربية وكذا الاستعراب الياباني. وفى هذا الحوار قال ان إهتمام المواطنين اليابانيين بمجريات الثورات العربية تذبذب على مدى أكثر من ثلاث سنوات صعودا وهبوطا .ويوضح :" بدأ الأمر فى عام 2011من زاوية سياسة تتعلق بمستقبل الديمقراطية فى هذه المنطقة .ثم لاحقا تحول الى الشئون والهواجس الأمنية ،خصوصا مع حوادث من قبيل مقتل الصحفية اليابانية (ياماماتو ميكا) فى سورية سبتمبر 2012 و عشرة مهندسين يابانيين فى جنوبالجزائر يناير 2013 . وفى كل الأحوال كانت أحداث محلية تطغى على الاهتمام بالثورات العربية .وهذا من قبيل زلزال مارس 2011".وأكد "ناجاساوا" أن الرأى العام اليابانى لم يعرف انشغالا بالعالم العربى مثل هذا الذى عاشه مع أزمة حظر تصدير البترول فى عقب حرب 1973 ، وحيث دخلت منطقتنا وهمومها الى كل بيت يابانى بسطوة الاقتصاد. وعلى الرغم من انحسار الاهتمام وتذبذبه فقد صدر أكثر من عشرة كتب باليابانية عن الثورات العربية .وكان من بينها كتاب ل" ناجاساوا " نفسه بعنوان :" الثورة المصرية ومستقبل العالم العربي". كما أصدرت مجلة " الفكر المعاصر " اليابانية وهى من دوريات الصناعة الثقافية الثقيلة هناك عددا خاصا عن ثورات العرب، ومبكرا فى إبريل 2011. ولم يحل شهر ديسمبر من العام نفسه إلا وشهدت جامعة طوكيو حيث يقوم "ناجاساوا " بالتدريس مؤتمرا بعنوان :" ذكريات نجيب محفوط وثورة مصر " ، وذلك بمناسبة مائة عام على ميلاد أديبنا الكبير . وبهذه المناسبة أيضا صدرت باللغة اليابانية ترجمة كاملة لثلاثية محفوظ قام بها المستعرب " هاناوا هارو ". وبحلول العام الماضى 2013 صدر للمستعرب "سوجيتا" كتاب يناقش كيفية فهم اليابانيين لألف ليلة وليلة و تأثيرها على الأدب اليابانى منذ القرن التاسع عشر . وهكذا بين السياسة والثقافة تسير الأمور بالنسبة للعرب فى اليابان كما يفيدنا "ناجاساوا " الذى لا يؤمن بمصطلح " الربيع العربى ". ويقول :" هذا المصطلح غير مناسب لعدة أسباب . منها انه موسمى . وكذا لأنه يعكس نظرة غربية الى الديمقراطية . فقط انا أرى ما يجرى على أنه ثورة . وهذا يعنى تغييرا طويل المدى ومتعرجا فى مساراته . ويتضمن موجات متتالية من الثورة و الثورة المضادة " ويضيف:" معظم ثورات أوروبا فى القرنين الثامن والتاسع عشر فشلت .ثم حدث التغيير السياسى الكبير هناك فى النهاية قبيل القرن العشرين بقليل . وأنا مع فكرة أن الثورات العربية ستحتاج الى عشرات السنين حتى تحقق تغييرا كبيرا ". ولما سألت "ناجاساوا" على نحو مباشر هل فشلت الثورات العربية ؟، أجابنى على الفور :" لم تفشل .. فقط هى كشفت وتكشف عن مشكلات كبيرة فى المجتمعات العربية منها الإسلام السياسى والحكم العسكرى . ولاشك فى ان شعارات الثورات العربية من حرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية مترابطة.لكن يظل (العيش ) هو الموضوع الأهم و للمسألة الإقتصادية الأولوية . وهناك أمل دائما فى استكمال أهداف الثورة مع كل الصعوبات والمشكلات والتعقيدات" . ويضيف :" بعد ثورة 30 يونيو فى مصر وفى ظل تداخل بين الثورة والثورة المضادة يتمنى الكثير من المصريين قيادة كارزمية جديدة على غرار محمد على وجمال عبد الناصر . وحقيقة فإن الأوضاع الاقتصادية صعبة وتدفع نحو الطلب على شخص قوى يحكم البلاد . لكننى شخصيا لا أراهن كثيرا على هذه الفكرة . هى ستأخذ وقتها . وأعتقد ان المصريين سيكتشفون الحاجة الى تفكير جديد يقوم على إصلاح اجتماعى كبير من أسفل ..أى من داخل المجتمع نفسه وبقواه الذاتية ". وفى مقدمة كتابه عن "جمال حمدان " تحدث " ناجاسوا" عن انحياز مفكرنا الموسوعى الى حلم عبد الناصر فى الاشتراكية والقومية العربية . واعتبر أن لهذا الحلم جذورا فى الطبيعة التعاونية للمجتمع الريفى ونظام الرى فى مصر . لكن المستعرب اليابانى أشار أيضا الى أن "حمدان " اضطر للاستقالة من الجامعة فى زمن عبد الناصر لأسباب سياسية تتعلق بغياب الديمقراطية و بالتدخلات البوليسية والمحسوبية. كما نبه الى أن حلم حمدان بالاشتراكية والقومية العربية يستحق النظر والمراجعة فى عهد الثورات العربية الآن وفى اتجاه التحرر من الاستبداد والقهر. وبالأصل فقد تحدث مؤلف الكتاب عن تبنى "حمدان " لنظرة نقدية تجاه اشتراكية عبد الناصر وقوميته العربية فى الستينيات رغم إيمانه بالحلم. وينتمى "ناجاسوا" ( 61عاما ) الى الجيل الثالث من المستعربين اليابانيين . وطالما تذكر استاذه " أوداكا " صديق عالم الاجتماع المصرى الكبير الراحل " سيد عويس " . ولذا فإن من بين مشروعاته ترجمة السيرة الذاتية لعويس المعنونة ب " التاريخ الذى أحمله على ظهري"وفاء لذكرى أستاذه اليابانى ولأهمية هذه السيرة كدراسة حالة للمثقف المصرى المعاصر كما يقول. و"ناجاسوا" يؤرخ لمولد الجيل الأول من المستعربين اليابانيين بالسنوات السابقة مباشرة للحرب العالمية الثانية .وكان من أبرز رموز هذا الجيل " إزوتسو" الذى اهتم بالفلسفة الإسلامية وقارن بين التصوف عند المسلمين والتيارات المشابهة فى الصين والهند. كما أنجز ترجمة القرآن الكريم الى اليابانية فى عقد الستينيات. وعندما سألته عن الجيل التالى له من المستعربين اليابانيين ( الرابع) ، قال " ناجاساوا" " :" هذا الجيل استمرار لمن سبقه .لكن الجديد هو هذا التوجه الى الدراسات النسوية من باحثات يابانيات .وكذا الاهتمام الملحوظ بالأنثربولوجيا فيما ركزت الأجيال السابقة أكثر على الأدب وعلم الاجتماع ". وأضاف :" الآن يتقدم باحثون شبان فى العلوم السياسية تعتمد دراساتهم على استطلاعات الرأى والتحليل الاحصائى . ولعل فى كل ذلك ما يعطى صورة مبسطة عن الاتجاهات الجديدة فى الاستعراب اليابانى ".